هنا بالذات تكمن أهمية الأحزاب السياسية، والتي دورها الأكثر بداهة هو أن تفرز للدولة والمجتمع كفاءات قادرة على تدبير الشأن العام، تأطير النقاش العمومي، ومن ثمة إمكانية تجديد دماء الدولة والمجتمع.
كل المحاولات التي قامت بها مختلف دول العالم لأجل إنشاء مدارس قادرة على تخريج رجال ونساء الدولة قد باءت بالفشل، ولم تنتج في أحسن الأحوال سوى مهندسين يديرون القرارات بأسلوب العقل الأداتي، العقل التقني الذي يشتغل على طريقة "واحد زائد واحد تساوي إثنين". إلّا أنّ القدرة على إدارة ملايين البشر بانفعالاتهم، أمزجتهم، مخاوفهم، مطامعهم، مكبوتاتهم، وأحلامهم، لا تخضع للعقل التقني الأداتي أو المخططات التقنية، اللهم حين يتعلق الأمر بالأنظمة الشمولية، والتي حاولت أن تستثمر نتائج العلم والتقنية لتحويل المواطنين إلى مجرد أدوات للعمل والإنتاج، على منوال ما فعلته النازية والستالينية والفاشية.
إدارة المصير المشترك لملايين الأشخاص تجربة محكومة بانعدام اليقين، وبالتالي تتطلب امتلاك مهارات الخيال السياسي، الذكاء العاطفي، الحدس التواصلي، وهي مهارات لا يستوعبها العقل الأداتي التقني. لذلك تنتهي التجارب الشمولية إلى الانهيار المدوي، دون أن تشفع لها إنجازاتها التي قد تبدو معجزة حقيقية في بعض الأحيان.
ليس هناك من جواب عن السؤال، كيف يُصنع رجل وامرأة الدولة؟ غير أن انعدام الجواب هو أساس قيم النسبية، التعددية، التداول، التوافق، وبالتالي الديمقراطية.
لذلك سيكون تدهور الأحزاب مكلفا للمجتمعات التي تراهن بهذا القدر أو ذاك على الخيار الديمقراطي.
حين تنجز الأحزاب السياسية عملية الانتقاء بالمقلوب، فتفرز للمجتمع والدولة أسوأ ما لديها وتقصي الأفضل، فإنها تصبح مثل الفطريات التي تأخذ كل شيء ولا تعطي أي شيء.
ليس يخفى أن تجربة المغرب في تمويل مراكز دراسات تابعة للأحزاب قصد .تمكينها من صناعة نخبها بنفسها، جاءت في مستوى التنزيل بنتائج عكسية، حيث إنها عوض النهوض بمستوى الأحزاب فقد أوشكت أن تجهز على ما تبقى من ثقة المواطن في الأحزاب.
لا ننكر أخطاء وخطايا الأحزاب، لا نبرر في المقابل استقالة المثقفين طالما عقاب المثقفين المنسحبين هو أن يحكمهم الساسة الأميون، وهو عقاب عادل في كل الأحوال، إلا أن رعاة التجربة لهم نصيب من المسؤولية، طالما أخضعوا رهانا فكريا كبيرا لرؤية تكنوقراطية ضيقة من حيث الأهداف والتقييم.
الخطأ القاتل الذي يقترفه الكثيرون هو التعامل مع الأفكار وفق مقاربة تقنية صرفة. أعرف مسؤولين يحيلون عمليات التفكير على شركات خاصة تفكر بالنيابة، فيما يمكنني أن أصطلح عليه بالتفكير المفوض، إلا أن كل ما تفعله تلك الشركات هو أن تنتقي من قاعدة بياناتها وصفات جاهزة، تشبه تعاويذ بلغة فرنسية تقنية أو عربية ركيكة، وبحيث يصعب التعامل معها في كل أحوالها، ومن ثم سرعان ما يعود الزبناء الأسخياء إلى دائرة التيه، في انتظار ما قد يُملى عليهم أو يومأ إليهم.
أعرف أن أزمتنا هي أزمة الثقة، وأعرف أن انعدام الثقة مبرر طالما داء الجشع تفشى مثل الوباء، غير أن المعادلة المنسية أن الفكر بطبعه يأنف من الاشتغال في أجواء انعدام الثقة.
انسحاب الفكر من أجواء تنعدم فيها الثقة أمر مبرر، إلا أنه لا يخدم المشهد السياسي.
ذلك أن السياسة التي لا تفكر ستكون بلا أخلاق.
صحيح أن هناك حملة واسعة لتطهير السياسة من الجشعين، لكن السؤال هو، أين أولئك الذين ينبغي لهم ملء الفراغ؟
في غياب الفكر يصعب الحديث عن تخليق الحياة السياسية. صحيح أن الفكر لا يمنع الإنسان من أن يكون نذلا، لكن بدون فكر، بدون ذكاء نظري وتجريدي، لا يمكن لأي سياسي أن يستوعب مفهوم المصلحة العامة.
المصلحة الخاصة يدركها الإنسان بنحو حسي وغريزي مباشر، ومن دون حاجة لأي جهد فكري، لكن إدراك المصلحة العامة يحتاج إلى قدر من الجهد الفكري، النظري، والتجريدي. المصلحة الخاصة حسية، لكن المصلحة العامة مجردة. إن كان متوقعا من معظم الناس الانحياز الغريزي إلى المصلحة الخاصة، فالمنتظر من النخب السياسية هو الانحياز العقلي إلى المصلحة العامة.
فضلا عن الذكاء التجريدي تحتاج النخب السياسية إلى الذكاء العاطفي. وهذا أيضا مما ينبغي بيانه.
نتكلم كثيرا عن تنمية المهارات التواصلية، إلا أننا لا نزال نتعاطى مع التعلمات التواصلية نفسها بمنطق العقل الأداتي، ثم ننسى أن أساس المهارات التواصلية هو الذكاء العاطفي الذي تنميه الفنون الجميلة، وقراءة الأدب الجميل، وورشات الفلسفة العملية. حين يستشري الغباء العاطفي لا يمكن لأي آليات تواصلية أن تفي بالغرض. لأجل ذلك ينبغي العمل على تنمية الذكاء العاطفي لدى السياسيين، وبنحو يمنحكم القدرة على أن يحكموا أنفسهم قبل أن يحكموا غيرهم.
ليس مصادفة أن تشرع الحضارة المعاصرة في استعادة مفهوم الحكمة من الحضارات القديمة، وإعادة إدماجه داخل سياق الحداثة، لا سيما في عصر الانتقال الرقمي والديمقراطية المباشرة حيث يُفترض أن يشارك المواطنون كافة، ولو بنحو غير مباشر، في صناعة القرار السياسي، وبالتالي يحتاج المواطنون إلى ما يحتاج إليه الحكام من قدرة على ضبط النفس والتحكم في الذات.
إذا كان المجتمع الديمقراطي هو المجتمع الذي يستطيع فيه المواطنون المشاركة في تدبير مصيرهم المشترك، ففي النهاية لا مستقبل للديمقراطية داخل مجتمع يفشل فيه معظم المواطنين في التحكم في انفعالاتهم ورغباتهم، وبحيث قد يذهب معظمهم إلى صناديق الاقتراع تحت تأثير الحقد أو الغضب، أو تحت تأثير الخوف أو الطمع.
من لا يحكم نفسه لا يمكنه أن يحكم غيره، لذلك يحتاج الرجل السياسي (أقصد المرأة السياسية أيضا) باعتباره مشروع حاكم، أو مشروع موظف في دوائر الحكم، إلى أن يحكم انفعالاته ورغباته، وذلك لئلا يضيع نفسه أو يضيع غيره.
فضلا عن ذلك كله، هناك حاجة إلى امتلاك قدر كاف من المعرفة بالنقاشات الراهنة في حقول المعرفة والقيم والحضارة. فمن خلال المؤسسات التشريعية تساهم النخب السياسية أيضًا في صناعة القوانين والتشريعات، والتي من شأنها التأثير على حياة الناس ومصائرهم. إن عصر المعرفة، الانتقال الرقمي، الذكاء الاصطناعي، وممكنات التعديل الوراثي، الذي نعيش فيه اليوم، لا يسمح بوجود ساسة أميين لا يستوعبون الأفكار، وبالتالي يفوضون التفكير للمقاولات الخاصة، أو الجهات المانحة، أو "السلف الصالح".
أخيرا تحتاج النخب السياسية إلى سعة في الخيال السياسي. ففي غياب الخيال يجتر الجميع ما يقوله الجميع، ولا يقتنع أحد إلا بالصياغات التي اعتاد عليها عقله وحفظها قلبه، وبالتالي تخلو الساحة من أي إبداع لأي فكرة، أو مبادرة، أو بادرة خير. بهذا النحو تعم البلاهة وتستشري الوضاعة، إلى أن يقع السقف على رؤوس الجميع، لا سيما في عصر أصبح فيه "الكل يفهم في كل شيء" !
أمامنا تحد كبير بلا شك، لا سيما إذا كنا لا ننوي الدخول في خيار القبضة الحديدية الذي فرض نفسه على تجارب أخرى، كما لا ننوي معاودة الرهان على الأصوليات الدينية أو الشموليات القومية.
غير أن مناعة المجتمع تأتي من معدل الذكاء العام.
هنا يكمن شيء من رهاني.
أواصل دوري بعيدًا كل البعد عن فخ الانتظار الخانق. أرى أن العمر قصير والباقي قليل، وأن ثمار الأفكار ينبغي أن تراهن على السنين الطوال، مثل ثمار شجر الفلين. ويا للمصادفة أني وُلدت قبل خمسة وخمسين عاما وسط أدغال أكبر غابة فلين بالمغرب.