عبد المجيد طعام: التطهير العرقي في فلسطين (9)

عبد المجيد طعام: التطهير العرقي في فلسطين (9) عبد المجيد طعام
التطهير العرقي في فلسطين الحلقة 9
ترجمة وإعداد ) بتصرف ( عبد المجيد طعام 
كان لدى "الهاغانا"  جهاز استخبارات تأسس  سنة  1933، وظيفته الرئيسية هي التصنت على السلطات البريطانية ، والتشويش على المكالمات بين المؤسسات السياسية العربية داخل البلاد وخارجها. كان هذا الجهاز، هو الذي أشرف على إعداد ملفات القرى، لتسهيل اجتياحها وإبادة سكانها، كما أنشأ في المناطق الريفية شبكة من الجواسيس والمتعاونين ، الذين ساعدوا في تحديد آلاف الفلسطينيين الذين تم أعدموا في قراهم و مدنهم ، أو سجنوا لفترات طويلة مع بداية عمليات التطهير العرقي
 كانت القوات  الموازية مثل الهاغانا والإرغون وستيرن  ، تشكل قوة عسكرية تتوفر على ما يكفي من الإمكانيات لطمأنة بن غوريون ، الذي كان متأكدا من أن هذه القوى ، ستكون قادرة على تحمل مسؤولية إرث الانتداب ، واحتلال  أكبر قدر  من الأراضي الفلسطينية مع العقارات والممتلكات التي تحتوي عليها.
فور اعتماد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181، أعلن القادة العرب رسميًا ، أنهم سيضطرون  إلى إرسال قوات عسكرية للدفاع عن فلسطين ،  ومع ذلك، من نهاية نوفمبر 1947 إلى مايو 1948، لم يشعر بن غوريون أو الجماعة الصغيرة المحيطة به  ، بأن دولتهم المستقبلية تواجه أي خطر محتمل، أو أن العمليات العسكرية العربية  ستكون ضخمة بما يكفي لتعطيل تنفيذ خطة طرد الفلسطينيين.  في العلن، كان قادة الصهيونية يضخمون من قوة الجيوش العربية ، ويقدمون للعامة سيناريوهات أبوكاليبتية Apocalyptique ، يحذرون جماهيرهم من اقتراب "الهولوكوست الثاني"، ولكنهم في الخفاء، لم يتحدثوا بينهم بهذه اللغة أبدًا ، كانوا على وعي بأن الخطاب الحربي العربي فارغ ولا ينطلق من استعداد جدي للدفاع عن فلسطين  ، كما كانوا على علم بأن الجيوش العربية  غير مجهزة جيدًا، وتفتقر إلى الجرأة والخبرة القتالية ، ولا تتوفر على القدرة الكافية للدخول في حرب يعرفون مسبقا أن انعكاساتها عليهم ستكون كارثية  . كانت ثقة  القادة الصهيونيين كبيرة جدا في إمكانياتهم ، كانوا على يقين بأنهم سينتصرون عسكريًا ،وسينفذون معظم مشاريعهم  الاستيطانية ، على رأسها طرد الشعب الفلسطيني من أرضه .
كان موشي شاريت، وزير الشؤون الخارجية "المعين" للكيان الصهيوني، خارج البلاد خلال الأشهر التي سبقت إعلان الدولة، بين الحين والآخر، كان يتلقى رسائل من بن غوريون، الذي كان يعطيه توجيهات حول أفضل الطرق للحصول على دعم العالم واليهود لدولة مستقبلية مهددة بالإبادة ، وهذه الصورة التي كان يسوق لها الصهاينة، لكسب التعاطف  وجمع الأموال والسلاح .كتب شاريت في 18 فبراير 1948 إلى بن غوريون: " سيكون لدينا العدد الكافي للدفاع عن دولتنا ، لكن سنحتاج إلى إمكانيات أكثر   لاحتلال البلاد"، أجابه بن غوريون: " إذا تلقينا في الوقت المناسب الأسلحة التي اشتريناها بالفعل، وربما حتى جزءًا من تلك التي وعدتنا بها الولايات المتحدة، سنكون قادرين ليس فقط على الدفاع ، ولكن أيضًا على توجيه ضربات مميتة للسوريين في بلدهم الخاص ، واحتلال كامل فلسطين ، ليس لدي أي شك في ذلك،  يمكننا مواجهة جميع القوات العربية، هذا ليس اعتقادًا دينيًا ، إنه حساب عقلي  ومنطقي ، يستند على دراسة الحقائق الملموسة"
هذه الرسالة كانت تتماشى تمامًا مع مضمون  مراسلات أخرى بين الرجلين ،منذ أن تم إرسال شاريت إلى الخارج،  بدءًا من رسالة في ديسمبر 1947، حيث كان بن غوريون يحاول إقناع زميله السياسي بتفوق الحركة الصهيونية عسكريًا في فلسطين: "نحن قادرون على تجويع العرب في حيفا ويافا إذا أردنا." 
إن هذه الثقة في قدرة "الهاغانا" على غزو جميع فلسطين  ومساحات من أراضي الدول المجاورة كسوريا ، ستظل مستمرة طوال القتال، باستثناء  التعامل مع الأراضي الأردنية نتيجة الوعود المقدمة للملك عبد الله،  بالطبع كانت تنفجر بعض الأزمات بينهما،  حدثت بعضها عندما كانت الحركة الصهيونية تضطر للدخول إلى المستوطنات اليهودية المعزولة ،وضمان حرية دخول الأحياء اليهودية في القدس ،  ولكن في معظم الأوقات، كانت القوات المتاحة لقادة الصهيونية كافية ، تسمح لهم بالاستعداد لمواجهة محتملة مع الجيش العربي وممارسة التطهير العرقي بفلسطين .  لم يتدخل العرب بشكل ملموس إلا في 15 مايو 1948، أي خمسة أشهر ونصف بعد اعتماد قرار تقسيم الأمم المتحدة،  خلال هذه الفترة الطويلة، بقي معظم الفلسطينيين ،بدون دفاع أمام عمليات التطهير العرقي الصهيونية، في المقابل علينا أن نسجل تماسك قادة الصهيونية - من هرتسل إلى بن غوريون – واتفاقهم  لإفراغ فلسطين من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، وقد بدأ طردهم وتهجيرهم الفعلي سنة 1948، وقد اشار المؤرخ نور مصالحة إلى هذا ، حينما رسم  بدقة أحلام وخطط الآباء المؤسسين للصهيونية ، المتمثلة في إفراغ فلسطين من العرب ،كانت هذه الرغبة تمثل أساس فكر الصهيونية منذ دخول الحركة على الساحة السياسية مع ثيودور هرتسل. 
 كانت أفكار بن غوريون حول هذه المسألة واضحة تمامًا في عام 1937، يؤكد ميشيل بار-زوهار، مؤرخ حياة بن غوريون: "في المناقشات الداخلية، وفي التوجيهات لشعبه، كان الـ"الشيخ" يتخذ موقفًا واضحًا: كان يقول: من الأفضل أن يبقى أقل عدد ممكن من العرب على أراضي الدولة". 
في 2 نوفمبر، قبل شهر تقريبًا من اعتماد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، أعلن بن غوريون للمرة الأولى، بأوضح العبارات الممكنة، أن التطهير العرقي كان هو الوسيلة البديلة أو التكميلية، لضمان أن الدولة الجديدة ستكون يهودية حصريًا ، ولا يجب أن يرتفع عدد الفلسطينيين على عدد اليهود ،إذا حدث ذلك، "يمكن إما أن نعتقلهم جماعياً أو أن نطردهم؛ ومن الأفضل طردهم". لكن كيف يمكن تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي؟ معظم القادة الصهيونيين، في تلك الفترة، لم يطرحوا فكرة الطرد الجماعي ،  إذا لم يظهر الفلسطينيون مقاومة، ولم يهاجموا أهدافًا يهودية بعد تصويت الجمعية العامة لتقسيم فلسطين ، وإذا لم تغادر النخبة الفلسطينية المدن. كان من الصعب على الحركة الصهيونية تحقيق رؤيتها لفلسطين التي تم تطهيرها عرقيا ، ولكن أحد قادة الصهيونية ، يعترف  بأن خطة داليث كانت خطة شاملة لتطهير فلسطين عرقيًا ، وقد ظهرت كآلية نهائية ردًا على تطورات الأحداث ،ولكن هذه الرغبة كانت دائمًا متأصلة في الأيديولوجية الصهيونية وهدفها، الدولة اليهودية الخالصة ، كان الهدف واضحًا منذ البداية ، تجفيف  فلسطين من الفلسطينيين ، لكن وسائل تحقيقه بشكل أكثر فعالية ،تطورت بالتزامن مع التقدم الفعلي للاحتلال العسكري للأراضي الفلسطينية التي كان من المفترض أن تضم دولة إسرائيل اليهودية الجديدة.

عن كتاب : Le nettoyage ethnique de la Palestine Ilan Pappé 
الحلقة القادمة : بن غوريون يعلن عن التطهير العرقي كخيار استراتيجي للكيان الصهيوني