محمد الحيحي، ذاكرة حياة.. الأثر الطيب والتأثير المستدام

محمد الحيحي، ذاكرة حياة.. الأثر الطيب والتأثير المستدام
نظمت حلقة الوفاء لذاكرة محمد الحيحي، لقاء لتقديم  كتاب بعنوان "محمد الحيحي.. ذاكرة حياة" لمؤلفيه د. جمال المحافظ وذ. عبد الرزاق الحنوشي  الأربعاء 15 ماي 2024 ضمن فعاليات الدورة 29 للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط، وذلك بحضور مكثف ونوعي، لشخصيات وازنة  وفعاليات من المجتمع السياسي والحقوقي والجمعوي والنقابيو التربوي والإعلامي وفعاليات من الحركة النسائية والشبابية، من أجيال مختلفة منها من عايش محمد الحيحي أو تشبع بالقيم التي نافح عنها، غص بهم رواق المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي.
ساهمت في تقديم وقراءة هذا الكتاب الأستاذة الجامعية خديجة مروازي الحقوقية ومن بين مؤسسي العضو حلقة الوفاء لذاكرة محمد الحيحي. وفي ما يلى نص هذه المساهمة:
 
"بداية أعبر عن شكري وامتناني لأصحاب هذه المبادرة الراقية، الصديقين عبد الرزاق الحنوشي وجمال محافظ على هذا الإصدار الذي تتأتى أهميته لأكثر من سبب واعتبار، إن إعداد إصدار يتضمن شهادات في حق محمد الحيحي لا يحتاج إلى مناسبة ولا إلى مسوغات، بل يلزمه فقط ملأ الرئتين بالأكسجين وأخد نفَس عميق والتعبير ارتياحا بالقول: وأخيرا جاءت المبادرة وتتوجت بهذا الإصدار "محمد الحيحي ذاكرة حياة 1928-1998". 
 
إصدار من هذا القبيل، في حق شخصية من قبيل محمد الحيحي يتجاوز إقرارَ وتوطينَ نبل الاعتراف لرجل من رجالات المغرب الممكن بما أسداه للوطن وللمواطنات والموطنين من مهام، ما يزال أريجها ممتدا عند من توالى من أجيال. 
 
تواصل الأجيال
 
وكما تتأتى قيمة هذا الإصدار من وفاء وتفاني مؤلفيه، "أصحاب هذه المبادرة"، تتأتى أيضا من المساهمين فيه، أصحاب الشهادات بما يعكس تواصل الأجيال، وكلاهما تعرف على محمد الحيحي وعايشه في أكثر من محطة ومجال.
 
فالمتصفح للكتاب والقارئ له والمتأمل في ثناياه، بقدر ما يكتشف حجم ووزن من أدلى بالشهادات في حق محمد الحيحي، بقدر ما يفاجأ بالتقاطعات المذهلة بين مختلف تلك الشهادات. وكأنها كتبت بيد واحدة ومن ذاكرة واحدة وبقلم واحد. حيث يتناوب على الشهادة كل من الأديب، والناقد والشاعر وأستاذ الاقتصاد والقانون والفلسفة ورجل المحاماة والصحفي ... ورغم التمايزات القائمة بين مجالات الاختصاص وأهله يتحقق التناغم والانسجام الناظم لخمسين شهادة مؤطِرة لمحتوى هذا الكتاب.
 
ويتجلى ذلك في المعجم المتواتر ضمن تلك الشهادات من الوفاء إلى التضحيات والعطاء مرورا بلمِّ الشمل والانتصار للوحدة على التفرقة والتشتت. وإن كانت كل شهادة تضيء عطاء محمد الحيحي في مجال معين أو خلال محطة محددة، فالقيم التي يشهد له الجميع بها هي نفسها.
 
الانتصار للوحدة
 
جميعنا يدرك بأن إعداد شهادة في حق شخص ما، ليس بالأمر الهين والمتاح دوما، الشهادة هي لحظة صفاء قصوى ذهنيا ووجدانيا، هي حشد للذاكرة، واستدراج للتفاصيل وفرز للأهم من المهم، وتوقف عند  الخاص والعام في تجاورهما لحد التماس، ولكي تستقيم الشهادة  ليكن لها شرف الاقرار بكونها السهل الممتنع، وأحد أنواع الكتابة الأكثر انفلاتا وتباثا في الوقت ذاته عند تركيب الحكي، وأشدها تمنعا عن التصنيف، وذلك لسبب بسيط هو كون كل شهادة تمتح من حياة صاحبها أولا وأخيرا ولا تحيل على غيرها، حيث لا حضور قسري  للعام  ولا للسياقات إلا بقدر حضور المحتفى به فيها وضمنها، ليس حضور العابر بل الفاعل صاحب الأثر والتأثير، وهو حال محمد الحيحي الأثر الطيب والتأثير المستدام الذي وسم وما يزال وسمه متدفقا  اليوم بوجدان الأجيال ضمن كل من العائلة السياسية والحقوقية والتربوية.
 
ولأن محمد الحيحي تجربة حياة اشتبك فيها الرجل مع أكثر من مجال، ولأن تلك المجالات التي رسمت مسار حياته جميعها حاملة للتحديات ومنصهرة مع الاكراهات، فقد جاءت الشهادات أيضا حبلى ومعبرة عن المبادئ والقيم الضامنة لاستمراريته ضمن نفس المسار بنفس الثبات والطاقة والإصرار.
 
قد يحدث ونصادف بعضا من الفاعلين ينتمي ويساهم في أكثر من مجال، لكن حين يكون المرء من مواليد نهاية العشرينيات من القرن الماضي، وينشغل مند وقت مبكر بقضايا التربية والتكوين، ويدشن للحق في الترفيه ويبدع الصيغ الملائمة وغير المتاحة من أجل تقاسم الفكرة وتعميمها وتوطينها في كل جهات المغرب، ويعمل على تعبئة الشباب والأطفال جيلا بعد جيل لاحتضانها والانخراط فيها، فهو ما يؤشر على وعي استباقي وعقل نسقي مدرك للأولويات والرهانات المطروحة على مغرب فجر الاستقلال وعلى مرحلة الستينيات تحديدا.
 
لم يكن من الصدفة في شيء أن يكون محمد الحيحي كما تضمنته الشهادات من القيادات الشبابية الأولى المنخرطة في مجال السياسة، ومن الرواد الأوائل والقلائل في مجال التربية والتكوين وبناء الفعل الجمعوي ومأسسته، ومن المؤسسين البارزين لفكرة وحركة حقوق الانسان وامتداداتها.
 
معلمة انسانية
 
محمد الحيحي شخصية تعرف كيف تجعل الوطن والمواطنة، والمحلي والكوني جميعها ممكنات تزهر في انسياب طبيعي من دون تكلف أو تنافر أو احتكاك.
 
وإذ يعرف الرجل كيف يبني الجسور بين كل تلك المجالات ويكون الخط المكوكي الرابط بينها، فهو يدرك أيضا كيف يحافظ على المسافة المطلوبة بين مجال ومجال. مصرا بصرامته المنسوجة بكثير من اللين والعطف والصفاء، موضحا على طريقته التي تذيب كل تربص، الخصائص والخصوصيات التي تعزز هذا المجال عن ذاك وفق ما يتطلبه من لغة وصيغ فعل وآليات، كل ذلك من دون ضجيج أو مشاحنات.     
 
ولأن جميع الشهادات أكدت على انتظام الفعل النضالي والمسار الكفاحي لمحمد الحيحي وفق سند ثلاثي الأبعاد عناوينه الرئيسة هي الوفاء لقيم العدالة والكرامة والحرية والمساواة، والانتصار للوحدة والسمو بها كجواب أصيل على التشتت والتجزيئ. والانشغال الضاغط بلمّ الشمل والتعاضد والاخاء. وهي القيم التي شكلت حسب الشهود والشهادات متكئه المرجعي وبوصلة لسلوكه اليومي، والذي كرسته جميع الشهادات وكأنها صيغت باليد الواحدة وبالعقل والقلب المتوحدين. وهي قيم تراكمية ودينامية حين ترتبط بمن يقدر كمحمد الحيحي على صهرها وجعل التماس بينها متاحا بشكل سلس فكرا وسلوكا ووضعيات، فهو الوفي المنتصر للتضامن والوحدة وفي سعي حثيث ودائم للمّ الشمل والتعاضد. هذا الإصدار وهو يرصد ملامح شخصية محمد الحيحي ويعدد خصاله ومناقبه ويتقفى أثره المسترسل بين أكثر من مجال وجيل. 
 
منطلق لبعث النقاش
 
هذا الإصدار وهو يرسم بورتريها مميزا لرجل أكثر تميزا بخصاله وأخلاقه وعطائه وتوازنه وصموده وشموخه في اتفاقه كما في اختلافه معك، يجعلنا أمام معلمة إنسانية توازي المآثر الخالدة، معلمة خاضت أكثر من معركة بناء كسب فيها قلوب جيل بعد جيل من الأطفال والشباب.
 
اليوم، في سياق محلي يتنامى فيه عدد الأحزاب كل عام من دون أن يحدث تقبا يلطف من انحباس الجو العام، اليوم، في سياق يعرف انبثاق الجمعيات كل شهر دون أن يحدث الكثير منها ذلك الفرق ولا الفارق اليوم في سياق يتحول فيه الكلام عن التطوع إلى أسطوانة من أسطوانات الزمن الجميل، في سياق تلتبس فيه هشاشة المنجز بصلابة الانتظارات واستعصاء تحقق المطلوب، طرح اليوم بحدة سجلات الأسئلة الشقية: ما الحال وما المآل؟  لماذا الأثر والتأثير يبدو محدودا لكل هذا التراث؟
 
لن أعيد استنطاق الشهادات فهي متاحة بين ثنايا هذا الإصدار، لكن أعيد القول بأن هذا الكتاب مفيد وهو يوثق لشخصية محمد الحيحي بأبعادها الانسانية ومسيرتها النضالية، والكتاب مفيد وسيظل كذلك وبشكل مضاعف حين يشكل منطلقا لبعث النقاش العابر للفضاءات، بما يجعل منه نقاشا مجتمعيا بشأن ما يطرح من أسئلة مقلقة حول كل هذا الانحباس الذي طال المجالات الثلاثة التي شكلت بالنسبة لمحمد الحيحي مبرر وجوده النضالي، ونحن نستحضر هنا والآن ما يلزم وطنيا من حاجة لبعث لتلك الأسئلة التي تخص تحسين شروط الوجود، قد نبدو جميعا خارج السياق والتاريخ حين يغيب عنا ما يجري إقليميا ودوليا بالنسبة لمن يصارع وما يزال... ليس من أجل تحسين شروط الوجود بل من أجل الوجود وتحدي الإبادة، هناك بغزة وبكل فلسطين.