للحصول على أكبر حصة ممكنة من أرض فلسطين مع أقل عدد ممكن من الفلسطينيين ، كان على الصهاينة أن يبدأوا بتحديد ما يشكل دولة قابلة للحياة جغرافياً. منح القرار الأممي 181 اليهود ، النقب والساحل، وأودية الشرق، والجليل السفلي، لكن الحركة الصهيونية لم تكن ترى هذا الإجراء كافياً ، لهذا كان بن غوريون يعقد اجتماعات منتظمة مع ما كان يسميه "مجلس الحرب" الخاص به، هيئة غير رسمية ، تتكون من الضباط اليهود الذين اشتغلوا مع الجيش البريطاني .
في اجتماعاته مع مجلس الحرب ، استطاع بن غوريون أن يقنع الضباط ،بالاستعداد لاحتلال فلسطين بأكملها، في أكتوبر 1947، كتب إلى الجنرال أفرايم بن أرتزي، أنه يريد إنشاء قوة عسكرية ، قادرة على صد هجوم محتمل من الدول العربية المجاورة ،واحتلال أكبر قدر ممكن من البلاد، في انتظار السيطرة الكاملة على أرض فلسطين . لقد قرر القادة الصهيونيون تحديد حدود دولتهم المستقبلية ،اعتمادا على موقع المستوطنات اليهودية الأكثر بعدًا، لتصبحت كل المناطق المتواجدة بين المستوطنات المعزولة أرضا يهودية ، أحيطت في البداية بمناطق أمنية ، لعبت دور حواجز بين المناطق الفلسطينية ، وقد وضعوا ضمن الاحتمالات أن تقتطع بعض المناطق في شرق فلسطين وهي الضفة الغربية الحالية ، لتصبح جزءا من الأردن الكبير ، خاصة بعد أن دخلت الحركة الصهيونية في مفاوضات مع الهاشميين .
في نهاية عام 1946، بدأت الوكالة اليهودية مفاوضات مكثفة مع عبد الله ملك الأردن، كان عبد الله من عائلة الهاشميين الملكية التي كانت تستقر في الحجاز ، معلوم أن الهاشميين قدموا خدمات للبريطانيين ، خلال الحرب العالمية الأولى ،لمكافأتهم على الخدمات التي قدموها للتاج البريطاني ، منحت لهم بريطانيا مملكتي العراق والأردن، التي تم إنشاؤها بموجب نظام الانتداب. في مراسلات بين الحسين وماك ماهون من عام 1915-1916، وعدت بريطانيا الهاشميين بمنحهم سوريا ، لأن البريطانيين كانوا يحولون دون سيطرة فرنسا على هذه المنطقة ، لكن عندما طرد الفرنسيون فيصل، شقيق عبد الله من سوريا، فقد عوضه البريطانيون بمنحه العراق، الذي كان من المنتظر منحه للملك عبد الله.
بصفته الابن الأكبر للسلالة الهاشمية ، لم يكن عبدالله راضيًا عن الحصة التي حصل عليها جراء تلك الاتفاقيات، بعد أن تم اقتطاع الحجاز موطن الهاشميين ليمنح للسعوديين سنة 1924 .
إن الأرض التي منحت للهاشميين مقابل الحجاز، كانت عبارة عن إمارة صحراوية قاحلة، تسكنها قبائل من البدو وأخرى شركسية، من هنا نفهم أهداف المفاوضات مع الحركة الصهيونية ، ذلك أن الملك عبد الله كان يريد أن يتوسع تجاه الأراضي الخصبة، المزروعة، التي كانت تتوفر في فلسطين، وبما أن الغاية تبرر جميع الوسائل، فقد أدرك الملك عبد الله أن أفضل طريقة لتحقيق هدفه، هي أن يعقد علاقات طيبة مع الزعماء الصهاينة ، لهذا سيسارع الملك مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، إلى إبرام اتفاق مبدئي مع الوكالة اليهودية لتقاسم فلسطين بعد انتهاء الانتداب.
بعد ذلك تحولت الأفكار السرية حول تقسيم فلسطين إلى مفاوضات علنية وجادة، بدأت بعد مباشرة التصويت على القرار 181، ونظرًا لأن هناك عددا قليلا جدًا من المستوطنات اليهودية، في المنطقة التي أراد الملك ضمها إلى الأردن (الضفة الغربية الحالية)، أبدى معظم قادة الحركة الصهيونية استعدادهم للتنازل عن هذا الجزء من فلسطين للملك عبد الله ، في وقت لاحق أعرب الكثير من القادة الصهيونيين عن أسفهم لهذا القرار ، ودعموا الهجوم على الضفة الغربية خلال حرب يونيو 1967، لكن في تلك الفترة، كانت الصفقة الأردنية-الصهيونية مغرية للغاية ، حيث وعد الملك عبدالله بعدم المشاركة في العمليات العسكرية العربية ضد الكيان الصهيوني .
عرفت المفاوضات بين الطرفين مراحل من التقدم والتراجع مع اقتراب نهاية الانتداب، لكن الاتفاق استمر، ليس فقط نتيجة قلة عدد اليهود في الضفة الغربية، ولكن أيضًا لأن الأردنيين بمساعدة من كتيبة عراقية، نجحوا في صد محاولات اليهود المتكررة لاحتلال بعض المناطق الغربية الأردنية ، وكانت هذه المعركة أول وآخر معركة ينتصر فيها جيش عربي على جيش الكيان الصهيوني .
كانت الحركة الصهيونية تتطلع إلى الاستيلاء على كامل فلسطين، باستثناء الضفة الغربية ، ذلك أن القادة الصهيونيين كانوا جادين في وعودهم، بعد أن قبل الأردنيون التواطؤ معهم ضد الفلسطينيين، لذلك كانت توقعات القيادة الصهيونية، أن تمتد دولتهم المستقبلية على أكثر من 80٪ من فلسطين الانتداب، أما الـ 20٪ المتبقية تخلوا عنها للأردنيين.
كان هذا التفاهم السري مع الأردن ، بمثابة الخطوة الثانية التي أدت إلى أن تسير خطط التطهير العرقي دون مقاومة حقيقية، ذلك أن التفاهم السري كان يعطل تدخل الجيش العربي، ولم يسمح له بمواجهة القوات الصهيونية إلا في جزء صغير جدًا من فلسطين، بدون الجيش الأردني، لم يكن لدى الوطن العربي أي وسيلة مجدية للدفاع عن الفلسطينيين، أو لعرقلة مشروع الصهيونيين لإنشاء دولة صهيونية في فلسطين .
الخطوة الثالثة - وربما تكون الأكثر حسماً - لضمان نجاح التطهير العرقي، كانت ضرورة توفير القدرات العسكرية المناسبة، أراد المجلس الاستشاري الصهيوني أن يكون متأكدا من أن القوة العسكرية المتاحة للحركة الصهيونية كانت كافية لتنفيذ خطتها بنجاح: السيطرة على جزء كبير من فلسطين ، تهجير الفلسطينيين الذين يعيشون فيها، بالإضافة إلى تولي إدارة شؤون البلاد مباشرة بعد مغادرة آخر جنود بريطانيا، التمكن من وقف أي محاولة لغزو الدولة اليهودية الناشئة من قبل العرب، وتنفيذ التطهير العرقي في جميع المناطق التي سينتزعونها من الفلسطينيين ، لذا أصبح من الحيوي في خطط الصهيونية أن يتوفروا على جيش من المحترفين ذوي الكفاءة العالية لبناء دولة صهيونية قوية في فلسطين الانتداب .
قبل حرب 1948، كانت قوات الجيش الصهيوني تبلغ حوالي 50،000 جندي، منهم 000 30 من المقاتلين، وبقية الجنود كانوا من المساعدين الذين كانوا يعيشون في مختلف المستوطنات، في مايو 1948، كانت هذه القوات تستفيد من دعم الطائرات والبحرية ، بالإضافة إلى وحدات الدبابات والمركبات المدرعة والمدفعية الثقيلة، في الجانب الآخر، كانت هناك وحدات شبه عسكرية ت من المقاتلين الفلسطينيين ،لا يتجاوز عددهم 7،000 رجل، في فبراير 1948، انضم إليهم ألف متطوع من الوطن العربي ، ثم ارتفع عددهم إلى 3،000 خلال الأشهر اللاحقة ، غير أنها كانت قوة قتالية بدون هيكل تنظيمي أو تسلسل هرمي، وكان تجهيزها بعيدًا عن مستوى خصمها. في مايو 1948، توصل الجيش الصهيوني الحديث النشأة ، بشحنة كبيرة من المعدات الثقيلة من تشيكوسلوفاكيا ، بينما جلبت الجيوش العربية النظامية عددًا ضئيلا من الأسلحة الثقيلة إلى معسكرها. بعد بداية الحرب ببضعة أسابيع، تبين أن التعبئة الصهيونية كانت فعالة، لدرجة أن الجيش كان يضم 80،000 جنديًا بحلول نهاية الصيف ، بينما لم تتجاوز القوة العربية النظامية أبدًا عتبة الـ 50،000 رجل، ولم تعد تتلقى أسلحة من بريطانيا، التي كانت تعتبر المورد الرئيسي لها.
خلال المراحل الأولى للتطهير العرقي (حتى مايو 1948)، كان عدد قليل من المقاتلين الفلسطينيين والعرب غير النظاميين، يواجهون عشرات الآلاف من الجنود الصهيونيين المدربين جيدًا. لم يكن عدد القوات الصهيونية ، يتجاوز عدد جميع الجيوش العربية مجتمعة، إلا أنها لم تجد صعوبة كبيرة في إنهاء مهمتها ، إلى جانب القوة العسكرية الصهيونية الرئيسية، كانت تعمل مجموعتان متطرفتان هما الإرغون ،المعروف أيضًا باسم إتزيل باللغة العبرية)، ومجموعة ستيرن (ليهي). وُلِد الإرغون من انشقاق عن الهاغاناه عام 1931، في الأربعينيات، كان يقودها مناحيم بيغن ، كانت مجموعة ستيرن فرعًا للإرغون، انفصلت عنها عام 1940، شكلت الهاغاناه، والإرغون، ومجموعة ستيرن، جيشا واحدا أثناء النكبة ، كان جزءًا هامًا من الجيش العسكري الصهيوني ، إلى جانب وحدات القوات الخاصة المعروفة باسم بالماح، التي تأسست عام 1941، في الأصل، تم إنشاء بالماح لمساعدة الجيش البريطاني في حربه ضد النازيين في حال تقدمهم نحو فلسطين ، لكن سرعان ما تم توجيه حماس ونشاط هذه الفرقة ضد الفلسطينيين ، بدءًا من عام 1944، كان بالماح القوة الرئيسية التي شاركت في بناء المستوطنات اليهودية الجديدة، قبل تفكيكها في خريف عام 1948، كان أعضاؤها نشطين للغاية ، وقاموا بتنفيذ بعض العمليات الرئيسية للتطهير العرقي في شمال ووسط فلسطين .
في عمليات التطهير العرقي التي تلت ذلك، كانت الهاغانه و بالماح و الإرغون هي القوات التي قامت فعليًا باحتلال القرى ، بعد السيطرة عليها، كانت توضع تحت قيادة تشكيلة أقل قتالية، تعرف باسم الحش بالعبرية ، وهي نوع من الفريق اللوجستي التابع للقوات الصهيونية، وقد تأسست عام 1939، ارتكبت فظائع كثيرة رافقت عمليات التطهير على يد هذه الوحدات المساعدة. يتبع
عن كتاب : Le nettoyage ethnique de la Palestine Ilan Pappé
العدد القادم: سيناريوهات أبوكاليبتية استعدادا للهولوكوست الثاني