عيطة "الْكَافْرَةْ غْدَرْتِينْي" في زمن الحب والسلطة ونفوذ القياد

عيطة "الْكَافْرَةْ غْدَرْتِينْي" في زمن الحب والسلطة ونفوذ القياد الموسيقي حسن الزرهوني مع الزميل فردوس واحدى لوحاته التتشكيلية

كلما فاض كرمه في ميدان البحث والتنقيب في متون نصوص فن العيطة، يبادر الموسيقي عاشق آلة لَوْتَارْ، ومروض ريشة ألوان صباغة لواحات الفن التشكيلي، الفنان حسن الزرهوني بإتحاف قراء جريدة "أنفاس بريس" بمساهماته القيمة في حقل البحث والتوثيق والكتابة، بشغف وعشق. فالرجل لا يتسرّع في الكتابة، رغم غزارة كنوزه المعرفية على مستوى تراث فن العيطة والموروث الثقافي الشعبي، وكأنه يمارسه هوايته المفضلة حين يرمي بصنارة قصبته بين أمواج البحر بساحل الْبَدُّوزَةْ "الْكَابْ" وينتظر صيده بصبر في الوقت المناسب.

 

في هذا السياق نقدم للقراء قراءة الفنان المبدع والموسيقي حسن الزرهوني في عيطة "الْكَافْرَةْ غْدَرْتِينْي" الغزلية التي قادته إلى ينابيع نشأتها واكتمالها بين منطقة الحصبة وقصبة القائد الحاجّي، عارجا على محطات أساسية في حياة شيخات وشيوخ العيطة موضوع هذه المقالة وهو يروي لنا حكايات من القصص الجميلة التي تنتظر من يكتب سيناريوهاتها.  

 

عيطة "الْكَافْرَةْ غْدَرْتِينْي" وبصمة الشيخ "الْمَارِشَالْ قَيْبُو"

تعتبر عيطة "الْكَافْرَةْ غْدَرْتِينْي" من أجمل العيوط الحصباوية، التي نشأت وتطورت في بلاد الحصبة مهد الْعَيْطَةْ الْعَبْدِيَةْ، ثم انتقلت إلى الدار البيضاء خلال الخمسينات حيث تمت إضافة مجموعة من المتون الشعرية لهذه العيطة، من طرف المرحوم الموسيقار محمد الحريزي المعروف بـ "اْلمَارِشَالْ قَيْبُّو" نظرا لدرايته الواسعة بالموسيقى الأندلسية، والغرناطية، وفن الشـﮜوري والملحون، الشيء الذي ساعده على إضفاء جمالية على مجموعة من العيوط الحصباوية مثل عيطة "لُغْزَالْ" و "رْكُوبْ الْخَيْلْ" ثم عيطة "الِّلي بْغَى حَبِيبُو" فضلا عن عيطة "رْجَانَا فِي الْعَالِي" و "خْرَبُوشَةْ" بإيقاع ثقيل يختلف عن الإيقاع الحصباوي المركّب والمعقّد والسّريع، لأن غناء العيطة على الآلة الوترية "لَوْتَارْ" يكون أكثر سرعة من الغناء على آلة الكمان. ومن هذا المنطلق تتجلى التأثيرات الموسيقية الأندلسية على العيطة البيضاوية.

 

موسيقى فن العيطة تجمع بين معاني الفرح والحزن

تتكون عيطة "الْكَافْرَةْ غْدَرْتِينْي" من أربعة أجزاء، وتُغنى على مقام البياتي على الصّول. حيث نجد أن أغلبية العيوط الحصباوية تغنى على هذا المقام وهو من أشهر المقامات العربية ـ مشتق من قبيلة بيات بالعراق ـ ويجمع هذا المقام بين الفرح والحزن.

 

أصناف فن العيطة الحصباوية

يمكن أن نصنف العيطة الحصباوية حسب اعتقادي إلى ثلاثة أصناف حسب عناوينها التي تستهل بها، فالصنف الأول يتكون من العيطة المعقدة والمركبة والتي تبتدئ بإيقاع بطيء وتنتهي بإيقاع سريع سوسي وحوزي. ونذكر من بينها عيطة "كَاسِي فْرِيدْ" و "رْجَانَا فِي الْعَالِي"، ثم عيطة "هَنِّينِي هَنِّينِي" وعيطة "خَرْبُوشَةْ"، علاوة عن عيطة "دَامِي" وعيطة "الِّلي بْغَى حَبِيبُو" وعيطة " سِيدِي حَسَنْ" إلى جانب عيطة "بِينْ الجَّمْعَةْ وَالثّْلَاثْ" و "تْكَبَّتْ الْخَيْلْ".

أما بخصوص الصنف الثاني من العيطة الحصباوية التي تبتدئ بإيقاع سريع تم إيقاع مركب في صدر القصيدة ثم الإنتقال إلى الإيقاع السّريع نذكر عيطة "الرَّادُونِي" وعيطة "سِيدِي أَحْمَدْ". في حين أن الصنف الثالث من العيطة الحصباوية التي تبتدئ وتنتهي بإيقاع سريع يمكن الاستشهاد بعيطة "لُغْزَالْ" الْعَبْدِيَّةْ، وعيطة "الشَّالِينِي" ثم "رْكُوبْ الْخَيْلْ" بالإضافة إلى عيطة "الْحَدَّاوِيَاتْ" وعيطة "الْعَمَّالَةْ". أما عيطة "الْوَادْ الْوَادْ" فهي عيطة حوزية بحكم الجوار بين منطقة عبدة ومجال منطقة الحوز، وكانت تختتم بها عيطة "هَنِّينِي هَنِّينِي"

ومن جهة أخرى، نجد أن جميع العيوط الحصباوية عنوانها هو بدايتها أي أنه تم تأليف القصيدة بدون عنوان، وحتى عيطة "الْكَافْرَةْ غْدَرْتِينْي" فإن عنوانها هو موضوعها ولم تكن قصيدة قائمة الذات، بل تم استخراجها من عيطة "دَامِي" ثم أخذت تتمدد إلى أن أصبحت عيطة مستقلة.

 

 

نشأة واكتمال عيطة "الْكَافْرَةْ غْدَرْتِينْي"

إن القصيدة موضوع هذا المقال قد نشأت في منطقة الحصبة واكتملت في قصبة القائد حميدة الحاجّي من طرف رْبَاعَةْ الشِّيخَةْ عْبُوشْ الْهَدَّاوِيَّةْ، رفقة الشِّيخْ الكمنجي بَلَّحْسَنْ والشِّيخْ مِيلُودْ وَلْدْ نُخَّالْ والشِّيخْ لَمْكِيكِي ضباط الإيقاع.

من المعلوم أن القائد حميدة الحاجّي كان مولعا بالموسيقى الطّربية، حيث كانت تؤنسه وترافقه فرقة موسيقية تجيد غناء الطرب الأندلسي وفن الشـﮜوري والطرب الغرناطي وفن الملحون، وكانت هذه المجموعة تتكون من العازف على آلة العود الشيخ بَّا هَشُّومْ، وضابط الإيقاع الشِّيخْ مصطفى، إلى جانب الفنّانات المغنيّات "رَيْحَانَةْ الطَّرْنْجْ" و "عُودْ الصَّبَاحْ" ثم المغنية "حَبِيبَةْ" والفنانة "نُورْ الْهُدَى". كما كانت ترافقه فرقة تجيد أداء فن "لَهْوِيرْ".

 

معلمة تاريخية بهندسة معمارية جمعت بين الأندلسي والغرناطي

تعتبر قصبة القائد الحاجي بـ "خْمِيسْ أَوْلَادْ الْحَاجْ"، بمنطقة الَبْحَاتْرَةْ الجنوبية نموذجا هندسيا في البناء والفن المعماري الأندلسي والغرناطي، والتي تأسست في عهد السلطان المولى إسماعيل من طرف القائد مْبَّارَكْ الْحَاجِّي، حيث شهدت ذات القصبة زيارة السلطان المولى الحسن الأول، وبعض المؤرخين نذكر منهم على الخصوص العلامة عبد الحي الكتاني والعلامة المختار السوسي والمؤرخ عبد الرحمان بن زيدان.

 

تم توسيع القصبة من طرف أحمد الحاجي في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وكانت هذه المعلمة التاريخية تتوفر على جناح خاص بممارسة تعليم فنون الموسيقى الأندلسية، وهو عبارة عن صالة كبيرة يتوافد عليها باستمرار التجار اليهود، وبعض الأجانب ورجال المخزن، وأعيان القبائل، حيث كانت تنظم سهرات وجلسات فنية خصوصا أثناء حكم القائد حميدة الحاجّي.

 

في هذا السياق، كانت فرقة الشِّيخَةْ عْبُوشْ الْهَدَّاوِيَّةْ رفقة الشِّيخْ بْلَّحْسَنْ الكمنجي، تتردد على قصبة الحاجّي باستمرار، وتعود أصول هذه الشيخة من مدينة الصويرة. وقد لْقِّبَت بـ "الْهَدَّاوِيَّةْ" لأنها كانت تهتز مشاعرها عندم تصل الموسيقى إلى أعلى درجة نفسية وروحية، حيث تسمو الرّوح عن الذات، وكانت في هذه المرحلة ترقص "تَجْدِبْ" بِشَعْرِهَا على طريقة طائفة هَدَّاوَةْ. إلا أن هناك رواية شفهية أخرى تقول بأن سبب لقبها بـ "الْهَدَّاوِيَّةْ" يرجع إلى "أنها كانت تخرج مع القائد الحاجّي ورجاله للقنص بالغابة المسمّات "خَرْبَةْ لَكْحَلْ" بمنطقة "خْمِيسْ أَوْلَادْ الْحَاجْ" حيث كانت تكتفي بامتطاء صهوة "بَغْلَةْ" مهمشّة في حين يمتطي الآخرون خيولا جيدة، وكان يقولون لها "رَكْبِي عْلَى هَاذْ الْهَدَّاوِيَّةْ". في إشارة للدَّابة.

 

كانت الشِّيخَةْ عْبُوشْ الْهَدَّاوِيَّةْ تشبه المرحومة الرائدة الشِّيخَةْ عَيْدَةْ العبدية في طريقة وأسلوب الغناء، وكانت أيضا قصيرة القامة، فضلا على أنها كانت تؤدي العيطة بنخوة وتبات، وتمتاز بصوت رخيم، وقويّ، ينسجم مع السّلاليم الموسيقية لآلة الكمان.

بدأت الشِّيخَةْ عْبُوشْ مشوارها الفني مع شِيخْ الكمان أحمد بن الصْغِيرْ، لكن عند وفاته بالدار البيضاء اشتغلت مع الشِّيخْ بَلَّحْسَنْ الذي كان شيخا صارما، وعازفا ماهرا، خصه الله بشخصية قوية، وهبة على مجموعته الفنية. في سياق متصل فقد تتلمذت على يد الشِّيخَةْ عْبُوشْ الْهَدَّاوِيَّةْ، المرحومة الرائدة الشِّيخَةْ الْحَامُونِيَّةْ، إلى أن تزوجت بالشِّيخْ الجِّيلَالِي فانفصلت عنها وكونت فرقة خاصة. وقد حدث أن التحقت بـ رْبَاعَةْ الشِّيخَةْ الْهَدَّاوِيَّةْ إحدى الفتيات المتدربات، والتي تنحدر تحديدا من منطقة أقرمود بنواحي مدينة الصويرة، وهي "أمِينَةْ الْقَرْمُودِيَّةْ"، والتي عرفت بحسنها وجمالها الفاتن، وصوتها الجميل، وامتازت بسرعة حفظها لنصوص العيطة، مما جعل الشِّيخْ بَلَّحْسَنْ يغرم ويفتتن بها، فاتفقا على الزواج، بحكم أنه هو الذي كان يلقّنها متون العيطة، وليس ضابط الإيقاع الشيخ مِيلُودْ وَلْدْ نُخَّالْ.

 

في إحدى الليالي الطربية بقصبة القائد الحاجّي، كانت قاعة الإستقبال مليئة بالضيوف والفرق الموسيقية، حيث تقدمت فرقة فن "لَهْوِيرْ" للغناء وافتتاح الجلسة الفنية، ثم تلتها فرقة الطّرب الأندلسي، ومن بعدها جاء دور فرقة الشِّيخَةْ عْبُوشْ الْهَدَّاوِيَّةْ. في هذه الأثناء انبهر الحضور بجمال الشِّيخَةْ المتدربة "مِينَةْ الْقَرْمُودِيَّةْ"، وزادها بهاء هندامها التقليدي المثير. فنادى عليها القائد الحاجّي لتجلس بجانبه، وفي هذه اللحظة الحرجة، لم تتقبل عْبُوشْ الْهَدَّاوِيَّةْ والشِّيخْ بَلَّحْسَنْ الوضع. فلم تتردد الناظمة عْبُوشْ وانطلقت تنظم شعرا مرتجلا، تعاتب من خلال أبياته الشعرية الشِّيخْ بَلَّحْسَنْ، في حين ردّ عليها هذا الأخير بطريقة مجازية خوفا من سلطة وجبروت القائد.

 

مما جاء في قول الشيخة عبوش المرتجل:

 

"اللهْ يَا بَلَّحْسَنْ مَا عْمَلْتِي مْزِيَّةْ

كَنْتِي الطَّيْرْ الْحُرّْ صْدَقْتِي حْدِيَّةْ

قْتَلْتِي الْحَاجَّةْ خْتِي لَعْزِيزَةْ عْلِيَّ

قْتَلْتِيهَا بِالِّليلْ وَالجِّيرَانْ شَاهْدِينْ "

 

ردّ عليها الشِّيخْ بَلَّحْسَنْ قائلا:

 

"مَلّْي شَفْتَكْ مَا بْقِيتْ بِعَقْلِي

صَلُّوا عْلَى مُحَمَّدْ آ هْيَا الْحَاضْرِينْ

سَعْدَاتْ مَنْ زَارْ الْكَعْبَةْ. الشَّارِي جَنْتُو (يتكلم هنا على القائد)

قَادَرْ الزِّينْ يَشْفَعْ فِينَا كَامْلِينْ

إِلَا جْرَى لَحْكَامْ. مَا بْقَى تَخْمَامْ

عْلَاشْ تْخَمَّمْ رَا الزْمَانْ حْكَمْ

نَطْلَبْ رَبِّي تَعْفُو عْلِيَّ وَعْلَى عْبَادُو كَامْلِينْ

الْمَكْتُوبْ بِزْمَامُو دُّورْ يَّامُوا

دْمُوعْ لَفْرَاقْ تْهَاطْلُو عْلِيَّ مَنْ هَذَا شْحَالْ

الله آ سِيدِي كُلْهَا أُو نِيْتُو

لَفْرَاقْ رَاهْ صْعِيبْ عْذَابُو طْوِيلْ

الْحَادْرَةْ عَيْنِيكْ شْكَايَا عْلِيكْ

مَلِّي شَفْتَكْ أُو دْمُوعِي تْسِيلْ

فْرَاقَكْ آ لَحْبِيبْ مَا بْقَى لِيهْ صْبَرْ

إِلَا قَلْبَكْ بْكَى تَشْوَى قَلْبِي كْثَرْ

نَطْلَبْ رَبِّي يَجْمَعْنَا وَ نْكُونُو زَاهْيِينْ

شَهْدُوا يَا لَحْبَابْ هَذَا مَا كْتَابْ

هَذَا وَعْدِي وَأَنَا نْصَرْفُو لله

عَيْنِيكْ ﮜالُوهَا فُمَّكْ مَا دْوَى

فَرْقُونِي عْلِيكْ أَنَا كِيفْ نْدِيرْ لِيكْ

آشْ بْلَانِي بِيكْ حْتَّى بْلِيتِينِي

آشْ بْلَانِي بِيكْ الِّلي جْرَى مَكْتُوبْ

يَا الْمَكْتُوبْ مَا عْلِيهْ هْرُوبْ

مَكْتُوبَةْ فِي زْمَانِي نْسَاعَفْ يَّامِي

خَلِّينِي نَبْكِي عْلَى الِّلي نَبْغِي

الِّلي طَاحْ قْلَيْبُو يْـﮜعْدُو بِيدُو

عَقْلِي هْنَا أُو لْهِيهْ كِيفْ نْدِيرْ لِيهْ

إِلَا جَاتْ الْمُوعُودَةْ دَفْنُوهَا بْجُوجْ

دْفَنْتْهَا بِيدِي أُو وَضَّرْتْ لَقْبَرْ

إِلَا وَضَّرْتْ لَقْبَرْ عَضّْهَا فِي الصّْبَرْ

لُو كَانْ الصّْبَرْ صْبَرْ نَبْكِي عَامْ أُو شْهَرْ

سِيرْ آ الزِّينْ الصَّافِي لَهْلَا يْعَذْبَكْ

الْكَافْرَةْ عَمَّالَةْ عَيِنِيهَا حَارِّينْ"

 

لعل هذه الأبيات المرتجلة، تعبر عن اهتزاز شعور، ووجدان الشيخ بَلَّحْسَنْ، حيث شغلت محبوبته مكانا واسعا، ونصيبا وافرا في مضمار هذه العيطة الغزلية، وارتقى بها الشاعر بتجربته العاطفية الإنسانية إلى أسمى صور الغزل، وأرقى معانيه، واتخذ هذه الصورة كأداة للتأثير على المتلقي، إيحاء ورمزا، بل هي وسيلة اعتمد من خلالها إلى نقل ما يخالج كيانه من خواطر وأحاسيس كمعيار يقاس به مدى نجاح هذه الصور المعبّر عنها لدى شاعر العيطة.

لقد كانت النهاية قاسية بالنسبة للشيخ الكمنجي بَلَّحْسَنْ، بعد أن تزوجت الشيخة "مِينَةْ الْقَرْمُودِيَّةْ" بالقائد الحاجّي، لكن للأسف الشديد انتهى بها المطاف بمدينة الدار البيضاء إلى أن توفيت خلال الستينات. ولهذه الأسباب سميت هده العيطة بـ "الْكَافْرَةْ غْدَرْتِينْي"