كلما فاض كرمه في ميدان البحث والتنقيب في متون نصوص قصائد فن العيطة، يبادر الموسيقي عاشق آلة لَوْتَارْ، ومروض ريشة ألوان صباغة لواحات الفن التشكيلي، الفنان حسن الزرهوني بإتحاف قراء جريدة "أنفاس بريس" بمساهماته القيمة في حقل البحث والتوثيق والكتابة، ولا يتردد في تفكيكها وتحليلها بشغف وعشق. فالرجل لا يتسرّع في الكتابة، رغم غزارة كنوزه المعرفية على مستوى تراث فن العيطة والموروث الثقافي الشعبي، وكأنه يمارسه هوايته المفضلة حين يرمي بصنارة قصبته بين أمواج البحر بساحل الْبَدُّوزَةْ "الْكَابْ" وينتظر صيده بصبر في الوقت المناسب.
فبعد أن تطرقنا في حلقتنا السابقة إلى أسباب نزول القصيدة الغزلية، الموسومة بعيطة "الْكَافْرَةْ غْذَرْتِينِي" نقدم للقراء في هذه الحلقة، قراءة متأنية للفنان المبدع والموسيقي حسن الزرهوني في قصيدة "بَرْوَالْ لُغزِيَّلْ" الغزلية كذلك، التي تتداول في الأوساط العبدية والمسفيوية كحكاية شفهية تمزج بين الواقع والتخييل في الموروث الثقافي الشعبي؟
بروال "لُغْزِيَّلْ"
"لُغْزِيَّلْ طَاحَتْ مْرِيضَةْ تَشْكِي بِالرَّأسْ
الِّلي فِي الْوَلْدَةْ مَعْشُوقْ
يْنُوضْ بَكْرِي لِلسُّوقْ
يْجِيبْ الْفَّادْ مْعَ الْغَرْنُوﮜْ وَالْكَبْدَةْ حْتَّى هِيَّا
الْفَّادْ عْزِيزْ عْلِيَّا.
شَمِّيتْ رِيحْةْ الشْيَاطْ
مْوَّالْفَةْ نَشْوِي فِي دَارْ مِّي لَحْبِيبَةْ
شَفْتْ مَحْبُوبَةْ حْيَاتِي دَايْرَ جُوجْ وْسَايَد
مْزَوْقَةْ بِالْحَنَّةْ.
خَيْطْ لَهْلَالْ فِي صِفْةْ النَّجْمَةْ
مَفْتَاحْ الُّلوبَانْ
نَعْطِي الْبَرَّاحْ مُوزُونَةْ لَالَّا مَا تْصُومْشِ رَمْضَانْ
عَشْرَةْ نْصُومْهَا أَنَا
عَشْرَةْ يْصُومْهَا عَوْدِي
عَشْرَةْ نْهِيبْهَا عْلْ لَحْبَابْ
حَلَّاتْ سَالَفْهَا فِيهْ ﮜامَةْ
مَرْشُوشْ بِالْوَرْدْ وَالَخْزَامَةْ
هَاذِي زَرِّيعْةْ النْبِي خَالَقْهَا مُولَانْا".
يعتبر نموذج هذه القصيدة بمثابة "بَرْوَالْ" غنائي مثل "التْوِيشْيَةْ" الموسيقى الأندلسية، علما أن "التْوِيشْيَةْ" لها نظامها الخاص، حسب مستهل القصيدة، وصدرها، والبحور الشعرية التي تتغنى بها نوبات الموسيقى الأندلسية. و "التْوِيشْيَةْ" في هذا النوع من الغناء التقليدي المغربي هي فاصل موسيقي يتخلل العيطة الحصباوية أثناء الإنتقال لمرحلة الإيقاع السّريع، حيت تظفي جمالية وتنوعا في الطرب بين أجزاء العيطة.
من المؤكد أن نظم "بَرْوَالْ لَغْزِيَّلْ" قد تمّ في منطقة الحصبة، مهد العيطة الحصباوية/العبدية، وتحديدا بدواوير "لَحْنَافِيشْ" و "الجْوَادَاتْ" و "الدْعَابْجَةْ" و "الَغْزَاوْنَةْ" وذلك خلال نهاية القرن التاسع عشر.
وحسب الرواية الشفوية المتداولة بالمنطقة، فإن أحد الأشخاص بمنطقة الحصبة، كان قد تزوج فتاة من عائلته، وكان الرجل يُمنّ النّفس بمولود يحمل نسبه وأصله، ويؤنس وحدتهما في الحياة، لكن الزوجة تأخرت عن الحمل والولادة لمدة طويلة، حتى أن الزوج استاء من الوضع وانتابه شعور بالقلق، ظانا أنه عاقم، بعدما لم يتحقق حلمه وأمله، فصار يتردد على أضرحة الصلحاء والأولياء، دون أن يفرط في استعمال كل الطرق التقليدية من أجل توسل الإنجاب.
تروي الحكاية الشعبية بهذه المنطقة القروية التي تلزم وتتطلب العادات والتقاليد أن تكون الأسرة متعددة الأبناء، أن هذا الزوج الذي لم يتحقق مراده، قد قرر في الأخير أن يتسلّح بتعاليم الشرائع الدينية والتشبث بالقرآن والسُّنَّةِ، مما دفعه إلى الاعتكاف بمسجد القبيلة خلال شهر رمضان الأبرك، طالبا ومتضرعا من الله أن يرزقه ذرّية صالحة من نسله.
في هذا السياق وبعد مدة من الوقت، تفاجئ الرجل، في أحد الأيام، بأن زوجته ينتابها إحساس بأعراض الحمل والوحم، حيث أضحت تشتهي بعض المأكولات الخاصة، بعد أن اكتشف أنها تشتاق لشم رائحة شواء أحشاء البقر وطبق "قٌطْبَانْ الزَّنَّانْ"، المعروف في ثقافة المطبخ المغربي بـ "بُولْفَافْ".
لم يتردد الزوج في تنفيذ وتلبية الطلب، واستعد ليلة الجمعة للتّبضّع من السوق الأسبوعي بجمعة سحيم، حيث استيقظ باكرا، وامتطى صهوة حصانه بعد أن أعدّ العدّة لقضاء غرضه، وهو في فرحة عارمة بهذا الولد البكر. ومن المعلوم أنه حسب العادات والطقوس إذا جاء وحم المرأة الحامل على كل ما هو مالح، وخصوصا ما يتعلق بأنواع أطباق اللحوم ومرفقاتها فإنها ستضع مولودا ذكرا، أما إن توحّمت المرأة الحامل واشتهت الأطباق الحُلوة فإن المولود القادم سيكون أنثى. ـ علميا فشهية المرأة لكل ما هو مالح يعني أن الجسم يحتاج إلى البروتين، أو الصوديوم، أو البوتاسيوم. أما إن مالت شهيتها لكل ما هو سكّري فإن الجسم يحتاج إلى الكالسيوم والدّهون ـ
بعد أن قضى الزوج مآربه في السوق الأسبوعي بجمعة سحيم، قفل عائدا للدّوار، لكن عندما دخل على زوجته الحامل، وجدها مستلقية على الفراش، حيث تأثر بوضعيتها، فأنشد ناظما أبيات هذه القصيدة الغزلية، التي فجرت فيضا سيّالا من مشاعره وأحاسيسه ووجدانه بطابع غزلي يمتزج فيه الحسّي والمادّي.
لقد استهل الزوج في تلك اللحظة السعيدة، مطلع القصيدة باسم زوجته "لُغْزَالْ" على اعتبار أن الشعراء قديما، كانوا يستلهمون عناصرهم في رسم صور الحبيبة، مستخدمين طاقاتهم وخبرتهم، لما تحمل بعض الحيوانات من جوانب ذات أبعاد أسطورية ورمزية، فضلا عن صفات الجمال التي تميزها، مثل حيوان "الْغَزَالَةِ" وطائر "الْحَمَامِ"، ولم يكن الغرض من توظيف هذه الأسماء، إلّا للتعبير عن العواطف الإنسانية، خصوصا أن الغزالة تعتبر من أجمل الحيوانات وأكثرهم نورا، وطهارة، وخفّة، ورشاقة، ونعومة. بل أن هناك قواسما مشتركة بين صفات الغزالة، وصفات الحبيبة.
ـ رموز ودلالات ضمنها الشاعر في هذا الشطر من القصيدة:
"شَفْتْ مَحْبُوبَةْ حْيَاتِي دَايْرَ جُوجْ وْسَايَدْ
مْزَوْقَةْ بِالْحَنَّةْ.
خَيْطْ لَهْلَالْ فِي صِفْةْ النَّجْمَةْ
مَفْتَاحْ الُّلوبَانْ"
في اعتقادنا أن هذا هو المتن الصحيح في قصيدة "لُغْزِيَّلْ"، وفق ما كانت تؤديه وتغنيه الشِّيخَةْ المرحومة عَيْدَةْ. والدليل أننا نقول في ثقافتنا الشعبية "خَيْطْ لَهْلَالْ" وليس "طَايْرْ لَهْلَالْ". وفي نفس السياق فإن المتداول أيضا هو قول "خَيْطْ الرُّوحْ" وهو عبارة عن قلادة رهيفة ودقيقة من الذهب، توضع فوق الرأس تزيد المرأة رونقا وبهاء وجمالا. وبالمناسبة فقد كانت الشِّيخَةْ المرحومة الْحَامُونِيَّةْ معروفة بوضعها لهذا الشكل من العقد على الرأس خلال تقديم عروضها الفنية.
وحسب المتداول أيضا في موروثنا الثقافي الشعبي الشفهي قول "خَيْطْ لَهْلَالْ" وهو يتعلق بخيط حريريّ ناعم، يوضع في العنق مصنوع من الفضة كان بمثابة شعار، ورمز لدى العثمانيين تمهيدا للمرحلة القمرية في الرّبع الأول أو القمر المنجل، وتم توظيفه في التّزيين، حيث يعلق مع النجمة الفضية في خيط الهلال، إذ يعتقد بأنه يقي المرأة من الشرّ والعين.
أما بخصوص مفردة "الُّلوبَانْ" فهو عبارة عن صمْغ يستخرج من شجر شوكي يسمّى بـ "الْكَنْدَرْ"، وموطن تواجده هو شبه الجزيرة العربية. وحسب المعتقدات السّائدة في الثقافة الشعبية فهو يُبعد عن المرأة كل ما هو سلبي، ويحميها من الأمراض، وعين الحسود، لاحتوائه على مواد حمضية، مفيد للجهاز التنفسي، وتنبعت منه رائحة زكيّة تساهم في تلطيف التنفس.
أما على مستوى شرح وتفسير كلمة "مُوزُونَةْ" في قصيدة "لُغْزِيَّلْ"، فهي كانت مصنفة كعملة فضية، تداول رواجها واستعمالها بكثرة خلال فترة حكم السلطان المولى الحسن الأول، حيث تمّت صياغة هذه العملة في معمل الماكينة بمدينة فاس سنة 1888.
وحين استعمل الشاعر كلمة "الْبَرَّاحْ" فقد وظّفها كتعبير مجازي، متوسّلا أن يَعُمَّ نبأ حمل الزوجة في القبيلة خلال شهر رمضان، وأن يشهر بين الناس أنه سيوزّع ويقسّم أيام شهر الصيّام على نفسه، وعلى جواده، وأيضا على أهله وأحبائه، بمعنى أنه سيتقاسم أحاسيسه ومشاعره بفرحة المولود القادم مع أعز أصدقائه القريبين من قلبه بداية بالحصان، ثم باقي أحبابه من أفراد عائلته.