تقول الحكاية زار" زوجان من إحدى المدن الهندية أحد أقاربهما في الريف رفقة ابنهما الصغير أثناء رحلة العودة، سأل أحد الوالدين الطفل إذا كان استمتع بيومه؟ أجاب الطفل: نعم، أبناء عمومتي لديهم كثير من الأصدقاء، وقد لعبنا معا طيلة النهار. وعندما سأله من: جديد هل كانت هناك فتيات بينكم، أم كنتم مجرد ذكور؟"، رد الطفل الست أدري، فقد كانوا جميعا عراة.""
الجسم العاري، بالنسبة إلى هذا الطفل، لا هوية. له فاللباس هو الذي يحمل الجسم دلالات ويعطيه معاني فيعيّن جنسه ويحدّد انتماءه ويرسم هويته. هذا ما كان هيغل كتبه: "اللباس هو ما يصبح به الجسم الا الملبس مثل اللغة معان ودلالات فهو يعبر عن مواقفنا ويدل على مرتبتنا الاجتماعية وانتمائنا الطبقي، بل إنه يحدد هويتنا السياسية والثقافية و الدينية)، إن لم يكن جزءا منها. في استطاعتنا أن نجزم أن الأفراد، قبل أن يتبادلوا الكلام يتبادلون معلومات شخصية واجتماعية من طريق ما يرتدونه من ملابس حتى وإن اقتصرت تلك الملابس على مجرد رسوم ووشوم أو كتابة تغطي الجسد، فحتى هذه، كما كتب أحد علماء الاجتماع "علامات هوية" تجعل الجسد يعني ويدل. إنها "لباس."
اللباس لغة وعلامات. هذه العلامات تحيل إلى مواقف، وتعبر عن آراء، كما قد ترد إلى أحوال نفسية، واهتمامات عملية بل إنها تحيل إلى مكانة ضمنا للتراتبية الاجتماعية، فتميّز بين طبقات وأجيال. هذه العلامات تتحدد، مثل علامات دوسوسور، في علاقاتها التفاضلية، من حيث تحكمها الفروق والاختلافات، أي أنها لا تجد مبررها أساسا في الطبيعة أو في العقل.
لعل المجال الاجتماعي هو أوضح ميدان يتضح فيه هذا الطابع التمييزي للباس فاللباس يميز بين أجيال وبين فئات ومهن. وهنا نلمس تقسيما للعمل على مستوى الملبس، موازيا لتقسيم العمل الاجتماعي إلى عمل فكري وآخر يدوي. وقد سبق لأمبرتو إيكو أن لاحظ أن من الملابس "ما يفرض عليك أن تعيش من أجل الخارج"، فيبعدك عن ذاتك، ومنها ما يعيدك إلى حياتك الباطنية. هناك ألبسة فضفاضة تترك للجسد" حرية الحركة، وللفكر فرص العمل، وفي مقابلها ملابس "تلبس صاحبها، وهي ملابس عملية كتلك التي يحملها رجال المطافئ والجنود والرياضيون يبين أمبرتو إيكو كم ناضل المفكرون الغربيون خلال قرون للتخلص من اللباس الضيق: فبينما كان الجنود يعيشون خارجا مغلفين داخل لباسهم وأقنعتهم، فإن رجال الدين المسيحيين قد أبدعوا ملابس كانت تنسى الجسد وتترك له مجالا للحركة وفضاء للحرية."
بعيدا من هذه التحديدات الوظيفية، قد يحمل اللباس علامات تتحدّد بعلاقات قوة فيما بينها. وهنا يتخذ اللباس دلالات سياسية واضحة، إلى حدّ أنه يغدو وراء أزمات ديبلوماسية وتوترات بين الدول فيكفي، على سبيل المثل، أن يثار جدال حول الحجاب في أقسام الدراسة كي يتّخذ الأمر بعدا سياسيا قد يرتفع إلى مستوى أزمة ديبلوماسية بين دول وما بالك عندما تلتقي قضية الملبس بقضايا كرة القدم، وهما وكرا السياسة بلا منازع في عالمنا المعاصر تلك) كانت على سبيل المثل حال الفريق الأوكراني الذي وضع على قميصه خريطة أوكرانيا التي تضم شبه جزيرة القرم، وأخيرا حال قميص الفريق البركاني الذي أجازت الفيفا حمله.
أدرك بعض القادة السياسيين هذا المفعول السياسي للباس فوظفوه تحقيقا لأهدافهم. لعل أشهرهم زعيم "الثورة الثقافية في الصين، ماو تسي تونغ، الذي كان قد سنّ قانون اللباس الموحد ذي الألوان المحايدة، تعبيرا عما تنشده الثورة من توحيد وقضاء على الفروق الطبقية والظاهر أن هذا الاقتران بين الأيديولوجيا الثورية واللباس الموحد، لم يكن ينتظر القرن العشرين، و"الثورة الثقافية". يَذكُر مؤرخو اللباس الألماني برنار كريستوف فاوست الذي كان معجبا بنظرية روسو التربوية والذي كان يهدف إلى إصلاح النظام الاجتماعي من طريق إصلاح اللباس"، فتوجه سنة 1792 إلى الجمعية الوطنية للمطالبة بلباس حر موحد ووطني للأطفال."
في استطاعتنا، والحالة هذه، أن نربط تاريخ الشعوب بتواريخ ألبستها. لنتوقف، مثلا على ذلك، عند بعض الملاحظات التي يجملها المؤرخ عبد الله العروي حول تطور اللباس في المغرب الأقصى. يلاحظ العروي أن اللباس المغربي تطور في انسجام مع التوجه السياسي للبلاد. فعندما كان المغرب منفتحا على التيارات الخارجية، اتخذ اللباس طابعا متوسطيا فأندلسيا فعثمانيا. وعندما كانت البلاد تنغلق على نفسها، كان المغرب يفضل أن يلبس لباسا مميزا فعند بداية القرن التاسع عشر أقر السلطان مولاي سليمان اللباس الذي كان يعتقد أنه لباس النبي، إيمانا منه بأن الاهتداء بالسنة النبوية ينبغي أن يشمل جميع مظاهر الحياة بما فيها الملبس. إلا أن بداية القرن العشرين عرفت في عهد السلطان عبد العزيز، وتحت تأثير الأتراك، إصلاحات محتشمة وتحولا في هذا المضمار. وعندما قامت الحركة الوطنية ضد الاستعمار اتخذ زعماؤها في البداية الجلباب الريفي في البداية، وهو جلباب مائل إلى القصر، وذلك إعجابا بثورة عبد الكريم الخطابي، إلا أنهم سرعان ما حولوه إلى جلباب بورجوازي ذي طابع حديث، وهو الجلباب المعروف اليوم الذي أشاعه الملك محمد الخامس، وهو الذي أخذ يُعرف باللباس "الوطني". وعلى الرغم من ذلك، فإن بعض قادة الحركة الوطنية أنفسهم، وخصوصا أولئك الذين تشربوا منهم الثقافة الغربية، لم يجدوا حرجا في أن يجلسوا أمام مائدة المفاوضات حول استقلال المغرب باللباس "الأوروبي."
هذه الازدواجية لا تزال إلى اليوم تطبع اللباس المغربي على العموم. فأنت ترى الشخص نفسه يلبس اللباس "الوطني" في محافل بعينها تأكيدا لهويته الثقافية أو الدينية أو السياسية، ويلبس غيره في مناسبات أخرى. فاللباس لا يزال عند المغاربة، كما عند غيرهم يتحدد بعوامل تفوق المهنة والرتبة والجنس، ويتخذ دلالات سياسية، بل وأحيانا أنطولوجية تمس الذوات وتحدد الهويات. بل إن "علمانية" الملبس ذاتها قد أخذت تتراجع في فضاءات متعددة ليعود للباس معنى يتجاوز السياسة والمجتمع، وليضع الإنسان، لا ضمن تراتبية اجتماعية فحسب، وإنما ضمن تدرّج كوسمولوجي ومقامات كونية.
عن مجلة: "المجلة"