ربما لا ينبغي أن ننهج هنا النهج التقليدي الذي يبدأ بالتساؤل عما إذا كان في العالم العربي من يستحقون أن ينعتوا بالفلاسفة. لذلك لن نتساءل عما إذا كان العالم العربي يعرف الآن فلاسفة بالمعنى التقني للكلمة. إذ إن هذا النوع من التساؤلات لا يفضي إلى أجوبة، وغالبا ما يطرح أسئلة أخرى أشدّ تعقيدا. إلا أن أكثر الأسباب أهمية لاستبعاد هذا التساؤل في نظرنا، هو أن الفلسفة ليست مجرد أسماء أعلام، ولعلها ليست أساسا أسماء أعلام، ولا حتى مجرد فرع من فروع المعرفة، بقدر ما هي "مناخ" فكري. وعلى رغم ذلك، فحتى إن نحن لم نتساءل عن الفلاسفة واكتفينا بالتساؤل عن هذا "المناخ"، فلن يكون جوابنا متيسّرا في طبيعة الحال، إذ إنّ عوائق متشعبة تحول دون توفّره. فالفلسفة تعاني في عالمنا العربي من عوائق كثيرة، لعل أهمّها المناخ الثقافي والأيديولوجي الذي تعرفه كثير من الأقطار العربية، والذي لا يظهر أنه مناسب حتى الآن للفكر المبدع الخلاق. أشير هنا إلى ما يمكن أن ننعته بالحصار الذي يضرب ضد فعالية العقل، ذلك الحصار الذي تتعدد أسبابه وتتشعب.
لعل أهم الشروط لتوفير مناخ فلسفي، هو فسح المجال للجدال والمحاجّة اللذين يقبلان باختلاف الآراء وتضاربها. فلا فلسفة ممكنة إلاّ إذا سلّمنا بأن جميع الأسئلة والقضايا يمكن أن تكون موضع جدال مفتوح. نقضي على التفكير الفلسفي لحظة إيقاف ذلك الجدال باسم عامل يَخرج عن آلية الجدال ذاتها، وباسم سلطة ليست هي سلطة العقل. حتى سلطة العقل هذه لا ينبغي أن نفترضها مَحكمة عليا وشيئا متعالياً بعيداً من عملية الجدال الذي يُملي القواعد، ويرسم الطريق. إنّها، على العكس من ذلك، محايثة لذلك الجدال متصلة به. بل إنها لا تنمو إلا في ثناياه، ولا وجود لها خارجَه، وهي ليست في نهاية الأمر، إلا تلك التقنيات الذهنية التي تختص بها ميادين معيّنة للتجربة والمعرفة. معنى ذلك أن العقل ليس مبادئ تُملَى وقواعد تُطبّق، وإنّما حياة تمارس، وتقنيات تُنظم وفقها الأفعال والأقوال، والتجارب والمعارف، كي تجد هذه كلُّها التعبير عنها في لغة ملائمة تكون موضع عمليات ذهنية خاضعة لقواعد تتحكم في لعبتها. إذا سمحنا إذن لعوامل خارجية بأن تتدخل في هذه «اللعبة»، حِدْنا عن التفكير الفلسفي، وقضينا على العقل وخنقنا العقلانية. معنى ذلك أن سمة الانفتاح وعدم الانغلاق، -نقصدُ الانفتاح على المستقبل وعلى الآخر-، شرطٌ أساس، لا لاستمرار التفكير الفلسفي وانتعاشه فحسب، وإنما حتى لميلاده ونشأته.
فضلا عن ذلك، فإن من جملة العوامل المحددة لتوفير ما دعوناه مناخا فلسفيا، ما ورثناه، أو على الأصح شكل التقليد الذي أوّلنا به تراثنا ورسّخناه. لا غرابة أن تزدهر خلال الربع الأخير من القرن الماضي أشكال متعددة لما عرف بنقد العقل العربي الاسلامي. لن أعود إلى هذه الأشكال لاستعراضها جميعها، وسأكتفي بالرجوع إلى ما كتبه واحد من أهم من طرقوا المسألة بهدف تحليل ما يمكن أن ننعته بما ورثناه من عوائق ذاتية حالت دون استعمال العقل، وخنقت ذلك المناخ. أشير هنا إلى كتاب "مفهوم العقل" لعبد الله العروي الذي كان قد ظهر سنة 1996.
يبدو لنا أن تحديد طبيعة ما يسميه العروي "الذهنية الكلامية"، هي ما يشكل جوهر هذا الكتاب. يميّز العروي بين الموقف الكلامي أو المنهج من جهة، ثم الذهنية من جهة أخرى. الموقف يشير إلى نوعية التعامل مع النصوص وتناول الأسئلة والوقوف عند الأجوبة. أما الذهنية فهي تتعدى علم الكلام لتغدو إبيستمي ثقافة بكاملها. ذلك أن الأصل الذي انْبَنَت عليه العلوم الإسلامية بأكملها هو أن العلم واحد لا يتبعض ولا يتفاضل ولا يتحوّل. وهذا الأصل تقرّر في علم الكلام ومنه انتقل إلى العلوم الأخرى. لذا فالذهنية الكلامية عامة يخضع لـها الفيلسوف والباطني والفقيه والمتصوف، ولا تقتصر على علم الكلام. ومن أهم مميزاتـها أنها لا تكتفي بتحديد العقل بالمعقول، بل تجعل الثاني سابقا على الأول. وهذا المعقول السابق على العقل الذي يحلّ فيه ولا يتولد عنه هو "العلم" بالمعنى المطلق. هذا المعقول يعرف باسم خاص في كـل مذهب وهو يسمـى الخبر، أو الحكمة، أو السنة أو التقليد، أو سر الإمام، أو الكشف. هذا المعقول مستقل لا يتوقّف على طريقة تحصيله. فليس طلب العلم والحالة هذه بحثا وتقصّيا. كما أن العقل الفردي ليس منبع المعقولات ولا مصدر المعارف. متى تـهيأ هذا العقل الفردي حلَّ فيه العلم بصورة مكتملة مباغتة نـهائية. وما يقال عن تدرّج لعقول الفلاسفة لا ينبغي أن يفهم على أنـه درجات من وعي العقل بنفسه، وإنّما هي "شخوص على مستوى واحد من الوجود في الكون". ليس المنطق والحالة هذه، أداة ومنهجا وقواعد لبلوغ العلم اليقين. ذلك أن العلم اليقين سابق على العملية المنطقية. لا فرق هنا بين الوجود وما يقال عنه وما يتوصل به إلى معرفته، والعقل مرآة ينعكس فيها الحق المطلق.
يرى العروي أنه حتى ابن خلدون، رغم أنه أعرض عن علم الكلام، وتوخّى تأسيس علم الواقعات، ومع أنه توصل إلى مفهوم العقل التجريبي المرتبط بالصنائع، وقف في المجال الذي ابتدعه حيث وقف غيره في ميدان الكلام. إنه لم يتصور أن يصبح العقل التجريبي عقل إنشاء وإنجاز. لقد حصر ابن خلدون التاريخ واستبعد إمكان التجديد بمعاكسـة سنن الكون. إنه جعل العقل محاصرا. "قانون تفكيره هو التوقيـف والحصر في كل المجالات: في السياسة، في العلم، في التعبير… موضوع العلم الحق، العلم اليقيني عنده هو الواقعات، أي الحاصل المحقق بالفعل، وأما المقدّر المتوهم المحتمل فهو وهم. والوهم لا يُحَد فلا يُعلم". لقد أبدل ابن خلدون العقل التجريدي بالعقل التجريبي، فكان مجدّدا في ذلك. إلا أنّه لم يستطع أن يطوّر هذا العقل الثاني إلى عقل يعمّ كل أوجه الممارسة بـما فيها من انفتاح ومخاطرة واعتبار الممكنات نسيجا للوقائع ذاتـها.
اعتبار الواقع منطويا على ممكنات فكرة حديثة، بل ربما تشكل أساسـا من أسس الحداثة ومؤداهـا أن ما ليس الواقـع لا ينبغي أن يكون بالضرورة أمرا متعاليا يجيء إليه من خارج، بل إنه حالّ فيه محايث له. بلغـة فيزيائية نقول إن الواقع هنا ينطوي على قوى تغييره. إنه ينطوي على قوة، أي أنه طاقة Potentialité وجهد واندفاع وممكنات. فكيف السبيل إلى فتح العقل على هذا الواقع المنفتح؟ كيف السبيل إلى "خلق" ما دعوناه مناخا فلسفيا؟ جوابنا أن ذلك لن يتحقق إلا بتغيير تلك الذهنية، وإرساء أسس عقلانية منفتحة لا تعتبر العقل مجرد وعاء، ولا تنظر إلى المعقول على أنه يتقدم الفعالية العقلية، وإلى الواقع في جموده، كما لا تعتبر الممكن مفارقا للواقع متعاليا عليه. من أجل ذلك، علينا أن ننفتح على "الدرس" الفلسفي المعاصر، ونفتح دراساتنا الأدبية والتاريخية والنفسية واللغوية والاجتماعية والتربوية على الفلسفة، أي على الثورات الفكرية المعاصرة كما تمت عند فرويد ونيتشه، وفلاسفة اللغة، ومدرسة الحوليات... الأمر الذي يحقق غرضين اثنين: متابعة فعلية للحداثة الفلسفية، وفتح النوافذ لكي تتمكن الفلسفة من أن تغدو مناخا عاما وتقتحم حياتنا ومدارسنا ومجتمعاتنا حتى إن ظلت الأبواب الكبرى ضيّقة الانفتاح.
عن مجلة: "المجلة"