إن من شأن تفعيل مأسسة الأمازيغية، يقتضى الإجابة عن مطلب الثنائية الرسمية والمساواة الثقافية والعدالة اللغوية في أفق إرساء مفهوم التصالح الهوياتي، لأنه لا يمكن فهم التداعيات الهوياتية، إلا من خلال اقتراح ملامح سياسة لغوية، تمكن من الانتقال من مقولة الاختلاف الإثني إلى جدلية التعددية اللغوية، وكذلك الارتكاز على التحول من جهوية إدارية إلى جهوية لغوية، فهذه هي الفكرة التي تشكل أحد المداخل الرئيسة لكتاب « من التعدد إلى التعددية... محاولة لفهم رهانات السياسة اللغوية بالمغرب» لصاحبه الأستاذ الجامعي سعيد بنيس.
وهذا ما يشكل الفكرة المحورية التي تعيد مقولة الاندماج المحلي أساس الاندماج الوطني، والتي ينافح عنها سعيد بنيس الأستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط في كتابه الذي يتضمن ستة فصول تتوزع على «التعدد والتعددية» و «البيئة اللغوية بالمغرب» و«اللغة الأمازيغية والدينامية المجتمعية» و « التمظهرات اللغوية بالمغرب » و« السياسة اللغوية والتعايش داخل المجتمع المغربي» وأخيرا «الرهانات المستقبلية للسياسة اللغوية »، وهي فصول لعنوانين لمشاريع مؤلفات جديدة للكاتب في مسار حفرياته في السياسة اللغوية بصفة عامة خاصة في ظل التحولات التي فرضتها تحديات الثورة الرقمية التي حولت الفضاء العام الى فضاء اعلامي بامتياز والذي يشكل حلبة للنقاش العام حسب يورغن هابرماس مؤسس نظرية الفعل التواصلي، وأحد رواد مدرسة فرانكفورت الألمانية.
الفضاء اللغوي
الكتاب الذي يقارب" الدينامية اللغوية والانتقال من التعدد كحالة طبيعية الى التعددية كفعل سياسي ومؤسساتي"، يشكل مساهمة فعالة ومبادرة جريئة في اقتحام الفضاء اللغوي المغربي، من بابه الواسع، وسياقة في منعرجات تمغريبت التي يعلن بدون لبس بأنها مازالت في حاجة الى سبر أغوارها المتنوعة، لكن بأفق كوني، يتجاوز كل نظرة محافظة ومنغلقة عن الذات.
يتمحور الكتاب الواقع في 224 صفحة من الحجم المتوسط، حول جانبين منفصلين، أولهما يهم اللغة الواحدة، فيما يتعلق الثاني بالنسيج اللغوي الذي يحكمه تفاعل لغات محلية وطنية وأخرى أجنبية دولية داخل التراب المغربي. وفي هذا الصدد، ينطلق الأستاذ بنيس من استنتاج رئيسي مفاده، أن السياسة اللغوية التي تعتمد استراتيجية التعددية اللغوية، تشكل أهم ضامن للهوية الثقافية والاجتماعية والحجر الأساس الذي يقوم عليه الرأسمال الاجتماعي المشترك، بعيدا عن كل أشكال الإقصاء والتهميش.
قوة ناعمة
لهذا فإن الكاتب يقر بأنه لا يمكن للسياسة اللغوية التي تعد عنصرا من عناصر "القوى الناعمة"، أن يكون لها تأثير، في الوقت الذي فيه واقع التعددية اللغوية " لا يزال في حالة غير مكتملة"، وما زال بعيدا عن التفعيل الرسمي والمؤسساتي للثنائية اللغوية الدستورية.
وإذا كان التعدد اللغوي يعد حالة طبيعية لتعايش ووجود واستعمال لغات داخل نفس التراب، فإن الأستاذ سعيد بنيس يستدرك ليقول، إن التعددية اللغوية هي وضعية تنتج عن حاجيات ثقافية وهوياتية، قبل أن يؤكد على أن ذلك، تستدعي نهج سياسة لغوية تنم عن إرادة سياسية ومجتمعية لتدبير الدينامية اللغوية.
إن مداخل التعددية اللغوية، ترتبط بالصيرورة الأحادية والتعدد في إطار مجالات وحقول تداولية تربط بين اللغات الرسمية والوطنية والجهوية والتنويعات الترابية في أفق ما يقترحه ب"استتباب الأمن اللغوي"، ومقاومة العولمة والميز اللغوي، والهيمنة الرمزية لبعض المنظومات التعبيرية، كما يرى بنيس .
الأسواق اللغوية
في اطار رصده للبيئة اللغوية بالمغرب، يعتبر الكاتب هذه البيئة، تشكل بيئة ملائمة للتعددية اللغوية من خلال ما يصفه من جهة بتعدد داخلي يهم نفس المنظومة اللغوية، ومن جهة أخرى تعدد خارجي، يرتبط بالتقاء لغات مختلفة مثل الأمازيغية والعربية والفرنسية والإسبانية وكذلك الإنجليزية.
وعلى ما يبدو أن هذا الأمر هو ما جعل الأستاذ سعيد بنيس، يستخلص بأن ذلك ينتج عنه نوعين من الأسواق اللغوية: " سوق لغوية واقعية، وسوق لغوية افتراضية"، تتعدد فيها الأنماط التعبيرية والتنويعات التواصلية، وهي سوقا لتلاقح الأفكار وتحديد المفاهيم، لكن مع ادراج بعين الاعتبار بأن اللغة تظل شأنا مجتمعيا خالصا.
فالكاتب وإن كان لم يكتف فقط بتشخيص واقع التعدد والتعدية، ومقاربتها على المستوى السو سيو ثقافي، بل تمكن من الذهاب أبعد من ذلك عندما بادر إلى طرح تساؤلات هامة منها :
احتباس لغوي
ما هو موقع نسق التعددية اللغوية في ضبط مكونات الهوية الوطنية بالنظر إلى مقتضيات دستور 2011؟ كيف يمكن فهم تمفصلات التنمية الديمقراطية وقيم الانتماء والعيش المشترك في علاقتها بآليات السياسة اللغوية ومبدأ الحياد اللغوي للدولة؟ وإلى أي حد يمكن اعتبار تفعيل وأجرأة التعددية اللغوية كعنصر لحداثة المغربية في صيغتها الترابية؟
وكيف يمكن تفعيل آليات التعددية في علاقتها بالتمكين الهوياتي والشعور المواطناتي والتحدي التنموي؟ ما طبيعة العناصر والأسس التي سيعتمدها المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية للبث في مصفوفة التنويعات اللغوية والتعبيرات الثقافية الترابية؟ وما المنطلقات التي سيتم اعتمادها لمقاربة منظومة الانتقال اللغوي في ارتباطها بالقانون التنظيمي للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية؟
لغة هجينة
وبالنظر إلى رهانات السياسة اللغوية بالمغرب، يسترسل الكاتب في السؤال بالقول إلى أي حد يمكن للتدبير الرسمي للثنائية اللغوية الرسمية أن يوازي بين التمكين الهوياتي من خلال مبدأ الشخصانية والتوطين الثقافي واللغوي؟ وإلى أي مدى يمكن للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، أن يستجيب لطبيعة الدينامية اللغوية ويحدد آليات التعددية اللغوية ويغطي مكونات السوق اللغوية ويرقى بالتوجهات الإستراتيجية؟
في تفاعله مع ما طرحه من أسئلة يخلع الأستاذ بنيس بعد ذلك " جبة الصحافي"، ليعلن - بدون مواربة وحياد علمي بارد، متسلحا في ذلك، بمقاربة أكاديمية نقدية، أن بطء تفعيل الثنائية اللغوية الرسمية في الحياة العامة - يكمن في نظره - أن يؤدي إلى بيئة لغوية هجينة، ستقوض خصوصيات النموذج المغربي للتعددية اللغوية وتفضي إلى اختلالات في مقولتي التنوع الثقافي والتعدد اللغوي واحتباس لغوي على المديين المتوسط والبعيد.
كما لم يترك المؤلف " مقترحاته ووصاياه " الى الصفحات الأخيرة من الكتاب، والإجابة على مختلف التساؤلات التي طرحها، ضمنها في فصوله الستة، ومن بين النتائج التي خلص إليها الكتاب، اقتراح سياسة لغوية تعترف بجهوية، تتأسس على التنوع الثقافي والتعدد اللغوي، هو أن شرط الترابية يمثل أساس مقومات الحداثة المغربية، بالرغم من تعدد المشاريع في هذا المضمار، ما يستدعي بناء سياسة لغوية من داخل فلسفة حداثة ترابية ترتكز على خصوصيات وفرادة المملكة المغربية.
تقديم كتاب" من التعدد إلى التعددية.. محاولة لفهم السياسة اللغوية بالمغرب" في اللقاء الذي نظمه السبت 11 ماي 2024 المركز المغاربي للدراسات والأبحاث في الاعلام والاتصال بالمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط.