يزيد البركة: قوى عالمية معاصرة تعود بنا إلى الماضي (2) 

يزيد البركة: قوى عالمية معاصرة تعود بنا إلى الماضي (2)  يزيد البركة
في هذه السلسلة من المقالات التحليلية، التي تنشرها جريدة "أنفاس بريس"، يميط يزيد البركة، عضو المكتب السياسي لفيدرالية اليسار، اللثام على العلاقات الشغلية، والمرتبطة بموقع الأجر في سلسلة الإنتاج، وتاريخ تشريع الأجر، خصوصا مع النقاش المحتدم حول قانون الإضراب.

الأجر علاقة من علاقات الإنتاج العديدة، مثل السعر والثمن والتكلفة والربح.. ومعلوم أن علاقات الإنتاج في كل أسلوب إنتاج تنقسم إلى قسمين: علاقات إنتاج مباشرة، هي ما تم ذكره، وعلاقات غير مباشرة مثل الفائدة البنكية في أسلوب الانتاج الرأسمالي.
الأجر وعدد كبير من العلاقات المنبثقة من عملية الإنتاج ليست وليدة من البداية مع الإنسان، أثناء العمل، عندما كان ينتج حاجاته من القيم الاستعمالية لنفسه أو له ولأسرته، وكان لا يستعمل إلا يديه وذراعه، بل فقط في الزمن الذي خضع فيه العمل للتقسيم وبدأ التبادل الأولي، أي حينما تطور العمل الأول وقامت شروط جديدة وبدأ الانسان يصنع أدوات عمل هي امتداد ليديه وذراعه.
وقبل أن أعود إلى الأجر، سأقف عند هذه العلاقة غير المباشرة التي تسمى الفائدة لأنها تعتبر مفهوما يكاد يكون مسترسلا في الزمن من عصر العبودية إلى الآن، إذ أن الفائدة البنكية عند عموم الفقهاء، إلا القليل منهم هي بالضبط الربا الذي كان سائدا في حضارات العبودية. 
جاء الربا من فعل ربا يربو أي زاد وازداد، ربا العجين أي طفا وانتفخ. وقد عرفت كل الحضارات القديمة الربا، وهناك من منعه مثل حمورابي ومن الفلاسفة الذين ذموه أفلاطون في مدينته الفاضلة، وقد حرمته كل الديانات السماوية بما فيها اليهودية، لكن الحاخامات بعد ذلك حرموه على اليهود وحللوه لهم مع غير اليهود من الأجناس الأخرى. رغم ذلك انتشر في العالم القديم.
كانت القيمة التي تتراوح عندها الربا بين 30 إلى 40 في المئة من القرض، وكلما تخلف المقترض عن الوفاء بالدين يضاعف عليه الربا حتى تصل إلى 400 في المئة، وبذلك يتعذر نهائيا الوفاء بالدين الشيء الذي يؤدي إلى تحوله من شخص حر إلى عبد أو تحويل أحد أفراد أسرته إلى العبودية لصالح القارض.
هذا الربا كعلاقة إنتاج غير مباشرة في أسلوب الإنتاج العبودي له قواسم مشتركة مع الفائدة في أسلوب الإنتاج الرأسمالي غير أنه مع ذلك ليس مثلها والاختلافات كبيرة وجوهرية.
- لنتجاوز حجم الربا ونسبته، العامل الأول: سنجد أن الربا منفصل عن العملية الاقتصادية: انتاج - تبادل- استهلاك، بحيث إذا ما خسر المقترضون المال وعجزوا عن السداد لا يحدث أي شيء للعملية الاقتصادية في المجتمع العبودي، وحتى عند العكس إذا ربح المقترض واسترجع القارض ماله مع الربا لا ينمو شيء في العملية الاقتصادية في المجتمع، فقط الربح يحصل فرديا عند النجاح دون الخسارة، أيضا فردية عند ضياع المال للأول، أما الثاني فقد ضمن ربحه الفردي في كل الحالات.

العامل الثاني هو أن المنتجين الحقيقيين في المجتمع العبودي هم العبيد، حيث انقسم المجتمع إلى طبقتين كبيرتين أسياد وعبيد، ولهذا فقوانين المجتمع الاقتصادية تكاد تنحصر بينهما، إذ أن الذي يضطر للاقتراض بالربا ليس هو العبد ولا السيد، بل هو الحر من تاجر صغير أو حر من فئة المياومين الذين يشتغلون لأنفسهم ولهذا فإن الأثر الاقتصادي للربا على العملية الاقتصادية بعيدة جدا عن منطقة الخطر ولكن تتضرر منها فئات اجتماعية ولا تستطيع أن تتسلق السلم الاجتماعي، بل تجد نفسها وقد انحدرت وتقهقرت إلى مرتبة العبيد، ولهذا كان وضع حد للربا الذي كان سائدا في الجاهلية من طرف الإسلام ثورة حقيقية. مع ذلك لابد من الإشارة إلى أن اليهود في البلدان الاسلامية في العصر الوسيط على الأقل لأن هناك إفادات في النوازل، كانوا ربويين للمسلمين، كما يجب أن نسجل أن الربا نوعان، ربا في النقد وربا في البيوع وهذا الأخير هو أن يبيع التاجر بضاعة ما بأجل وأن يزيد عليه ما دام لن يسدد حالا وهو الآخر مثل ربا الأموال، وكان يعرف زيادات عندما لا يستطيع الدائن الوفاء بما في ذمته وهذا النوع كان موجودا في العصر الوسيط بتستر وحذر في المغرب حتى وقت قريب. والأكثر من هذا أن ما يعرف بالزيادة من تحت الطاولة le noire في اقتناء العقار والأراضي.. هو شكل من أشكال ربا البيوع واستمراره وهو ما يزال يجري بسرية ويقوم به من يحرم الفائدة وحتى الربا، وحتى من لا يحرمهما إذا وجد نفسه مضطرا ولا مخرج ثاني.
العامل الثالث هو أن أسلوب الانتاج الراسمالي اختلف عن الأسلوبين العبودي والإقطاعي في كثير من القضايا الجوهرية، الشيء الذي لا يمكن معه القول أن الفائدة هي بالضبط ربا، ذلك أن الأسلوب الرأسمالي اتسم بقوانين اقتصادية مستقلة عن الأفراد، وهذه تفعل فعلها بشكل تلقائي، مثلا بالنسبة للفائدة التي أصبحت ممركزة لدى البنك المركزي لأي دولة لا يمكن رفعها إلى ما لا نهاية ولا يمكن خفضها إلى ما لا نهاية، ترفع لأهداف العملية الاقتصادية بنسب ضعيفة وحذرة وتخفض لأهداف أخرى بنسب ضعيفة وحذرة، رفعها يراد منه أساسا كبح التضخم باستقبال الأبناك للسيولة النقدية المتوفرة في السوق لأن الفائدة مغرية للمودعين. ولكن هذه الخطوة تؤدي أيضا الى الامتناع عن الاقتراض مما يؤثر على الاستثمار. وخفض الفائدة يؤدي الى زيادة الإنفاق وزيادة في حركة الرساميل وزيادة في الاقتراض ولا يتم اللجوء لها إلا بعد أن يكون التضخم في مستوى ضعيف لأن خفض الفائدة يؤدي إلى زيادة التضخم.
من هذا المثال حول الربا والفائدة يتضح أن علاقات الإنتاج في الراسمالية ليست هي تماما، لا في  الشكل ولا في المضمون، لكن منذ عقود من الزمن ظهرت قوى اجتماعية في الدول الرأسمالية الكبرى أمام اشتداد الأزمة الاقتصادية  العالمية، همها الأساسي هو ضمان الربح عند مستويات عالية بأي ثمن ولو كان بالعودة إلى أساليب استغلالية من الماضي البعيد، إذا كان هذا حال قوى اجتماعية يمينية في الدول الراسمالية الكبرى، وهي ترعرعت مع الثقافة الليبرالية وتناهضها الآن فإن حال قوى اجتماعية يمينية في الدول الصاعدة وخاصة في الدول الإسلامية يدعو للاشمئزاز  لأنها أصلا لا تؤمن بالليبرالية ولم تطبقها  في بلدها لا في الاقتصاد ولا في القوانين ولا في الثقافة وتريد أن تعود إلى الماضي في الاقتصاد وكانها جربت الليبرالية واقتصادها، وفي الحقيقة ليست إلا قوى هجينة لا أصل لها. 
(يتبع)