بوح الشِّيخْ الحسين السطاتي بطعم واقع "الَحَالْ" ومواجع وجراح "الشِّيخَةْ" (الحلقة 2 )

بوح الشِّيخْ الحسين السطاتي بطعم واقع "الَحَالْ" ومواجع وجراح "الشِّيخَةْ" (الحلقة 2 ) الحسين السطاتي

بعد أن سافرنا في الحلقة الأولى من حوار جريدة "أنفاس بريس" مع شيخ فن العيطة الفنان المحبوب الحسين السطاتي للنبش في مسار بداياته الطفولية ببادية أولاد عبو، حيث تطرقنا لجوانب متعددة من مرحلة الطفل الحسين حول مسار طفولته التي نشأت في محيط اجتماعي وبيئي بدوي، مارس فيه شغبه وكل هواياته من داخل فضاء "لَمْسِيَّدْ" مرورا إلى تفاصيل الّلعب وسط الحقول الزراعية، والرعي وصناعة الطّين، وصولا إلى ضبطه حرفة الخياطة التقليدية، ثم تكوين مجموعته الفنية... حيث كان بوحه يمتح من ينبوع ذاكرة الشاوية، ورحلته التعليمية لمدينة برشيد ثم سطات والدار البيضاء، إلى حين حصوله على شهادة الباكالوريا، وولوجه لسلك الدرك الملكي ثم التقاعد النسبي، ليتفرغ للكتابة الأدبية في أجناس مختلفة، دون أن يفرط في التعاطي مع الطرب والنغم، كونه يفتخر بانتمائه لحقل فن العيطة.

في الحلقة الثانية نقدم للقراء حصيلة مواقف الشيخ المحبوب الحسين السطاتي من شخصية الشيخة قديما ورسم بروفيل شخصية "الشيخة" في عصرنا الحالي... إليكم نص الحوار الشيق مع الشيخ الحسين السطاتي.

 

كيف يرى الفنان الحسين السطاتي الفنانة الشعبية "الشيخة" بصفته شيخ للعيطة؟

الفنانة الشعبية المغربية "الشيخة" هي إنسانة قبل كل شيء، هي امرأة صالحة لنفسها وللأسرة وللمجتمع، فنيا واجتماعيا وتواصليا، فهي أديبة شاعرة، ومغنية وراقصة، وهي أيضا امرأة مكافحة مناضلة. بل أن الشيخة كانت مقاومة ضد المستعمر ومازالت تقاوم ضد الظلم والاحتقار والاستبداد والاستعباد في مجتمعها الذكوري.

 

يعج المشهد الفني بأسماء صنعت لنفسها مكانة خاصة لدى جمهور مواقع التواصل الاجتماعي، وتسلقت سلم الإرتقاء الاجتماعي مقارنة مع أسماء شيخات رائدات، كيف تقارن بين هذه الأسماء، وبين شخصية الشيخة الطباعة قديما ومكانتها اليوم في المشهد الفني؟

يجب أن نقف عند مقومات الطرب العيطي، هناك في الفن الشعبي أصوات جميلة ورائعة، مطربون حقيقيون ومطربات حقيقيات، وهناك أشياخ حقيقيون وشيخات حقيقيات، إذا صح التعبير، بمعنى يستحقون لقب "شِيخْ وشِيخَةْ" عن جدارة واستحقاق، لا يجادل أحد في قدراتهم الفنية، ويمتلكون أصواتا طربية ممتازة، فالصوت معدن ثمين كالذهب، وقد يدرّ أكثر من المعدن، إذا وجد الصائغ الحقيقي من أجل صياغته.

 

لا يكفي أن تكشف مغنية شعبية عن ساقها أو جزء مثيرا من جسدها وتقول أنا "نَغْتَةْ عِيَّاطَةْ" بمعنى "شِيخَةْ مُطْرِبة" في لغة "تَشْيَّاخِيتْ". ولا يكفي أن ننشر كليبات أو تسجيل فيديوهات معينة عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتحظى بنسب مشاهدة عالية ونقول أنها شيخة. أنا أقصد الشِّيخَةْ بمفهومها الفني المغربي الأصلي والحقيقي، فإذا أخذنا مثلا فيديوهات؛ الشيخة الطباعة أيقونة فن العيطة فاطنة بنت الحسين، والشِّيخَةْ الْخَوْضَةْ والشِّيخَةْ خَرْبُوعَةْ والشِّيخَةْ خديجة مركَوم والشيخة فاطمة الزحّافة والشيخة الصّالحة.. سنجد أن لهن متابعات قليلة ونسبة مشاهدة ضعيفة جدا على مواقع التواصل الاجتماعي، بالمقارنة مع أسماء أخرى مثل "تسونامي" و "الطرّاكس" و "الطيّارة" و "الفرفارة" وغيرهن.. وهذا لا يعني أنهن أحسن من الرائدات.

 

هل يمكن أن نفتح قوسا وتكشف للقراء عن أنواع أسلحة الإغراء والإستقطاب المستعملة من طرف "شيخات" هذا العصر ووكلائهن؟

فعلا شيخات اليوم يمتلكن الجرأة وشيئا من الإثارة والجمال الجسدي، وبعضهن يمتلكن ثقافة فنية. نعم إنهن يمتلكن فن الغواية وفن عرض الجسد واستثمار فواكه الجسد الأنثوي.. وطبعا هناك سماسرة وتجار يقفون ورائهن، يخططون لهن، يستثمرون إمكانياتهن الجسدية الظاهرية من أجل ربح الأموال أكثر. فعلا يمكن القول أهن "شيخات عصريات"، مغنيات وراقصات "خِيلَازَاتْ"، فنانات مبدعات في عملهن، يتخذن الفن مهنة ومصدر رزق رسمي، لكن فنهن استعراضي راقص "عرض ومشاهدة"، وليس فن استماع واستمتاع وطرب. الغريب في أمر هذه النماذج أنهن لا يرضين ويخجلن من لقب "شِيخَةْ"، ويقبلن ويفضلن لقب "فنّانة" أو لقب "أستاذة"، وهذا دليل على عدم نضجهن الفني والفكري.

 

ماذا عن الجانب المادي والاجتماعي في سياق نفس المقارنة؟

من ناحية الثقافة التجارية والمادية والوضعية الاجتماعية، فإن شيخات اليوم أحسن بكثير من شيخات الأمس، فأغلب الشيخات الرائدات اللواتي طبعن في الماضي فن العيطة، وتركن إرثا فنيا غنائيا كبيرا، قد دارت بهنّ الأيام في الكبر، وتنكرّ لهنّ الجميع حتى أقاربهنّ، منهنّ من احترفت التسول، ومنهنّ من احترفت القوادة والدعارة، ومنهن من تاهت في الشوارع والأزقة مجنونة حمقاء، ومنهنّ من انتحرت.. لكن شيخات اليوم يعرفن من أين تؤكل الكتف كما يقال، يعرفن أن ربيعهنّ الفني مؤقت ودوام الحال من المحال كما تقول بعض أبيات عيطة "دَامِي الْمَرْسَاوِيَّةْ": (عْلَى كُلِّ حَالْ مَا يْدُومْ حَالْ...سْيَادِي دْوَامْ الْحَالْ مَنْ الْمُحَالْ)"، فهن ذكيات يستثمرن أموالهن من عائدات الفن في مجالات تجارية وعقارية ويستغلن الفرص لتأمين حياتهن، فصرنا نجد الكثير من الرجال يتهافتون على طلب الزواج منهن وهن رافضات، ومنهم شخصيات ورجال أعمال. وشخصيا أعرف بعض الشيخات اللواتي تزوجن أكثر من أربع مرات، وهناك من تمت خطبتها أكثر من عشر مرات ورفضت العرسان، فهي التي تختار الرجل الذي يناسبها. بكل بساطة لأنها صارت "شيخة" مشهورة وميسورة الحال، ويبقى لكل عصر شيخاته وأشياخه، ولكل زمن فنه وجمهوره.

 

هل يمكنك أن تستحضر بعض الملفات التي كانت "الشيخة" محورا في الكشف عن تفاصيل أحداثها المثيرة كما أوردت في بعض رواياتك أو قصصك التي تعكف على كتابتها؟

بحكم تجربتي ـ البوليسية الدركية كضابط شرطة قضائية وعسكرية متقاعد ـ يمكنني أن أصرح للجريدة بأن الشيخة لها دور كبير في المساهمة في المحافظة على أمن البلد، فبالإضافة إلى مهامها الفنية الموسيقية الغنائية وصناعتها للفرجة، وخلق الفرح وجو المرح. فهي تقوم بمهام أمنية كما تقوم بمهام تبليغية. وكم من جرائم عويصة "جرائم سياسية وجرائم قتل، وجرائم دعارة، وجرائم أطفال رضع متخلى عنهم، وعصابات مخدرات، وخيانات زوجية وخيانة للوطن.." تم الكشف عنها بفضل هذه المرأة. لأنها امرأة متحررة وجريئة وقوية الشخصية، فهي تصنع الفرجة بفنها وتساهم في نجاح الكثير من الأبحاث القضائية بجرأتها وشجاعتها وقوة شخصيتها، وصلاحها للمجتمع. وأنا شخصيا ساعدتني "الشيخة" في بعض مهامي البوليسية البحثية العويصة، والكثيرون من المغاربة يجهلون هذه الكواليس التي تنسج في الخفاء.

 

للأسف الشديد نجد في الغالب أن هذه المرأة منبوذة من طرف المجتمع، منبوذة بالنهار ومحبوبة بالليل، إذ تكون هذه الأنثى ضحية سهلة للزج بها في السجن من طرف عديمي الضمير، يحققون بها أهدافهم ومهامهم البوليسية وقضاياهم الجنائية، ويترقون في الرتب والمناصب والمكاسب، في المقابل يرمون بها في الأخير في السجن. فتهمتها جاهزة وناذرا ما تجد من يدافع عنها، فهي بالنسبة لبعض المغاربة مثل الأفعى تخيفهم وتصيب بعضهم "فوبيا" منها، بعضهم تعجبهم حركاتها، التواءاتها وانثناءاتها، وصفيرها وزغرودتها، وملمس مظهرها، لكنهم لا يريدون أن تكون هذه الأفعى في بيوتهم ولا أحد يتمنى أن يجدها يوميا في سريره، لكنها امرأة صنديدة وعنيدة تتحدى الرجل وتتحدى المجتمع، فهي المرأة التي أهانها الرجل فأهانت كل الرجال، وهي المرأة التي هربت من بين أنياب ذئب فوجدت نفسها بين أحضان ذئاب. فهي المرأة التي تتحدى الأعراف والتقاليد، وتتحدى السجن والسجان لأنها أصلا تعيش بيننا في سجن مفتوح.