أحمد الحطاب: لماذا خلق الله الإنسانَ؟

أحمد الحطاب: لماذا خلق الله الإنسانَ؟ أحمد الحطاب
قد يقول قائلٌ إن هذا السؤالَ الذي هو عنوان هذه المقالة، فيه شيءٌ من الغيبيات، أي أن الهدف من خلقِ الله للإنسان لا يعلمُه إلا اللهُ، سبحانه وتعالى. قد تكون هناك أسبابٌ لا يعلمها إلا هو، عزَّ وجلَّ. لكن القرآن فيه آياتٌ كثيرة تبيِّن، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، لماذا خلق اللهُ، جلَّت قدرتُه، الإنسانَ.
 
الله الذي خلقَ السموات وما فيها وخلقَ الأرضَ وما فيها وما عليها، قادرٌ على خلق الإنسان وكلَّ ما أراد ويريد أن يخلقَه مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (الأنعام، 73). ويقول كذلك، عزَّ وجلَّ : "لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (غافر، 57).
 
الآيتان تُبيِّنان قدرةَ الله على خلق ما أراد وما يريد. أما في الآية الثانية، فإنه، سبحانه وتعالى، يُخبِرنا بأن خلْقَ الناس أهون وأصغر من خلق السموات والأرض. بل إنه، سبحانه وتعالى، يُبيِّن لنا في الآية التالية : "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (المؤمنون، 115) بأنه، جلَّ عُلاه، لم يخلق الناسَ "عَبَثًا"، أي أنه، سبحانه وتعالى، ما خلقهم إلا وله غاية من وراء هذا الخلقِ.
 
الله، سبحانه وتعالى، خلق الإنسانَ وأحسن خلقَه ونفخ فيه من روحه، أي جعله مخلوقا عاقلا و واعيا وكرَّمه وفضَّله على كثير من مخلوقاته. أليس هذا النفخ من الروح الإلهية والتَّفضيل علامتان تدلان على أن اللهَ، سبحانه وتعالى، له غايةٌ من وراء خلق الإنسان، علماً أنه، عز وجلَّ، غنيٌّ عن العالمين، أي ليس في حاجة للناس لإثبات وحدانيته، أو بعبارة أخرى، الله منزَّه عن جميع مخلوقاته، أي ليس في حاجة إليهم لإثبات وجوده، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (الذاريات، 57). "مِنْهُم"، في هذه الآية، تعود على الجن والإنس في الآية رقم 56 من نفس السورة : "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات، 56).
 
إذن، الله، سبحانه وتعالى، خلق الجنس البشري (الإنس) والجن ليعبدوه. والسؤال الذي يفرض نفسَه هنا هو: "لماذا الله، عز وجل، يريد من الناس (الإنسان) أن يعبدوه، وهو غني عنهم وعن غيرهم وعن عبادتهم؟
 
بكل بساطة، لأن عبادةَ الله من طرف الناس لهم فيها نفعٌ ومنافع كثيرة. ومَن الذي يوفِّر للناس هذا النفع وهذه المنافع؟ إنه الله، سبحانه وتعالى. وقد لخَّص الله، جل علاه، هذا النفعَ وهذه المنافعَ في هذا الآية الكريمة : "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الجاثية، 13). وهذا يعني أنه، سبحانه وتعالى، سخر للإنسان، ليس فقط، كل ما في الأرض وكل ما تحمله هذه الأرضُ من أجل إِعمارها، بل كلَّ ما في الكون. أليست كل هذه العناية التي خصَّ بها الله، سبحانه وتعالى، الإنسانَ، تقديرٌ وتشريفٌ وتكريمٌ وتمجيدٌ لهذا الإنسان؟
 
بالطبع، إنه تقديرٌ وتشريفٌ وتكريمٌ وتمجيدٌ للإنسان. وهذه أمورٌ تتجلَّى لنا عندما نقرأ القرآن الكريم، من أول سورة منه إلى آخِر سورة. لكن ليست قراءة "مرور الكِرام"، أي قراءة سطحية وسريعة لا تُسمن ولا تُغني من جوع. بل قراءة بتَدبُّرٍ وتمعُّن وتبصُّر. حينها، نلاحظ أن الكثيرَ من آيات هذا لقرآن، موجَّهة للناس جميعا، أي للإنسان. والغاية من هذه الآيات، هي دعوة الإنسان إلى الهداية والاستقامة والنزاهة وحسن الخُلُق… ليكونوا سعداء في الدنيا قبل الآخرة.
 
وحتى تكون هذه السعادةُ محسوسة وملموسة، ماديا ومعنويا، بعث الله، سبحانه وتعالى، للناس الرسلَ ليُنيروا لهم الطريقَ نحو هذه السعادة. والسعادة، كما أرادها الله لعباده، هي أن يؤمنوا به وبوحدانيته وأن يُطيعوه وأن يخضعوا لأوامره ويتَّبعوا صراطَه المستقيم. لماذا؟
 
لأن اللهَ يريد أن يُدخِلهم الجنة، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "... أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" (البقرة، 221)، أو مصداقا لقوله، عز وجل : "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (يونس، 25).
 
في هذه الآية الأخيرة، دار السلام هي الجنة وفعل "يَشَاءُ" يعود على الناس وليس على المشيئة الإلهية، أي أن اللهَ يهدي إلى صراطِه المستقيم مَن شاء من الناس، بمحض إرادتهم، أن يتَّبعوا هذا الصراط المستقيم.
 
وآياتُ القرآن الكريم التي، من خلالها، يُبيِّن لنا، سبحانه وتعالى، أنه يريد الخيرَ للناس لإسعادِهم، في الدنيا قبل الآخرة، كثيرةٌ، أذكر من بينها ما يلي:
 
1."فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (البقرة، 37). في هذه الآية، يُبيِّن لنا، سبحانه وتعالى، أنه، رغم مخالفة آدم، عليه السلام، أوامرَه بأكله من الشجرة الممنوعة، فإنه، عز وجلَّ، تاب عليه. لماذا؟
 
لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، توابٌ ورحيم. وتَواب الله على آدم ورحمتُه نابعان من كونه يريد الخير للإنسان.
 
2.،"وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإسراء، 70). في هذه الآية، "بَنِي آدَمَ"، هم ذرية آدم عليه السلام. والتكريم هو التَّشريف والتَّمييز. والتَّشريف يكون بالخُلُق الحسن والصفات النبيلة. والتَّمييز يكون بالعقل. والعقل هو أفضل ما وهب الله، سبحانه وتعالى، لبني آدم. "وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ"، أي سخَّرنا لهم وسائل النقل والتَّنقُّل برا وبحرا. "وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ"، أي وفَّرنا لهم كل ما هم في حاجة إليه في حياتهم البيولوجية والاجتماعية. "وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا"، أي أردنا أن نُميِّزَهم عن كثيرٍ من الكائنات الحية التي خلقناها.
 
والتَّمييز، كما سبق الذكر، يكون بالعقل، ومن خلال هذا العقل، جعلنا لهم الوعي la conscience. والوعي مختلف كل الاختلاف عن الغريزة التي، بواسطتها، تحيا وتسير الحيوانات بجميع أنواعها. بينما الوعي هو ذلك الجزء من الروح الإلهية التي نفخها، سبحانه وتعالى، في آدم وذريته. وهذا لا يعني أن الإنسانَ لا يخضع أحيانا لغريزته التي لا تفارقه وتتحارب مع الوعي. فبالوعي، يعرف الإنسانُ مَن هو واين يوجد وكيف يتصرَّف أمام ظروف معيَّنة. فحينما يستسلم الإنسانُ لغريزته، فإنه يتصرَّف حسب أهوائه ونزواته أو نزعاته أو اندفاعاته ses pulsions. ولهذا، فالعقل نِعمةٌ من الله كرَّم بها بني آدم.
 
3."وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (آل عمران، 129). في هذه الآية، يقول، سبحانه وتعالى : "وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ" أي إنه مالكُ كل شيء في الكون، لكنه، رغم هذا المُلك، لا يبخل على الإنسان من شيءٍ في هذا الكون، مصداقا لقوله، عز وجل : "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً… (لقمان، 20).
 
وفي نفس الآية رقم 129 من سورة آل عمران، يقول، سبحانه وتعالى "يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ". كما سبق الذكرُ، فعل "يَشَاءُ" لا يعود على الله، بل يعود على الناس الذين، بمحض إرادتهم، اختاروا إما طريقَ الخير وإما طريقَ الشر.
 
بالفعل، قد يقول قائلٌ كيف لله، سبحانه وتعالى، الذي يريد الخير للناس أن يغفرَ ذنوبَ هؤلاء الناس أو يعذبهم حسب إرادته؟ في هذه الحالة، سيكون، سبحانه وتعالى، ظالِما الناسَ (وحاشا أن يكونَ ظالِما) وهو الذي حرَّم الظلمَ على نفسه وحرَّمه على الناس. ولهذا، أنهى، سبحانه وتعالى، هذه الآية ب"وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ". وهذا ما بيَّنه، عزَّ وجلَّ، في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم، أذكر من بينها : "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (النساء، 116).
 
4."هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ" (الحديد، 9). "هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ". هو الذي، أي الله، سبحانه وتعالى. "يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ"، أي يوحي إلى الرسول محمد (ص) آياتٍ من قرآنه الكريم. ولماذا يوحي هذه الآيات؟ ليُخرجَ الناسَ من ظلمات الجهل والكفر والشرك ويُدخلهم إلى عالمٍ مُضاءٍ بنور الخير والمعرفة والإيمان والعلم والوعي… وكل هذه الأشياء، ناتِجةٌ عن رأفة الله بالناس وعن رحمتِه بهم.
 
كل هذه الآيات من 1 إلى 4، تبيِّن لنا بوضوح أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يريد الخيرَ للناس (للإنسان). إنه يلطُف، يخفِّف، يتوب، يُيَسِّر، يرأف، يرحم…
 
يلطُف : "اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ" (الشورى، 19).
 
يُخفِّف : "يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا" (النساء، 28).
 
بتوب : "وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا" (النساء، 27).
 
يُيسِّر : "...يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" ... (البقرة، 185).
 
يرأف : "وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ" (النور، 20).
 
يرحم : "وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ،" (النحل، 18).