رغم أن ملف إصلاح مدونة الأسرة "دخل للمداولة"، بعد رفع اللجنة تقريرها إلى الملك بوصفه أمير المؤمنين، فإن ذلك لا يعني أن باب النقاش قد أغلق، بالنظر إلى أن ملف المدونة سيعاد طرحه للنقاش العمومي بعد إحالته، عبر المسارب المسطرية، على البرلمان للتعديل والتنقيح والتجويد، وفق ما تقتضيه ضرورات التدافع المدني المشروع بين العائلات الفكرية والسياسية بالمغرب.
شخصيا، لست ملما بالعلوم الشرعية والفقهية للخوض في مضمون الإصلاحات الواجب إدخالها بما يعضد متطلبات تهوية قانون مدونة الأسرة ويتجاوب مع ضرورات التحديث والإنصاف لكل مكونات الأسرة، لكن ما أثارني هو تسونامي التدخلات والتصريحات السياسية التي تمحورت حول موضوع واحد تقريبا، ألا وهو إصلاح نظام الإرث، وما تلا ذلك من تشنج واصطفافات حادة حول هذا الموضوع. لدرجة أن كل عائلة سياسية عبأت مختلف أنواع ذخيرتها لتجييش الرأي العام، وكأن مدونة الأسرة أصبحت "مدونة للإرث" فقط! وليست مدونة للأسرة برجالها ونسائها وأطفالها تواجههم قضايا أهم وأكثر أولوية تقتضي الإصلاح، من قبيل: زواج القاصرات وحضانة الأطفال ونسب الأبناء ومشاكل الطلاق وتبعات الزواج بالأجانب والأهلية الشرعية، ... إلخ.
هذا الاصطفاف الحاد والتجييش المنحرف للمجتمع حول محور الإرث، استفزني لاعتبارين اثنين: الاعتبار الأول دستوري، والاعتبار الثاني إحصائي اجتماعي.
في ما يخص الاعتبار الأول، نجد الدستور حصن المغرب بمرجعية إمارة المؤمنين التي تنهض كمؤسسة ضامنة لحماية موروث المغاربة الديني، بعيدا عن كل حسابات حزبية أو سياسية ضيقة لهذه الطائفة أو تلك. الدليل أن الملك، بوصفه أمير المؤمنين، أعلن جهارا أنه لن يحل ما حرم الله ولن يحرم ما أحل الله، بل دعا إلى مراجعة المدونة بنفس إصلاحي ومنصف داخل منظومة التدين المغربي. وبالتالي، لم يكن هناك من داع لهذه "الهيلالة والحيحة" حول الإرث وادعاء هذا المسؤول السياسي أو ذاك، أنه "ينوب" عن الشعب.
الاعتبار الثاني يتجلى في تجربتي المهنية والشخصية التي لم أكن أعاين فيها بالمحاكم أو بالفضاءات الجمعوية مشاكل الإرث واقتسام التركة بهذه الطريقة التي تم تهويلها، وكأن المغربي والمغربية ينتميان إلى سلالة الميسورين الذين ما أن يوارى أحد الأزواج الثرى حتى "تندلع الحرب العالمية الثالثة" في الأسرة لاقتسام التركة، وتنشب الخلافات حول كم سترث البنت وكم سترث الأم وكم سيلهف العم أو ابن العم، وكم ستخصم إدارة الضرائب!!
فسنويا، يموت في المغرب ما بين 350 ألف و360 ألف فرد (بالوسط الحضري والقروي، والرقم يشمل الكبار والصغار، الذكور والإناث). ووفق بيانات المحاكم وسجلات العدول والمحامين والموثقين وإدارة التسجيل والتمبر، فإن معظم الأسر لا يطرح عندها مشكل الإرث والصراع حول التركة.
فإذا استثنيا 5000 مغربيا تفوق ثروتهم مليون دولار (أي ما يمثل0،01% من مجموع السكان)، وأسقطنا 27% من المغاربة لديهم شقة بالكريدي أو منزل على الطراز المغربي أو فيلا ، فإن الباقي لا يملك "إلا البرد" و"شاد في الضس".
وإليكم الأرقام:
*45% من المغاربة، حسب المرصد الوطني للتنمية البشرية، يعتبرون فقراء.
*40% من الأسر المغربية دخلها من أجرة شهرية متواضع.
*15 مليون مغربي يعيشون في منازل الكراء (44% من مجموع السكان).
*4،5 مليون مغربي يعيشون في غرفة واحدة (13% من السكان).
*150 ألف أسرة مازالت تقطن بالصفيح بالمغرب، أي ما يعادل 900.000 مغربيا (2،6% من مجموع السكان).
*57 ألف أسرة، تضم 350 ألف فرد، مازالت تسكن في دور آيلة للسقوط (أي 1% من مجموع المغاربة).
تأسيسا على هذه المعطيات، أيعقل أن "تقوم القيامة" حول الإرث أكثر من المحاور الملتهبة الأخرى بمدونة الأسرة، والتي تعد معضلة حقيقية بالمغرب.
لا أنكر أن هناك مشاكل في الإرث تعانيها أسر مغربية بحكم التأويل الضيق للقانون أو الاستعمال السيء للشرع، لاغتصاب حقوق الغير، لكن كم تمثل هذه القضايا مقارنة مع مجموع المعمار القانوني المتكلس الواجب مراجعته بمدونة الأسرة؟!
ألم يكن أجدى بالنخب الحزبية والسياسية ترشيد النقاش العمومي بما يخدم المصالح الكبرى للمغرب والمغاربة بدل الحرص على العض على"همزة جابها الله" لتجييش الشارع لفائدة مصالح سياسوية ضيقة، لا يؤدي في نهاية المطاف (أي التجييش) سوى إلى زيادة نفور المجتمع من الانخراط في الشأن العام؟!
ملحوظة:
المعطيات استقيناها من:
+ عرض وزيرة الإسكان بمجلس النواب يوم 17 نونبر 2022
+ عرض الكاتب العام لوزارة الإسكان بمجلس النواب يوم 2 نونبر 2023
+ تقرير المرصد الوطني للتنمية البشرية
+ تقرير مكتب henley partners لعام 2022
+ تقرير"اللامساواة العالمية" لعام 2022.