كريم بابا: من يرسم صورة المعلم في الدراما المغربية؟

كريم بابا: من يرسم صورة المعلم في الدراما المغربية؟ كريم بابا وصورة لسلسلة أولاد يزة
ضمن التفاعل مع ما يروج على منصات التواصل الاجتماعي بشأن استياء رجال التعليم من تنميط صورة المعلم، في السلسلة التلفزيونية "أولاد يزة"، توصلت جريدة "أنفاس بريس" بوجهة نظر كريم بابا، الحاصل على دكتوراه في الدراما والوسائط، والذي يناقش فيها جزئية صورة "المعلم" في الدراما:

تفاعلا مع موضوع صورة المعلم بإحدى السلسلات الدرامية الرمضانية المعنونة بـ"أولاد يزة"، الذي يبث في هذا الموسم الحزين، الذي تعلو سماءه غيمةٌ من الحزن على ما يقع بأرض الديانات السماوية، وقبلة المسلمين الأولى من قتل وتجويع غير مسبوق في العصر الحديث. أما على المستوى المحلي، فالمدرسة المغربية استعادت قبل أسابيع من بداية السنة الجارية (2024) إيقاعها "الطبيعي" بعد ثلاثة أشهر من الجمود بسبب أزمة ما عُرِفَ بـ"النظام الأساسي" لموظفي وزارة التربية الوطنية، وهو حراك قطاعي أضفى بظلاله على الوضع السياسي والنقابي للبلد، وانتزع النقاش حول التعليم بالمغرب مرة أخرى صدر عناوين الأخبار واللقاءات الإعلامية وحلقات النقاش بين الفاعلين في المجال، سواء بشكل رسمي أو مفتوح.

وبالنظر لهذا المعطى المحلي الهام، لم يكن من الطبيعي أن يغيب هذا الحدث عن الفاعل الثقافي عموما، وبشكل خاص عن المنتوج الدرامي، خاصة أن شهر رمضان يعد بالنسبة للمنتجين وقنوات البث فرصة ومحطة مهمة للقاء الجمهور والتنافس على نيل رضاه، أملا في تحقيق نسب مشاهدة عالية تعود بشكل إيجابي على عائدات الإشهار التي تستفيد منها المنصات الباثة لتلك الأعمال. فكان أن وافق عرض سلسلة "أولاد يزة" هذا السياق الخاص. فهل هو مجرد صدفة أم اختيار واع وذكي؟ مع العلم أنه كثيرا ما انْتُـقِـدَتْ الأعمال الدرامية (مسرح أو سينما) لعدم تطرقها لقضايا اجتماعية وثقافية راهنة غير تلك المكررة وفي مقدمتها شخصية (العروبي). وما زاد من إثارة الموضوع (صورة المعلم في الدراما) وحِدَّةِ الجدل المرافق لعرضه هو تقديمه لصورة كاريكاتيرية لشخصية "علي" المعلم، ابن "يزة". 

عدت للمنصة الأشهر لعرض الوسائط المتعددة من أجل مشاهدة هذا المحتوى الدرامي موضوع النقاش، وافترضت أن العمل مقبول جماليا وفنيا لتجاوز الحكم المتسرع، بحكم أننا في بداية السلسلة ولا يمكن تقديم قراءة شاملة عن العمل، رغم أن التصور الإخراجي يكشف عن ذاته منذ الحلقات الأولى. لكن انطلاقا من التجربة فإنه في كثير من الأحيان يبدأ العمل بشكل "جيد" ويحقق الرضى لدى الجمهور (العام والنقاد)، لكن مع توالي الحلقات، تتنامى الفراغات والفجوات وتتكشف هواجس الإنتاج تحت ضغط الوقت، وبالتالي يؤثر ذلك على جودة العمل في مجمله، والعكس صحيح. 

وتحقيقا للتفاعل الهادئ والمساهمة برأي قد يصيب أو يخطئ في قضية انتقلتْ من مجرد ردود أفعال افتراضية تلقائية، لا يستند بعضها لأي ثقافة بصرية كافية، إلى إصدار هيئات نقابية تعليمية لبلاغات تستنكر فيها ما يتم عرضه في دراما رمضان، وتدوين مواقف شخصية لفاعلين تربويين إزاء مكانة المعلم في الشاشة، وذهاب البعض إلى اعتبار الأمر استهدافا لمكانة المدرس وتواطؤا وجب مواجهته !! 

رجوعا لسلسلة "أولاد يزة"، وقفت بدايةً عند مشاهدتي للحلقات الثلاث عند الجينيريك، حيث تؤدي شارة مقدمة السلسلة، وهي أغنية معروفة في تراث العيطة، اختار صانع هذا العمل جزءا من كلماتها ووظفها في هذا العمل التلفزيوني. وهي كما يلي: 
سعدي أنا بأولادي عمارت الدار * فرحي أنا شكون بحالي أنا في الدنيا 
الزين والثبات بلعمان وسط الدوار * يجيني الصداق عليهم ونقول ميا 
الزين إلى قالو سلالة * أولادي كي السبوعا رجالة 
التجريدة والضحكة غزالة * جايبين العز وديما لوالا 

هذه إذن هي كلمات الأغنية الشعبية التي تؤديها الممثلة دنيا بوتازوت في شارة السلسلة الفكاهية "أولاد يزة" التي تلعب فيها دور البطولة (يزة)، وهي، حسب ما وصلتُ إليه في الحلقة الثالثة، أم لابنين "علي" (المعلم)، و"مراد" (المهاجر). ويظهر في هذا المقطع الزَّجَلِي فخر "يزة" بأبنائها وتَغَنِّيها بحظها الذي وهبها أبناءً هم مصدر سعادتها واعتزازها، لجمالهم وقوتهم وشجاعتهم، وهي صفات تشمل ضمنيا أحد أبنائها (علي المعلم) الذي يؤدي دوره الممثل عبد الفتاح الغرباوي. 

إذن، وانطلاقا من هذه العتبة الأولى، أين هو ذلك التبخيس والهجوم الذي اتهم به العمل؟ أليست الأغنية احتفاء بالولد/المعلم الذي هو واحد من أبناء "يزة"؟؟ وإذا كان العمل يسعى إلى المس بالمكانة الاعتبارية للمعلم، لماذا سيختار القائمون عليه هذه الأغنية ذات المضمون الإيجابي حد الجذبة؟؟ .

تتبعت الحلقات الثلاث واقتفيت مشاهِدَهَا، مفترضا سوء النية في العمل دائما، لكني وجدت أنه لا يمكن أن يقدَّم "علي" المُعَلِّم إلا بتلك الصورة، لأن الشخوص الرئيسية لسلسلة فكاهية، لا تتعدى مدة الحلقة الواحدة فيها نصف ساعة، لا يمكن أن تغرق في التفاصيل خارج الشخصية المركزية وهي "يزة"، فالكل يتفاعل مع هذه الأخيرة، في صورة أقرب إلى القصة القصيرة، حيث البطل مركز كل الأحداث والفاعل الرئيسي في تطور أحداثها. مع التذكير مرة أخرى أنني هنا لست بصدد قراءة في العمل ككل، ولهذا فقد انطلقت منذ البداية من فرضية أن العمل مقبول فنيا. 

أستحضر، في هذا السياق المتعلق بصورة المعلم، مدرسا ناجحا ينحدر من البادية ومخضرما في قطاع التعليم المدرسي، ويجمع بين عمله الوظيفي الرئيسي، ويقتطع له وقتا ثابتا في العمل الفلاحي. يعرفه أصدقاؤه أنه يذهب إلى مقر عمله بسيارة يضع فيها صندوق كلب الصيد لديه (الطاروس)، وصادف أن حضرت مرة شراءه للوازم القنص من محل تجاري متخصص. كما أن حديثه كله "تقشاب" ونكت تمتح من معجم "الرما"، وهي جماعة من رجال القرية يكون لهم قانون داخلي عرفي صارم يفرض عليهم الاستجابة لأي دعوة للقنص أو السفر للمواسم الشعبية. إذن، هل يقدم هذا النموذج الواقعي صورة تسيء لمهنته لأنه لا يضع كتبا حول الفلسفة وعلوم التربية بسيارته؟؟ أو أن حديثه لا تجد فيه مصطلحات من معجم النقابة والمجتمع المدني وقضايا المدرسة الوطنية.. كما هو حال جل الأساتذة في لقاءاتهم؟؟ .

عودة لسلسلة "أولاد يزة"، أجد أن شخصية "علي" تعكس خفة دم واضحة، إضافة إلى محاولة المخرج استنساخ شكل درامي مستهلك حول تحولات القيم المغربية التي كانت متجذرة في العلاقات العائلية، وإن بدت في صورة الشخصية الساذجة (المعلم علي)، وقد ظهر ذلك في علاقته بأمه وكيف أنه سايرها وكسب رضاها عندما أرادت أن تقف في وجه زواجه، رغم أن اعتراضها انهار بعدما سلمها دملجا ذهبيا كان قد "أهدته" له عروسه. كما لا يجب أن ننسى أن الفضاء الذي يجمع "علي" بوالدته هو فضاء الأسرة والبيت وليس القسم أو المدرسة. أليس المعلم إنسانا له مواقفه واختياراته مثلنا بعيدا عن الصورة المثالية التي في جزء منها مبالغ فيه ولا تعكس الحقيقة؟ ألا يقع المعلم تحت سلطة المجتمع وينهار ويستسلم؟ ألا توجد نماذج إنسانية متفردة في قطاع التعليم كسائر القطاعات الوظيفية؟ .

وخلاصة القول، فإن التبئير على مهنة أو حرفة أو ثقافة، في السياق الفني، لا يمكن محاكمة نوايا منتجيه والتعصب للشخصيات وصورة تقديمها دفاعا عن انتمائنا في الواقع، وبآليات خارج ما هو جمالي وفني، بل إن ذاكرتنا تحفظ الكثير من الأعمال الفنية الساخرة التي قُدِّمَت عن الأطر التربوية والإدارية بقلب المؤسسات والمعاهد العليا والجامعات.. 

وعالميا، ألم تقدم السينما الأمريكية أفلاما يُجْمِع المؤرخون على أنها تغالط الحقيقة التاريخية في حالات متعددة، كالحرب الأمريكية الفيتنامية، وواقع الهنود الحمر (سكان أمريكا اللاتينية) في أفلام رعاة البقر (الويسترن)؟ إضافة إلى حالات إقليمية كثيرة يتداخل فيها الثابت واقعيا والنسبي فنيا.. لكن، ما الذي جعلنا "مغرمين" بمتابعتها وحفظ موسيقاها التصويرية واحتفاء النقاد بتلك التجربة السينمائية الثابتة في الريبرتوار العالمي؟ أليست الصنعة السينمائية هي السر في ذلك؟  نعم إنها الأهم بالنسبة لقراءة العمل الفني شكلا أولا، وتقديم الموقف اتجاه مضمونه ثانيا. 

وختاما، أعتقد أن تفاعل المجتمع مع المضامين الفنية والإعلامية، سواء كانت تخييلية أو واقعية، فهو مؤشر حياة وليست دائما غوغائية، بشرط أن تبتعد عن التعصب المهني أو الفكري أو المذهبي الذي يكرس الحجر والمنع المخالف لقيم الحرية والإبداع، مع ضرورة التمييز كذلك بين ما يصدر عن الهيئات السياسية من مواقف اتجاه ممارسة مهنية مثلا، كما في حالة تصريح مسؤول حكومي لم يرق الأساتذة وبدا لهم أنه تهجم غير مقبول في مواجهة موقفهم النضالي من عرض الحكومة في موضوع "النظام الأساسي"، وبين الخطاب الفني المرتكز أساسا على الانزياح.

إذن، من يرسم صورة المعلم؟ هل سلطته المعرفية داخل المؤسسة التربوية أم يستعيرها من الشاشات؟ 
هو سؤال سيبقى مستمرا مادام أنه لا اتفاق حول جوابه حتى داخل المنظومة التربوية.