كان هذا هو العنوان الذي اختاره الكاتب محمد يسين لمجموعته القصصية الثانية، التي صدرت عن دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر بالرباط سنة 2023.
بأسلوب بسيط ولغة رشيقة يرحل بنا الكاتب إلى عوالم حمودة، تلك العوالم المبهجة التي تجعل ابتسامة ترتسم على وجه القارئ منذ أن يضع خطوته الأولى فيها، وإلى أن يودعها في آخر سطر، مع توديع "العجوز" لمعشوقته السوداء.
"خواطر حمودة" هي من نوع الكتب التي تحب أن تكون رفيقتك في رحلة طويلة على متن قطار، أو فوق السحاب في رحلة طيران، أو داخل حافلة متوجهة إلى مكان بعيد. لذا تمنيت أن تكون في واجهة رف الأكشاك التي كانت تجد مكانها في محطات السفر العمومية، والتي كانت تتنافس في التبرج على منصاتها الكتب والمجلات والجرائد، قبل أن تغير وجهتها وتكتفي ببيع الحلويات والمشروبات للمسافرين.
قبل أن أكشف آثار ما تركته هذه المجموعة القصصية على ذاكرتي، لابد من الامتنان لعصافير شرفة الكاتب محمد يسين، فهي التي أقنعته أنه "بفعل الكتابة والقراءة أنت موجود.." وربما للخوف من الزهايمر بعض الامتنان أيضا، لأنه بفعل القراءة والكتابة "لن تتقلص مناطق بدماغك تاركة عتمة هنا وهناك " كما أخبره هدهد صديق لعصافيره.
لحظات من الحاضر، تستفز ذاكرة "حمودة"، عائدة به إلى قريته النائية "ب"عين الشهبة" حيث كان الناس يعتقدون أن "بلارج" أو طائر اللقلاق مقدس يستوجب الاحترام من الجميع وأنه "راه يلا تعديتي على هذاك الشريف راك ما تنجحش.." وحيث يتجاور هذا الطائر المقدس مع "شريف" آخر كان يكفي أن يلقي بركته المملحة في فم المريد ليتحقق النجاح. لكن حمودة لم يحترم قوانين القرية، فاستحق الرسوب في الشهادة الابتدائية، دون أن يعرف ربما إلى اليوم، ما إذا كانت لعنة "بلارج" أقوى من "بركة الشريف"
وتمضي الصفحات متعرجة بين أزيد من ثلاثين فصلا، متهادية بين زمنين، بين زمن حمودة الطفل القروي المشاغب، وزمن "العجوز" المسكون بالسياسة وشأنها العام، تجمع بينهما لغة ترقص بين الطرافة والسخرية.
من كل زمن يتحفنا النص بكلمات ومعاني وقيم خاصة به؛ هناك في القرية البعيدة حيث سالف عيشة، ومقدم الزاوية، وساعة السقي، والربع المعكس، والمسيد والتحريرة ، والمنفط وهي عصا تستعمل لجني الزيتون، والطليسة...وغيرها من الكلمات التي استوطنت قرية ولاد عميار في ستينيات القرن الماضي.
وهنا في زمن كوفيد حيث جزيرة "نبيالا" ، والحملات الترويجية للاستحقاقات الانتخابية لعام 2020، والحجر الصحي، وجماعة المقصيين، وصخرة الويفي..
أحيانا يلتقي الزمانان في مصادفة غريبة، كما حدث عندما كان الكل ينتظر خبرا عن اكتشاف علاج "كوفيد التاسع عشر الجبار" والذي ربما يكون في نبتة الصبار المتناثر في قرية "ولاد عميار" على جنبات المقبرة، ووادي أحمري، وصولا إلى مزار سيدي علي.."
وعلى طول الرحلة بين ضفتي المجموعة القصصية "خواطر حمودة في رصد وقائع فريدة" والتي امتدت سنوات طويلة بين ملامح طفولية و شعر كسته السنين باللون الرمادي، لا يتخلى بعض الرفاق عن حمودة.
لقد قرر "حمودة" أن يدون بعضا من ذكرياته هو يحتسي فنجان قهوة، ووضع نقطة النهاية وهو يقلب ملعقة صغيرة في فنجان آخر.
كما أن طيور اللقلاق، لا تبقى هناك في الجبل وفي الزمن الماضي بضواحي مدينة تاهلة، بل تستمر في التحليق في سماء مدينة الرباط، وتسترجع حضورها ،كما فعلت حيوانات أخرى، في زمن كوفيد غير المجيد.
دون أن ننسى عصافير الشرفة، التي اعتقدت بعد أن طويت صفحات الكتاب، أني أعرفها وأنها تتكلم فعلا
ولا ينسى محمد يسين نضاله "من أجل مجتمع قارئ" ولا أن "القراءة قضيتنا الأولى"، فيحتفظ لها بمكان في شذراته، ويبوح بلحظة يأس نافرة ما عاد يرى فيها "للقراءة نفعا مع تقدم المسير نحو المجهول، في جغرافية كثرت ندوبها، وأصبحت عصية على الفهم" قبل أن تتدخل العصافير معاتبة ذلك الرجل الذي "ابيض شعره وغير موقفه من تصريف الفعل القرائي".
ختاما، وفي انتظار المزيد من مغامرات حمودة في "ولاد عميار"، عواشركم مبروكة.