تمكنت الصحافة من خلال حوار صحافي مع محمد جسوس ( 1938- 2014 )، نشر بعد مرور نحو 22 سنة، في كتاب بعنوان " ...من القرويين إلى بريستون ( سيرة ذاتية)" من فتح أفق جديد في مجال الاهتمام العلمي ب" سوسيولوجيا النخب بالمغرب" .
هكذا أحسنت الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، صنعا حينما بادرت الى إعادة نشر هذه " "السيرة الذاتية" وتوثيقها في هذا الكتاب الذي أعده الإعلامي والأستاذ الباحث عمر بنعياش، وتم تقديمه في لقاء، يوم الثلاثاء 23 أبريل 2024 بقاعة ابن خلدون برحاب كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بالرباط، بشراكة ما بين شعبة علم الاجتماع والجمعية المغربية لعلم الاجتماع.
وصية جسوس
أود بهذه المناسبة أن أوصي الآخرين بعدم تقليدي في هذا المستوى.. وأن يعطوا لكل شيء حقه، دور الأستاذية مهم ودور النضال الثقافي .. مهم أيضا، ولكن البقاء للمكتوب وليس للشفوي، خاصة أن المكتوب يفتح المجال للتعامل العقلاني، والنقدي، والتحليلي الرزين.. من خلال القراءة الأولى والثانية والثالثة، إن اقتضى الأمر وضبط المفاهيم والطروحات، ويمكن أن يساهم في خلق ثقافة الحوار. كما أن المقروء الآن هو الوسيلة الوحيدة التي نتوفر عليها من أجل بناء ثقافة الحوار.. هكذا تحدث الأب الروحي للسوسيولوجيا المغربية محمد جسوس، في آخر فقرة من حوار مطول أجراه معه الصحافي عبد الكريم الأمراني لفائدة جريدة " الأحداث المغربية"، نشرته في عدة حلقات سنة 2002.
وتكون الهيئتين المنظمتين لهذا اللقاء العلمي، قد توفقتا إلى حد بعيد، ليس فقط بإثارة الانتباه لمسارات هذه الشخصية الاكاديمية والسياسية الذي كان له أثر بارز في تكوين أجيال كاملة من الباحثين، بل رمت بحجرة في بركة الانشغال بهذا النوع من " السير" التي تفتقر الساحة الفكرية والثقافية لمثلها .
سيرة خاصة
وبالنظر لأهميتها في التعرف على المسارات الفكرية والشخصية لأفراد النخب المغربية اجتماعيا وفكريا وثقافيا وسياسيا، يرى الأستاذ عمر بنعياش، في هذا اللقاء، أن سيرة محمد جسوس، تكتسى أهمية خاصة لعدة أسباب منها ما يرتبط بكونه شخصية وطنية وفاعل سياسي، كان له تأثير واضح على العمل السياسي والفكر التقدمي.
وإذا كانت الحياة ليس ما يعيشه أحدنا، وإنما ما يتذكره ومن يتذكره وكيف يتذكره - كما يقول الكولومبي غارسيا ماركيز الصحفي الذي عشقته الرواية، فإن الأستاذ محمد مرجان رئيس الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، اعتبر في تقديمه للكتاب، إن العبارة السابقة، للكولومبي صاحب رواية " مائة عام من العزلة" الحائز علة جائزة نوبل للآداب سنة 1982، تحيلنا مباشرة على أهمية السير الذاتية، كوسيلة مهمة في تذكر الحياة التي عشناها، كما قد تكون السير الذاتية وسيلة من الوسائل الموقظة للمشاعر الرقيقة اتجاه أحداث وأشخاص وأماكن معينة، تتفاعل خلالها المواقف والصور والأحكام حسب رغبات ذاتية او موضوعية، ولكن يبقى التذكر في جميع الحالات أو في أغلبها، إعادة تركيب للآنا في أبهى لحظاتها وانتصاراتها وناذرا في انتكاساتها.
مؤرخ اللحظة
بيد أن هذا المنجز في مجال " السير " يميط اللثام عن جانب آخر قليلا ما ينتبه إليه الباحثين والمهتمين، هو دور الصحافة في حفظ الذاكرة، رغم أنها مجرد "عقرب الثواني للأحداث" حسب الفيلسوف شوبنهاور، وهذا ما يجعل صاحبة الجلالة تساهم في " التأريخ"، لما تقوم به في مجالات رصد واستقصاء وقائع التاريخ السياسي والاجتماعي، كما أن الصحافي يعتبر في هذا المجال " مؤرخا للحظة" بتعبير الأديب الفرنسي ألبير كامى ومن نماذجه إعادة نشر الحوار المطول الذي أجراه الصحافي عبد الكريم الأمراني، مع محمد جسوس في كتاب، بعد مرور نحو 22 سنة.
إن انفتاح البحث العلمي والأكاديمي خاصة في مجال العلوم الإنسانية، على ما تنتجه وتنشره الصحافة، يمكن أن يساعد في ملء النقص الحاصل في مقاربة عدد من الأحداث والوقائع والرموز الوطنية، من الذين كان لهم دور مهم خاصة في حياتنا العلمية والسياسية، والحقوقية والاجتماعية والإعلامية، يضاف إلى ما يلاحظ مؤخرا من انتعاش واهتمام متزايد بالذّاكرة وقضاياها من لدن وسائل الاعلام من سير ذاتية، ومذكرات، وانتاجات أدبية وسينمائية وأعمال أكاديمية علمية، وذلك سعيا منها استحضار أبرز الأحداث التي عرفها المغرب الحديث.
الواعظ والناصح
وعلى الرغم من ذلك فإن الساحة الفكرية والثقافية كذلك تفتقد لمثل هذه السير على أهميتها في التعرف على المسارات الفكرية والشخصية لأعضاء من النخبة، فإن سيرة محمد جسوس تغني فرعا مهما يسمى سوسيولوجيا النخب، مع العلم أن الحوارات التي يتضمنها الكتاب لم يراجعها الراحل، فهي مباشرة تماما، شفهية، ولو تقَيَّد بأسئلة محاوِره لا أكثر " حسبما أوضح عمر بنعياش الذي وصف محمد جسوس ، بأنه كان "الواعظ والناصح والمساعد على الفهم والتفسير بالنسبة للسياسي، كان يزن كلامه بدقة، رغم أنه كان شفهيا، ويمارس السياسة انطلاقا من كونها " أجرا" بالمفهوم الديني والإنساني لفعل الخير دون طمع في سلطة أو جاه أو مال".
هل كتب سي محمد سيرته الذاتية؟ أم كتب سيرة المجتمع الذي عايشه؟ هكذا تساءل الأستاذ محمد المرجان، في تقديم الكتاب، قبل أن يخلص إلى القول، إنه " من الواضح أن هذه السيرة هي حكاية الذات والأسرة والطبقة والبيئة في إطار المواجهة مع عالم المؤسسات/ ... / ربما تبدو الوقائع المسرودة في السيرة عادية بكل تأكيد، ولكن بعدها يتجاوز حدود الوعي البسيط، ليتحول إلى محاكمة عميقة للنظام التعليمي والاجتماعي والسياسي والثقافي، توجت في آخر المطاف بشعاره: " إنهم يريدون خلق جيل جديد من الضباع".
الأستاذ عبد الغني منديب، رئيس شعبة علم الاجتماع، فأبرز خلال هذا اللقاء تميز بحضور شخصيات وفعاليات من أوساط جامعية وطلابية، وسياسية وجمعوية وإعلامية إلى أن محمد جسوس كان موسوعيا متعدد اللغات التي يحاضر ويكتب ويقرأ بها، فضلا عن كون الراحل الذي تميز قيد حياته، بأخلاقه العالية، وبدفاعه عن المجتمع الحداثي، كان موجّها ومرشدا ومشجعا، لطلبته ولزملائه بالجامعة.
شهادة على المجتمع
أما عبد الرحيم العطري أستاذ علم الاجتماع، فعبر عن اعتقاده الراسخ، بأن جسوس الذي مارس السياسة بنبل عميق ومتميز، " مازال حيا بيننا، ولم يمت، وأن قضايا الإصلاح والتغيير التي نافح عنها لا تزال مطروحة راهنا"، في حين يرى جمال فزة، أستاذ علم الاجتماع إن الكتاب حول محمد جسوس " شهادة، لا سيرة ذاتية، فهو تجميع للحوارات. أما السيرة الذاتية فتتطلب مجهودا أكثر" . وقال في هذا الصدد: " هذه شهادة على العصر، وتتجاوز شهادة شخص (على مساره) إلى شهادة على المجتمع".
وإذا كان جسوس ظل مهموما بمعرفة عمق المجتمع وقضاياه، والفئات المرشحة لقيادة مصيره مستقبلا، فإن محمد المرجان رجع خلال هذا اللقاء الذي تم خلاله عرض شريط وثائقي عن مسار الراحل للتساؤل، " لماذا سكت جسوس عن الحياة السياسية داخل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، على الرغم من أنه لعب دورا مهما جدا في حياة الحزب الذي كان أحد قادته، وهذا ربما يعود إلى ذكاء المحاوِر (أي الصحافي) المتفادى للأسئلة المحرجة". غير أن رئيس الجمعية المغربية لعلم الاجتماع، شدد على أن المهم أنه ترك سيرة " كشفت عن جانب صغير جدا من حياته كإنسان، تجمع بين مجرى الحياة ونجاحه، ولو ظلت جوانب عديدة مسكوتا عنها، لعله تحاشى القول في تفاصيلها".
كتاب " محمد جسوس من القرويين إلى بريستون" الذي يقع في 152 صفحة من الحجم المتوسط، يشكل أيضا، دعوة مفتوحة الاستفادة مما تنشره وسائل الاعلام، اعتبارا لكون هذه الوسائط، تساهم في تعميم الأفكار ونشر المعارف العلمية، وجعلها في متناول أوسع الفئات الجماهيرية، وتبسيطها، بلغة مرنة، وأسلوب سلس، حتى يكون بإمكان مختلف الشرائح الاستفادة منها، بغض النظر عن مستوياتها المعرفية، محاولة منها في تعزيز وعي الرأي العام.