كنت أعتقد أن المقهى الوحيدة التي لا تقدم أتاي المغربي كأسا أو برادا هي تلك المنزوية بشارع علال بن عبد الله بالعاصمة،وكان كلما جالسني ضيف عزيز بهذه المقهى لأول مرة، وأراد احتساء ( أتاي) الأخضر المغربي، واعتذر له نادل المقهى بأدب،إلا وشرع في مناقشة، قد تقول أو تقصر حسب إصرار الضيف وتفهمه للأمر .
فظاهريا ليس هناك أي مبرر لذلك فالمقهى في وسط المدينة، بحي حسان العريق بشارع له تاريخ،وزبناء المقهى مغاربة أغلبهم موظفون وصحفيون ومحامونـ حتى أنه شاع بين الزبناء أن صاحب المقهى من إخواننا أهل الشام ومقيم ببلادنا منذ زمان،إلا انه عاطفيا ليست له أية علاقة مع هذا المشروب السحري، الذي يتجاوز بالنسبة لنا من كونه ماء مغلي وأتاي حبوب أو شعرة ونعناع أو شيبة أو هما معا وسكر وبراد.
أتاي هو نخوة المغاربة فقيرهم قبل ثريهم . لكن شاءت الظروف في بحر هذا الأسبوع بالمدينة الحمراء، وبالضبط وسط "كليز" هذا الحي الذي صممه المهندس الفرنسي (البير ليندي )بأمر من المقيم العام المرشال ليوطي سنة 1913، فوجدت نفسي بإحدى المقاهي المتواضعة،منغمس في قراءة رواية أهدتها لي "مها"ابنتي le Mage du Kremlin de Giuliano D’Empoli الروائي الإيطالي .وبالطاولة المجاورة كان مجموعة من الذكور يتحدثون بصوت عال، في كل شيء، من العقار إلى النساء، داخل مدونة الأسرة وخارجها، ليستقر بهم الحال في مونديال كرة القدم لسنة 2030.
هذا الكأس المحير لشعوب العالم قبل حكامهم، الذي كانت أولى دوراته سنة 1930 والآن نحن على مشارف ذكراه المائة وسيكون المغرب أحد مستضيفي فعالياته. وبقدر ما في الأمر من تشريف لبلادنا ولاسبانيا والبرتغال، فهي أيضا مسؤولية جديدة تتطلب لمسة خاصة بهذه المناسبة.
وللتاريخ فان أول بلد منظم للمونديال لم يكن حينها من كبار العالم ، بل بلد يقع في الجنوب الشرقي لأمريكا الجنوبية يسمى "الأورغواي" وهو بلد لا تتجاوز مساحته 176215 كلم2 . وقد تعرضت الفيفا آنذاك لضغوطات من إيطاليا وهولندا وإسبانيا والسويد، الذين رفضوا المشاركة احتجاجا على منح استضافة الأورغواي للكأس، كما غابت الاتحادات البريطانيا بسبب خلافها مع الفيفا، لكن الأورغواي، نظمت وفازت بالكأس، بعدما هزمت جارتها الأرجنتين، وعادت وفازت سنة 1950 على جارتها الأخرى البرازيل، أبطال رقصة السامبا وقد عُرفت المباراة في ما بعد باسم ( ماراكانا زو ) وهو مصطلح يشار فيه إلى هذا اليوم الأسود والكارثي للبلد المضيف، بعدما تابع المباراة أكثر من 200 ألف متفرج، ومنذ ذلك التاريخ قررت البرازيل تغيير القميص الأبيض مصدر الشؤم وتعويضه بالأصفر والسروال الأزرق.
كأس العالم، الذي ينظم كل أربع سنوات لم يتوقف مطلقا منذ 1930 إلا في دورتي 1942 و1946 إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية .
كأس العالم، هو كذلك مناسبة تجني وراءها الفيفا ملايير الدولارات، ليبقى للبلد المنظم إما اقتناص الفرصة والانطلاق إلى أفق تنموي جديد، أو الاحتفاظ بالذكرى فقط مع متلازمة العصر الذهبي le syndrome de l’âge d’or.
مع الإشارة إلى أن مجرد الترشح لاحتضان هذه الملحمة الكروية تضع البلد المعني تحت مجهر التقييم، السياسي والحقوقي والمالي والاقتصادي والاجتماعي،قبل تقييم ومراقبة البنيات التحتية من ملاعب وفنادق وطرق...
وكلنا تابعنا ما هي الضغوطات التي تعرضت لها روسيا -فلادمير بوتين في 2018؟ وأيضا ما هي أجواء تحضيرات دورة قطر 2022؟
ودائما تشترط الفيفا أن يتضمن ملف الترشيح ، تقرير مستقل تعده جهة محايدة، ومشهود لها بذلك، عن حالة حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى البيئية بالبلد المترشح .
تصاعدت الأصوات الذكورية بالطاولة المجاورة، و احتد النقاش حول كأس العالم والتنظيم المشترك للمغرب لهذا العرس العالمي ، بجانب البرتغال، وإسبانيا. و لم يكن نقاشا على إيقاع واحد، فمنهم من تساءل حتى عن الجدوى من الترشيح ؟وهل هو أولويتنا كبلد لا زال سائرا في طريق النمو ؟ واستشهد بكلام نسبه لعالم المستقبليات المرحوم"مهدي المنجرة" عندما قال أن الشعوب المتخلفة ترى في كرة القدم كل شيء وهي في الأصل لاشيء .مجرد لعبة ليست من بنوذ التطور أو مؤشرات التنمية البشرية المعروفة والمحددة من طرف الأمم المتحدة كالتعليم والصحة والدخل الفردي ومستوى عيش السكان .
تدخُل هذا الشاب سرعان ما تصدى له ذكر آخر، أكبر سنا ويبدو أكثر تجربة .فوضع تنظيم كأس العالم في سياقه العام،وكونه أولا وأخيرا فرصة،تمنح للدول بملايين سياحها وحجم تغطية إعلامها ومستشهريها وعيون المستثمرين الثاقبة والمتعددة ….إلخ وعلى البلد المنظم إما انتهاز هذه الفرصة وتحويلها إلى استراتيجية وبرامج للمستقبل وإما (مشا علي القطار ) عوض J’ai raté raté le train وبالتالي العيب كل العيب في البلد المنظم وليس في كرة القدم والمونديال في حد ذاتهما .
يبدو أن كلامه كان مؤثرا ونافذا وكل الذكور الملتئمين حول المائدة يستمعون بتمعن وفي صمت ولا تسمع إلا صوت اتاي وهو ينزل من البراد أو صوت ارتشافه و (كلها وبراده ) موضوع أمامه .
وبداخلي وجدتني أحلل ما سمعته واستحضرت ما قرأته هنا وهناك،عن المشاريع الكبرى التي أطلقت أو التي سيتم إطلاقها استعدادا للمونديال 2030 وقبله الكاف 2025.
مسار جديد للقطار السريع، ملاعب لكرة القدم،تأهيل للمدن المحتضنة، تجديد أسطول الطائرات، توسيع بعض المطارات.... والخير أمام بدون شك .
توقفت وقلت كم هو جميل بلدي، وهو يقوم بهذا المجهود الاستثنائي في مواد البناء (السيما والحديد ) وكم سيكون أجمل عندما سيطلق وبدون تأخر، مجهود موازي في الإنسان في الثقافة في القيم في السلوكيات في الحكامة ،أولا استعدادا لهذه التظاهرات الرياضية العالمية وثانيا لأننا بالفعل نستاهلوا أحسن .وهو مجهود لا يقل أهمية وفائدةً عن الإسمنت.فالاستثمار في هذا الإنسان المغربي سيخلق التميز وأعتقد أنه سيكون أحسن وأفيد فما تقوم به الدولة من تأهيل للبنية التحتية مطلوب وضروري،لكن يقينا أن بلدنا لن تتميز على قطر بإمكانياتها الهائلة .وروسيا بتاريخها وقوتها ،وبنيتها التي شيدتها منذ ثورة 1917 .ولا على الولايات المتحدة الأمريكية التي ستحتضن الكأس المقبل لسنة 2026 مع فتات لكل من كندا والمكسيك.
لكن ممكن أن نتميز بجودة مواردنا البشرية إذا انخراطها في إعدادها منذ الآن في المجال السياحي في المدارس في الشارع العام بتحسيس الجميع بأهمية حسن استقبال الضيوف وقبول الاختلاف في اللون والمعتقد وتوسيع مجال التعايش والتسامح وأهمية الالتزام بتقديم الخدمات بدون غش من المطار إلى البزار مرورا بالطاكسي والمطعم والفندق.
اعتقد جازما وبدون شوفينية ، أن تمغربيت كقيمة مجتمعية وأسلوب حياة ،يمكن أن تكون وصفة مهمة لتعبئة المغاربة حول هذا المشروع المجتمعي، وهذا يقتضي إشراك الجميع كل من موقعه في إبداع الأفكار وابتكار المبادرات وفتح المجال لتقاسمها ، حتى يشعر كل مغربي ومغربية،أنه هو المحتضن لكأس العالم في بيته ومع أهله . لا الدولة فقط باعتبارها (الآخر )المنفصل عن المجتمع .وبالتالي فإما أننا سنجعل من المونديال عرسا مغربيا تقليديا ( كل واحد كيعطي يد الله) أو نجعله (سيتكوم )رمضان نتابعه عبر الشاشة الصغيرة وننتقده في السر والعلن.
وأنا أحاول أن أمسك بهذا الخط الحلزوني من التفكير ،الذي جرفني بدون إرادتي .وأنا الذي ليس بيني وبين كرة القدم إلا الخير والإحسان،وأحيانا الفريق الوطني ،وقبلهما معا فريق أولمبيك وزان.
صاح رئيس مائدة الذكور : ابتداء من هذا اليوم ،هذه هي المقهى التي سنلتقي فيها باستمرار أما الفرنساوي الذي اشترى المقهى التي كنا نلتقي بها بالمدينة القديمة بانتظام، والذي استغنى عن تقديم اتاي المغربي بها منذ الأسبوع الفارط (فراه ما عارف والوا في مراكش وفي المغاربة ) فعاد ونادى على عامل المقهى بصوت مرتفع (زيد شي براد كبير بالنعناع وناقص سكر ) متجولا بعينيه بين جلسائه وكأنه يطلب موافقتهم مضيفا "كَّا" وَلاَّ " مَاكَّا"فردوا عليه جميعا وبصوت واحد "كَّا "وهي .عبارة يتداولها أهل مراكش فيما بينهم.
لعلها تعطي نكهة خاصة للمونديال في 2030 .