في تخريجة عدائية جديدة لم تكن منتظرة، طلع بها علينا نظام الجزائر كعادة زلاته، تقضي ــ ودون مقدمات ــ بفتح مكتب بالعاصمة الجزائرية لما يسمى بـ "الحزب الوطني الريفي". وقد عقد فاروق الريفي، ممثل هذا الحزب مؤتمرا صحفيا بالمناسبة، أكد فيه «أن حزبه يدافع عن استقلال الريف» ويعتزم «طرح قضية الريف على الأمم المتحدة» بسبب ما سماه «الجرائم البشعة التي ارتكبتها السلطات المغربية» على حد تعبيره.
فماذا وراء هذه المقامرة الجزائرية الجديدة/ القديمة ذات البعد الانفصالي لمملكة 12 قرن؟، التي جاءت لتتراكم وتنضاف إلى خردة المغالطات والمناورات والدسائس الجزائرية الاستفزازية في حق المغرب الهادئ المستكين المراقب المتابع، لسياسة قادة الاستعمار الجدد الذين أضناهم الركض وراء كل ما من شأنه أن يزعزع استقرار وأمن المملكة الشريفة ويعرقل مسيرتها التنموية ويحد من صيت وسمعتها الدولية المرموقة وصلاتها الواسعة إفريقيا وعربيا وأوربيا وأمريكيا.
الخطوة الجزائرية، لم تحرك ساكنا من جانب المغاربة ملكا وحكومة وشعبا، فقد يكون الأمر مفاجأة لكن العرض المسرحي الجزائري دعاهم إلى السخرية، بعدما اعتادوا على التعامل مع مثل هذه المناورات والمغامرات، بالصمت وغض الطرف وعدم الالتفات إلى هذا النزق السياسي والتحرشات المتواصل.
لكن دعونا نبحث عن مسبباتها هذه العَمْلَة لحكام قصر المرادية، في قراءة متواضعة، لما يكون قد دفع بهم الى اتخاذ مثل هذا القرار وجَنّدَهم من جديد ورفع سقف تحدياتهم...
- فإما أن حكام الجزائر لم يدرسوا تاريخ المغرب وبالتالي بدا لهم أن عملية دخول مغامرة الريف هكذا مسلحين بحزب مجهول ستكون من السهولة بِمَكانْ تنفيذ مخططها، أو أنهم يئسوا من بلوغ مرادهم في قضية الصحراء فقرروا اعتماد مخطط ثاني «ما قدو الفيل زيدوه الفيلة» لإرباك المغرب وإشغاله بقضية أخرى، وهو ما يفيد بأن على المغرب انتظار مخطط انفصالي ثالث ورابع وخامس تحبل به الجزائر لتلد لنا أجساما كرتونية معوقة مشوهة تفتقر لمقومات الحياة، تمارس بها هوايتها الانفصالية.
- قد يكون الدافع الأساسي أيضا من وراء الخطوة الجزائرية الغير المحسوبة العواقب التغطية على المشكلة الرئيسية المستعصية الحل على قادة الجزائر، والتي تقض مضاجعهم والقابعة كقنبلة في أحضان دعاة تقرير المصير ومناصريه ليكتووا بنارها، استعدادَ رئيس القبائل للإعلان عن ميلاد دولة القبائل في 20 أبريل 2024، وإعلان استقلالها والاحتفال بعيدها الوطني، في خطوة ضاغطة تهديدية للسلطات الجزائرية، إذا لم تقم بإعادة ترتيب الأوضاع بمنطقة القبائل ومنح الشعب القبائلي كافة حقوقه واستعادة حرياته المسلوبة وإطلاق سراح المعتقلين وإلغاء قرارات الإعدام وغيرها. في مواجهة ميدانية متواصلة تكشف عن مسلسل صراع دموي قوي مجسد على أرض الواقع بين السلطة وسكان منطقة القبائل.
- بأية حجج وبراهين سترافع الجزائر على قضية الريف أمام دول العالم، وهي لم تتخلص بعد من ورطتها الصحراوية، بالتأكيد ستدافع عن ملف لا شأن لها به سوى التدخل في الشؤون الداخلية لبلد جار وإقحام نفسها فيما لا يعنيها والداء الانفصالي في قلب بيتها. وقد اكتشف العالم من خلال ملف الصحراء المغربية زيف ادعاءاتها، وكَوْنَ هذا النزاع لا يعدو سوى خلافات قديمة يتحجج بها ورثة بومدين ويجترونها لإدامة حالة الفرقة والتنافر بين البلدين، والوقوف في وجه كل محاولات التقارب والاندماج والتعاون البناء الذي يخدم المصالح الواسعة ثنائيا ومغاربيا.
- يأتي افتتاح مكتب انفصالي بالعاصمة الجزائر بتدبير وتخطيط وإرادة وإدارة وتمويل وتوجيه واحتضان وكلفة ثقيلة برفع علم وفتح مكتب وتجنيد دبلوماسي وشراء ذمم ولهت وركض، كلها عوامل لن تزيد سوى في خلق مزيد من المتاعب والصعوبات والارهاق والاستنزاف المالي لخزينة دولة البقرة الحلوب، خزينة يتربص بها من تحضنهم للتحرك والعلاوات والهدايا والهبات والسفريات وفنادق 5 نجوم وغيرها. فما على الجزائر سوى الاستعداد لمسلسل جديد درامي أقحمت فيه نفسها في وضع لا تحسد عليه.
- هذه السياسة في التقسيم والتشطير للأمم والأقوام هي سياسة معروفة نجدها عند الدول الاستعمارية من مخلفات القرنين 19 و20، وهي سياسة مارستها دول أوربية بإفريقيا وآسيا والوطن العربي. ويبدو من خلال مبادرات حكام الجزائر أنهم تبنوا النهج الاستعماري، حين لبسوا عباء الاستعمار المطبوعة بضمان ديمومة زرع الفتن والنزاعات والحروب بين دول وشعوب المنطقة. وما مشاكل الجزائر مع العديد من الدول الإفريقية والمغرب، سوى صورة للأدوار المنبوذة التي تم الانتفاض عليها، ردا على سياستها التي حرصت من خلالها على تجزئة المجزأ والسعي لتفتيت دول الجوار، وشغلها بمشاكل داخلية وصراعات من أجل الحفاظ على الحدود الموروثة التي كسبتها الجزائر من الاستعمار، وجعلتها بقدرة قادر عاشر دولة في العالم من حيث المساحة الجغرافية المسروقة غربا وشرقا وجنوبا زمن الحقبة الاستعمارية الفرنسية، لدولة لم تر النور حتى سنة 1962، لذلك لا تمثل الجزائر اليوم بالمنطقة سوى تركة استعمارية أرضا وسياسة ونهجا وبؤرة لتصدير النزاعات والمشاكل، وبتعريف دقيق «دولة الفوضى الهدامة» بشمال إفريقيا والساحل والصحراء.
- اهتمام قادة الجزائر بقضية الريف في هذا الوقت بالذات، يدعو البوليساريو إلى أن تأخذه على محمل الجد، فهو بمثابة دخول منافس جديد في الانشغال السياسي والتمويلي وأجندة الأولويات للجزائر، وعلى قادة البوليساريو تأمل المشهد الراهن والمستقبلي جيدا بالجزائر المتقلبة المزاج والمصالح التي تعيش على صفيح ساخن داخليا، وانتهاز فرصة إجراء قراءة نقدية لمواقفهم، والانفتاح على الوطن الأم من بوابة المشروع المغربي للحكم الذاتي، الذي يحظى بدعم دولي كاسح، وعدم الارتهان إلى قرارات وتوجيهات وتعليمات حكام الجزائر والعيش تحت رحمة نظام حكـم عسكري ديكتاتوري مهدد داخليا وخارجيا. لذلك قد يكون التوجه الجزائري نحو الريف فرصة لانعتاق صحراوي تندوف.
- تَغَيُر التوجه في الصراع الجزائري مع المغرب من الصحراء إلى فتح جبهة الريف، قد يكون جاء نتيجة 49 سنة من التعب والإرهاق والاستنزاف والانهاك السياسي والمالي والعسكري والدبلوماسي والاقتصادي برمال الصحراء المغربية، التي ضاع حظهم بها، فتحطمت آمالهم وفشلت مخططاتهم ومؤامراتهم أمام الإرادة المغربية الصلبة ملكا وشعبا في التمسك بالوحدة الترابية، وكسب المعركة الدبلوماسية على المستوى الدولي بتزايد عدد الدول التي اعترفت بمغربية الصحراء وبادرت دول عربية وأجنبية إلى فتح قنصلياتها بمدن العيون والداخلة، فضلا عن الدينامية الاقتصادية والاجتماعية التي وظفها المغرب للنهوض بأوضاع أقاليمه الجنوبية، وتعزيز بنياتها التحتية، وفتح أوراش كبرى للاستثمار برا وبحرا، دفعت الدول الكبرى إلى الاقبال على الاستثمار في المنطقة الصحراوية. كلها عوامل ضيقت الخناق على الجزائر وأضعفت موقفها وبددت مشاريعها الانفصالية وأطماعها في الصحراء المغربية واللهث وراء حلم الراحل بومدين في الوصول إلى منفذ بحري على المحيط الاطلسي.
- الجزائر اليوم أمام ورطة جديدة بالمنطقة، تدعو دولها إلى الاحتراز وأخذ الحيطة والحذر من سياستها الهادفة إلى التقسيم وزعزعة الاستقرار والاخلال بالأمن وخلق بؤر التوتر والنزاع ومحاولة لعب دور دركي المنطقة، فعرقلت مشروع الوحدة المغاربية، ورفضت الحوار مع المغرب وأغلقت الحدود بكل أشكالها وقطعت الصلات، واتجهت نحو التحالفات المضادة وتسميم العلاقات بين الدول المغاربية، والسعي لاحتواء دول بالمنطقة ترى بأنها ضعيفة وضمها تحت عباءتها تونس نموذج، كل هذه الأجواء جعلت المنطقة على شفى حفرة من الحرب. والمغامرة الجزائرية الجديدة بمحاولة إشعال الفتنة بالريف لا تخرج عن هذه الأهداف التخريبية.
- إن مثل هذه التنظيمات والحركات الانفصالية منتشرة بكل بقاع العالم بإسبانيا، تركيا، العراق، جنوب إفريقيا، الصين، وروسيا، وإيران والجزائر نفسها إقليم القبائل، والتي تطالب بتقرير المصير والاستقلال، وبحكم أن قادة الجزائر يدعون أنهم يحملون لواء الدفاع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها وأنهم قبلة ثوار العالم، فلماذا لا يتبنون قضايا مثل هذه الحركات كحالات: كطالونيا بإسبانيا، وأكراد تركيا، وكيب الغربي بجنوب إفريقيا، وإقليم بافاريا بألمانيا، وعربستان بإيران، ويفتحون مكاتب لها بالعاصمة الجزائرية ويناصرون قضاياها ويمولونها سلاحا ومالا ودبلوماسية، كما هو الشأن بالنسبة للمغرب بفتح مكتب للبوليساريو وفتح مكتب الريف وفتح مكتب الله أعلم غدا، نموذج آخر للاستهتار والانحطاط السياسي الجزائري الرخيص والبغيض...
- لقد أساءت الجزائر بفعلتها إلى أهل الريف الأحرار، بشرائها ذمة أحد خونة الوطن وضعاف النفوس. وقد سبق للجزائر أن خاضت مثل هذه التجربة حين اختبرت وطنيين مغاربة شرفاء لجأوا إليها سنوات الستينيات من القرن الماضي وحاولت تجنيدهم ضد بلدهم المغرب، لكنهم رفضوا أجندتها التخريبية وتمسكوا بوطنيتهم، فغادر معظمهم الجزائر إلى وجهة أخرى، ورغم محاولات إغرائهم سياسيا وماليا ومحاولة استغلال الظروف التي مروا بها في ذلك الوقت، فإنهم أظهروا شجاعة وإخلاصا وروحا وطنية عالية، في رفض تلك المؤامرات التي حاول أبو الفتن الرئيس الراحل هواري بومدين ومعاونيه إقحامهم بها.
- كل هذه المؤامرات الجزائرية لا تؤدي سوى إلى استنكار وامتعاض الشعب المغربي من حكام الجزائر ومحاولاتهم العبث بأمن واستقرار البلاد، فلن تربكه أو تنال من قدره ومكانته أو تزعزع ثقته بوطنيته ومملكته العريقة، كما لن يزيده حكام الجزائر إلا تمسكا وإصرارا على الدفاع عن وحدته الترابية من الصحراء إلى الريف، ولعساكر الجزائر تجربة 49 سنة من المقاومة المغربية الشرسة للمخطط الانفصالي الذي طلعوا منه بـ «خُفَيْ حُنَيْن»، رغم أن ضحية هذه السياسة بالدرجة الأولى هو الشعب الجزائري الشقيق الذي دفع ضريبة وكلفة الصراع على حساب عيشه الكريم وازدهاره ورفاهيته .
- المغرب معروف مغاربيا وعربيا وإفريقيا ودوليا، أنه بلد الاستقرار والأمان ويسعى لحسن الجوار ورسائل وخطابات جلالة الملك محمد السادس، واضحة مبنية على أسس الحوار والتفاهم هذه رسالة الدبلوماسية الملكية. ومن يسعى إلى إثارة الفتنة والحرب بالمنطقة برمتها فعليه أن يتحمل مسؤوليتها كاملة أمام العالم، فلن نفتح أوكرانيا جديدة بشمال إفريقيا وجنوب أوربا، التي آن الأوان لكي يلتفت الأوربيون إلى هذا الثور الجزائري الهائج بالمنطقة «فُتُوَة الحارة» وكبح جماحه، وكفانا من غزل الغاز، فأمن شمال إفريقيا واستقرارها جزء من أمن أوربا.
قد تكون قضية الريف التي اختلقها نظام الجزائر اليوم ترمي إلى استفزاز المغرب ودفعه إلى الرد بصيغة أو أخرى على هذه المناورات والدفع بالمنطقة نحو الفتنة، التي يجد فيها حكام الجزائر منفذا للإفلات من المشاكل السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية العويصة التي تحاصرهم داخل البلاد. أما المغرب فلن يلتفت إلى مثل هذه المهاترات والانزلاقات الجزائرية المتكررة، والريف كباقي ربوع الوطن، كان وسيظل أهله متشبثين بوطنيتهم الصادقة، متمسكين بوحدة بلاهم في إطار التعبئة الشاملة لكل المغاربة، منشغلين بقضايا التنمية والبناء والتقدم والازدهار.