شعيب حليفي: الدرس الكبير

شعيب حليفي: الدرس الكبير شعيب حليفي
سِحر المطر وهو يهطل بانسياب من السماء إلى الأرض تعبير لا يوصف عن السخاء الكبير الذي يعطي للحياة كل المعاني. وما نُدركه منها يسير.
كل الدروس الكبرى تبدأ صغيرة، وتكتسب مناعتها من قدرتها على التكيف قبل أن تصبح درسا ثم فكرة وربما مثلا أو خاطرة وخيالا رائقا يجوب النفوس الصافية مثل غيمة شردت في بدايات فصل الشتاء، وهطلت في موسم الرعود منتصف فصل الربيع.
هطلت الأمطار فعادت الحياة مثل ثوب طاهر، لكن روائح كثيرة لم يستطع ماء السماء تخليصها منها: الجفاف الذي يواصل خنق الأرض للسنة الرابعة على التوالي، وآثار حرب الوباء في النفوس وبعدها مباشرة حرب فلسطين غير المسبوقة، ثم ضربة الغلاء الذي فاق كل التوقعات وجعل البسطاء والطبقات المتوسطة المُعلقة فوق هاوية بلا قرار، تحيا في ذهول أخرسها لحين، تستمع، وسط هسيس صخب مكتوم، لطقطقات الحبال وهي تتقطع سريعا.
-أليس الأمر مجرد تخيُّل بلا قيد.. لأن الحبال تقطعت منذ زمن سابق، ونحن الآن في سقوط حر تحوّل إلى حلم يتذكر الماضي الذي هو فوقنا؟
-أقلتَ مجرّد تخيّل !! ومتى يبدأ الواقع عندك ونحن فيه غارقون؟
-نحن فعلا غارقون ولسنا غرقى.. وما نفعله..محاولة أخرى للبقاء فوق الماء.
-هذا كلام منطقي، ولو أننا فيه أشبه بحلم مختوم.
-انظر !!.. تحسس المطر الذي يغسل وجهي(من السخام). حتى ولو كنا داخل الحلم فلن نستسلم.
-ماذا تريد..؟ أحلامك تستغرقك كليّا..ها أنتَ تبحث حينا عن صالح بن طريف ثم تنتقل، حينا آخر إلى أبي يعزى وتجعل منه ثائرا ضاعت ثورته في قمة جبل تاغيا؟
-ماذا لو نؤمن بأن الانتفاض ضد الصمت، هو أشبه بمقابلة مصيرية، الانتصار فيها يليه تتويج تاريخي؟
قررتُ في وسط الأسبوع وبشكل قطعي، بعدما عجزتُ عن إيجاد فرصة لتدوين انطباعاتي عن الأيام السبعة التي قضيناها نطوف حول الذاكرة طوافا سبعا بلا توقف، قرّرتُ تخصيص يوم السبت، يوما للراحة والخلوة بعيدا عن العمل والسفر والاجتماعات، وعن قراءاتي لكتب ألتهمُ صفحاتها في سويعات الصباحات اليومية.
دائما أحلم بتخصيص يوم في الأسبوع أنقطعُ فيه عن كل ما يشغلني، وأتفرغ للكتابة فقط، لكن دوران الأيام يخذلُ حُلمي ،باستمرار، ويُطوّحُ بي بعيدا عن تلك المساحة الهادئة التي أرجوها. فتصبح هواجسنا أشبه بتلك التي يمتلكها حيوان مفترس في الغاب، متأهب للتكيف مع الأوضاع الصعبة والمُفاجئة.
أمام تعذر زمن مستقر، كنتُ ألجأ، أسبوعيا، في أوقات غير محددة وفي أماكن متعددة، إلى اختلاس جزء من الزمن لتدوين أفكار وملاحظات وخواطر وتخطيطات وجمل محددة أجدها في وجداني جاهزة كأنما أُلقيتْ في خاطري ساخنة لا تبرد أو ألتقطها من أفواه أناس التقيتُهم أو عَبَروا بجانبي، أدوّنُ كل ذلك بما أجده من أقلام مختلفة الألوان وفي أي ورق، لكن الشيء المؤكد أن كل تلك الأوراق، وبدون استثناء، تضيع مني ولا أعثر عليها، فأُجتهد في التذكر دون جدوى، وقد يمر زمن ، أعثر فيه على ورقة كتبتُها فأتأملها مستغربا ومتسائلا عن كاتبها وإن كانت بخط يدي.
اليوم جلستُ.. وقبل أن أغلق الهاتف...
-عفوا لمقاطعتك ! هل لي بملاحظة على كلامك؟ الأسبوع الماضي اختليتَ لسبعة أيام تجوب الدّواوير والقرى تستمع وتخطب في الناس، ماذا كنتَ تقصدُ من وراء كل هذا؟
جلستُ وقبل إغلاق هاتفي، تصفحتُ بريدي على التراسل الفوري، فأثارت فضولي رسالة وصلتني من رقم غير مسجل بالاسم، رسالة من ثلاث صور لأوراق كتبها صاحبها بخط يده وبلغة عربية متوسطة، بها كلمات دارجة كثيرة، مُرفقة برسالة صوتية يقدم فيها نفسه ويعتذر لي بكونه أخذ رقم هاتفي من صديقي المعاشي، ملتمسا أن أكتب قصته التي اختصرها لي، وإن اقتنعتُ بها فهو مستعد ليرويها لي بتفصيل في لقاء معي.
كلمته هاتفيا، بلا تردد، وشرحتُ له بأني لست صحفيا يمكنه الاعتماد عليه في تعميم حكايته، أو قاضيا يسانده في محنته..ثم استدركتُ قائلا:
-وما دخل صديقي المعاشي في الموضوع، أعرف أنه يملك نزاهته فقط.
-لا.. قال بسرعة وارتباك- أنا حيمود الذي يكلمك.. لا تفهمني بالخطأ أرجوك، الأستاذ المعاشي يُدرسُ أكبر أبنائي فقط، تعرفتُ عليه حينما قصدته بالمؤسسة التي يدرِّسُ بها لأعتذر له من تصرفات ابني الغريبة أثناء حصصه، ولما رأيته طيبا وحنونا ومتفهما حكيتُ له حكايتي- من القهر الذي يُثقل حياتي- فمدّني مشكورا برقم هاتفك، وقال لي بأنكَ صديقه وقلمُك يقرأه أهل الرباط !!.
-آه.. اعتقدتُ شيئا آخر. (ثم قلتُ في خاطري.. وما دخل الرباط أيضا في كل هذا !!).
عاد حَيْمود يشرحُ لي محنته مع صاحب نفوذ يكتري من عنده شقة في عمارة قديمة بحي التشارك، شمال الدار البيضاء، واكتشف مؤخرا أنه كان يأتي خلسة إلى بيته، في السنوات الأولى، يشاركه فراشه ويخونه، كرها وتهديدا، مع زوجته التي اعترفت له بعدما مرضت نفسيا وأرادت أن تزيح الثقل عن صدرها فرمته دفعة واحدة في وجهه، وهو الآن يشك في كون أبنائه الثلاثة الذين ولدوا في التسع سنوات الأولى من سكناه لدى المالك، ليسوا من صُلبه لأنهم يشبهون الرجل المُشارك صاحب العمارة.. ويسألني ماذا يفعل لأن الرجل صاحب الأملاك والنفوذ يده طويلة وباطشة.
شرحتُ للسيد حيمود بأن المسألة ليست في الرباط، ولكنها بمحكمة عين السبع، ولدى شهادة زوجته وابن خلدون والحسين السلاوي وأسماء هوري.
-قال لي متعجبا : وما دخل ابن خلدون والحسين السلاوي وأسماء هوري آ السي الكاتب !!
-يبدو أنكَ تعاني من تشنج نفسي.. ألا تعرف أن ابن خلدون قال : " إذا كنتَ في المغرب فلا تستغرب !"؛ وقال الحسين السلاوي: احضي راسك لا يفوزوا بيك القومان آفلان" ؛ أما أسماء هوري فإنني معجب بفنها ورؤيتها ومؤمن بأنها الوحيدة التي ستحوّل حكايتك إلى مسرحية درامية تفتح العيون على الظاهرة، وأتمنى لو تكون هاجر كريكع وراشيل ماك آدامز وأنْ هثاوايْ من الممثلات أيضا، أما دور الرجل الزهواني صاحب العمارة، فلن نجد أحسن من عبد الله شكيري... ما رأيك؟
ظل صامتا وربما كان، لحظتها، في صدمة بين حالتين تتلاطمانه بقوة.
أغلقتُ الهاتف ووضعت أمامي ورقة بيضاء واحدة وعدد من الأقلام، لكن خيبة الأمل التي أحسَّ بها الرجل صاحب الرسالة، أصابتني بالعدوى، فقمتُ من مكاني وشرعتُ أصلح صنبورا بالمطبخ كانت قطراته مزعجة، ثم انتقلتُ لأصلح باب دولاب ملابس مريم، وبعدها صعدتُ إلى السطح بمساعدة ابني وأصلحتُ اتجاه اللاقط الهوائي، كل هذا أمام تعجب زوجتي وأبنائي، ثم سألتهم وهم مندهشون إن كان هناك من أمر عليّ إنجازه، فوجدتهم ينظرون إلى بعضهم البعض قبل أن يشيروا عليّ ببعض الإصلاحات الطفيفة.
مرت ساعتان تقريبا. جلست أمام التلفاز متجولا بين القنوات الإخبارية التي تُكرر نفس الأخبار العالمية داخل نفس الكادر، حول الصراعات والأزمات والحوادث والأسعار.. فنسيتُ عدوى خيبة الأمل، وعدتُ إلى مكتبي ثانية وأنا أقول لنفسي:
-كنتَ تتمنى أن تتفرغ لنفسك اليوم.. ، فلماذا أنتَ عاجز؟
-ليسَ عجزا، ولا تكلمني بهذه الطريقة !!. أنا لستُ آلة مصابة بالإسهال، كما لستُ مصابا بالعسر. أنا أبحث عمّا يجيب عن أسئلتي، أو يُقرّبُني منها، سبعة أسئلة تحيّرني.
-اكتبْ .. فأنت لا تبرعُ إلا في تشكيل الحكايات من الدخان.
-لا نار من دون دخان يا صاحبي !!
في حركة لا إرادية مني، مددتُ يدي إلى الورقة البيضاء فقلبتها في سخرية من البياض الذي لا يفارق الوجهين، وقمتُ فلبستُ ملابسي وخرجتُ، وأسرتي الصغيرة تنظر إليّ، في صمت، بنفس الاندهاش. عدتُ سريعا قبل خروجي من الحي، وانتظرتُ، وزوجتي تجمع لي حوائج ولوازم الحمّام في حقيبة، حملتها متوجها لدى الحلاق بّا العبدي.
كان بّا العبدي صامتا وحزينا وهو يحلق ذقن شاب في مقتبل العمر، فالحديث يُشعره بالبهجة. جلستُ وانطلق يحدثني عن المطر وكرة القدم وسعد لمجرد وباطمة، ومحمد الفائد وما جرى له مع العلماء والدكتور التازي ومومو وصاحب أغنية كبّي أتاي.. وأنا لا أهتمُّ لما يرويه نقلا عن زوجته التي ينسبُ كلامها بقوله "قالت لي مولاة الدار" .
لا أهتمّ لأنني أعرف أن ذلك مجرد تسخين وتمهيد لأحاديثه عن الغلاء والزلزال الذي ما زالت شقوقه لم تلتئم بعد في نفسه، غير أن ما أثارني في حديثه هو دهشة لامنتهية تعتريه وتعتري كل المتحدثين في الموضوع، كأنهم تُركوا لمصيرهم في هذا العراء المتوحش، كل مساء يتابعون الأخبار لعلهم يجدون جوابا لما كان يرويه لهم الحلاق بّا العبدي.
عدتُ في الواحدة والنصف أمام ذهول كل من في البيت، وهم يعلمون أن رزمة الحمّام ستبقى لأيام في صندوق سيارتي. تغذّيتُ ونمتُ مُقيلا نصف ساعة، ثم خرجتُ لا أعرف أين أسير.