أحمد الحطاب: علم الله وعِلم البشر

أحمد الحطاب: علم الله وعِلم البشر أحمد الحطاب
عِلم الله عِلمٌ محيط بكل شيء، أي علم واحد شامل ولامتناهي. لماذا عِلمُ الله لامتناهي؟
لامتناهي، أي لا نهايةَ له. لامتناهي لأن اللهَ يخلُقُ ما يشاء مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (النور، 45).
ما يُلاحظ في هذه الآية الكريمة، هو أن فِعلَ "خَلَقَ" جاء على صيغة الماضي،ولا حينما قال سبحانه وتعالى: "...خَلَقَ كلَّ دابَّة مِن ماء…" بينما في آخِرِ الآية، قال سبحانه وتعالى : "...يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". في هذا الجزء من الآية، فِعلُ "خَلَقَ" جاء على صيغة المضارع علما أنه، نحوِيا، الفِعلُ المضارع يُستعمل للدلالة على شيءٍ يحدث في الزمن الحاضر وفي المستقبل. وهذا يعني أن "الخَلقَ"، من منظور إلهي، لا نهاية له. كان هذا الخَلقُ ولا يزال وسيستمر علماً أن الشيءَ لا يمكن أن يكونَ بدون علمٍ.
لماذا عِلمُ اللهِ عِلمٌ شامل و واحدٌ؟ لأن الكونَ عبارةٌ عن وحدة أجزاءها متناسقة، متناغمة ومتجانسة. ومَن خَلقَ كونا متناسقا، له معرفة بهذا الكونَ ويعرفه بكيفية دقيقة، وفي نفس الوقت، بكيفية شاملة. وهذا يعني أن وحدةَ الكون تستلزم وحدةَ العِلم. وهو ما أكَّده القرآن الكريم الذي وردت فيه كلمة "عِلم" في صيغة المفرد ولا أثر فيه لجَمعِها، أي "علوم".
وهنا، لا بد من توضيح أعتبره، أنا شخصيا، مهما جدا. قد يقول قائلٌ أن العِلمَ المشارَ إليه في القرآن الكريم له علاقة فقط وحصريا بالمجال الديني. لا أبدا. لماذا؟
لأن العِلمَ المشارَ إليه في القرآن الكريم علمٌ شاملٌ يُغطِّي الكون كلَّه. والدليل على ذلك أن اللهَ سبحانه وتعالى يقول : …أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا" (الطلاق، 12). كلمتان مهمتان في هذا الجزء من الآية 12 من سورة الطلاق وهما "أحاط" و"شيء".
"أحاط" تعني شَمِلَ علمُ الله كل شيء. أما "شيء"، فتعني كل ما هو موجود في الكون. والشيء يمكن أن يكونَ ماديا أو معنويا. ولهذا، فالعلم الذي ورد في القرآن الكريم يشمل الكونَ كلَّه ومكوِّناتِه وكيفيةَ اشتغاله وسر تماسكه وتوازنه واستمراره مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى: "قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (آل عمران، 29).
يقول، سبحانه وتعالى، في هذه الآية : "...إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ". ولماذا قال : "...وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ…"؟ ليؤكِّدَ لمَن يهمُّهم الأمرُ أنه لا يعلم فقط ما في الصدور، بل يعلم كذلك ما يجري في السموات وما في الأرض. والسموات إشارةٌ للكون. وإلى حدَّ الآن، لم يعرف البشرُ عن هذا الكون إلا النزرَ القليلَ، رغم ما حصل من تقدُّم في العلم، بصفة عامة، وبالأخص، في علم الفيزياء الفلكية astrophysique. أما الأرض، فالله، سبحانه وتعالى، خلقَها لتدور حول نفسِها وحول الشمس. فهل هذا الدوران حول نفسها وحول الشمس يحكمه، فقط وحصريا، العلمُ الذي له علاقة بالمجال الديني؟ بل هناك قوانين فيزيائية هي التي تتحكَّم في هذا الدوران.
إذن، العلمُ الذي ورد في القرآن الكريم، في صيغة المفرد، هو العلم الشامل، الواحد واللامتناهي. إنه يشمل العلوم التي لها علاقة بالدين وما توصَّلت إليه العلوم الدنيوية من إنجازات ومعارف. وما يعرفه اللهُ، سبحانه وتعالى، عن الكون وعن الأرض، لا حدودَ له، مصداقا لقوله، عزَّ وجلَّ : "…وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ…" (البقرة، 255)، أي أن العلومَ التي توصَّل إليها البشرّ، في القرنين الماضيين، لا تُساوي إلا الشيءَ القليلَ بالمقارنة مع علمِ الله.
يُضاف إلى هذا أن علومَ البشر ظنيةٌ sciences hypothétiques ou conjecturales ou approximatives، أي علوم غير ثابتة، لأنها تتغير ارتباطا بالزمان والمكان. وهذا شيءٌ لا جدالَ فيه لأن العلومَ البشريةَ تعتمد على النظريات théories. وليس هناك نظريةٌ علميةٌ واحدة لم يطرأ عليها أي تغيير منذ نشأتها.
يبنما علمَ اللهِ علمٌ مطلقٌ، أي غير مرتبط لا بزمان ولا بمكان، أو بعبارة أخرى، علمٌ الله أزلي، كلُّه حقائق. وكثير من علم الله يندرج في علم الغيب. والغيبُ لا يعلمُه إلا هو، سبحانه وتعالى، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّه وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (النمل، 65).
ورجوعا إلى علمُ البشر فهو، أولا وقبل كل شيء، علمٌ نسبي. نسبي لأنه مرتبط بفكر الإنسان وبالزمان والمكان اللذان يعيش فيهما هذا الإنسانُ. وكون العلم البشري نسبيا يجعل منه، كما أسلفتُ، علما قابلا للتغيير. وعندما نقول إن علمَ الإنسان مرتبطٌ بالزمان والمكان، فهذا يعني أن هناك تفاعلا بين هذين العنصرين وفِكر هذا الإنسان. وهذا التَّفاعل هو الذي يقود إلى التَّغيير التَّدريجي والمتواصل للعلمِ البشري.
والتغيير الذي عرفه علمُ الإنسان عبر العصور أدى إلى تراكُم المعارف بمختلف مشاربها واهتماماتها. وهو الشيء الذي أدى بدوره إلى تقسيم العلمِ البشري إلى عدة علوم متخصِّصة. والاختصاصُ هو الشيء الذي تتميَّز به حاليا المعرفة البشرية أو العلم البشري. السؤال المطروح هو الآتي : ما هو الهدف من كل هذه العلوم التي بدأ الإنسانُ في إنتاجها منذ وجودِه على سطح الأرض؟
للجواب على هذا السؤال، علينا أن نتذكّرَ أن اللهَ، سبحانه وتعالى، كلَّف عبادَه بإعمار الأرض وإعمارُ الأرض لا يمكن أن يتمَّ بدون فكرٍ وتفكيرٍ وبحثٍ ومعرفة وعلمٍ وتجربةٍ وتفاعلٍ متبادل بين البشر والأوساط التي يعيشون فيها…
وحتى يتمكَّن بنو آدم من القيام بمهمة الإعمار، فإنه، جلَّ جلالُه، سخَّر للبشر بعضاً من علمه الشامل والواسع. وهذا هو ما أكَّده سبحانه وتعالى، كما أسلفتُ، في قوله : "...وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ…" (البقرة، 255) أو مصداقا لقولِه سبحانه وتعالى: "...وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء، 85). وهذا يعني أن العلمَ البشري، مهما توسَّع ومهما تراكم، يبقى محدودا مقارنةً بعلمِ الله الذي يشمل الكونَ كله بأرضه وسماواتِه وما بينهما ونجومه وكواكبه ومُكوِّناتِه ومَخلوقاته…
أما الفرقُ الشاسع بين العلمِ الإلهي والعلم البشري، فإنه يكمن في كون العلمِ الإلهي علماً أزلياً و غير مسبوق بجهلٍ بينما العلمُ البشري، فضلا عن ما تطرأ عليه من تغييرات، ينطلق دائما من الجهل (الجهل بمعنى عدم المعرفة وليس الجهل المرتبط بما هو أخلاقي واجتماعي) الذي يدفع البشرَ إلى الرغبة في المعرفة. والرغبة في المعرفة لا يمكن أن تؤتيَ أُكلَها إلا بعد القيام بجُهدٍ فكري أو ببحث منظَّم وله قواعده. كما أن الرغبةَ في المعرفة تقود إما لإغناء الرصيد المعرفي البشري (بجميع مشاربه)، وإما لاكتشافٍ أو لاختراعٍ أو لتحويل بعض المعارف إلى أشياء ملموسة (مواد جديدة، أساليب جديدة صناعية، اقتصادية، اجتماعية، تكنولوجية، بيئية، تسييرية…) يكون لها وقعٌ على سَير الحياة بجميع مظاهرها.
لكن ما يجب أن يُثَارَ له الانتباه، هو أن الأبحاث العلمية التي تتم داخل أو خارج المختبرات، سواءً أدَّت إلى إغناء الرصيد المعرفي البشري أو أدَّت إلى اكتشاف أو اختراع أو إلى تطبيقات ملموسة، فإن الهدفَ منها هو إيجادُ حلول لمشكلات يُصادفُها الباحث في سيروريتِه العلمية أو يطرحها السَّيرُ العادي للحياة اليومية في كل المجالات.
غير أن جلَّ الأبحاث، إن أتت بحلولٍ للمشكلات المطروحة، فإنها، في نفس الوقت، تأتي بمشكلات جديدة تستدعي استمرار البحث وهكذا. أليس هذا تأكيد للآيتين الكريمتين السابقتي الذكر، رقم 255 من سورة البقرة ورقم 85 من سورة الإسراء اللتان مفادهما أن العلمَ البشري محدود، مهما تعاظمَ وتراكمَ، بالمقارنة مع علمِ اللهِ الأزلي، الشامل واللامتناهي. فهل هناك حِكمةٌ في محدودية العلمِ البشري؟
حسب رأيي الشخصي، هناك حكمةٌ من الأهمٍِية بمكان. تكمن هذه الأهمية في كون طبيعة الإنسان تتأرجح بين الخير والشر. وهذا يعني أن الإنسانَ، إما أن ينزعَ نحو الخير وإما أن ينزعَ نحو الشر وذلك حسب البيئة التي يعيش فيها أو الثقافة المحيطة به. فبإمكان الإنسان (فرد أو جماعة) أن يتركَ الخيرَ جانباً ويطغى إما بماله أو جاهه أو مكانته في المجتمع أو بعلمه… وهو ما تشير له الآية رقم 6 من سورة العلق : "كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ".
ولسنا في حاجة إلى أدلة على هذا الطغيان المرتبط بالعلم. فالإنسان هو الذي، بعلمه، صنع القنبلة الذرية. وهو الذي صنع الأسلحة الفتاكة وصنع مواد كيميائية تسيء للطبيعة والإنسان نفسه. وهو الذي، بصناعته غير الصديقة للبيئة، تسبَّب في الاحتباس الحراري الذي، بدوره، تسبَّب في تغيير المناخ الذي، بدوره، تسبَّب في اختلال التوازنات الطبيعية، التي، بدورها، تسبَّبت في اختلال الفصول وفي شُح الأمطار وفي حدوث الفيضانات… ناهيك عن المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية المترتِّبة عن هذه الاختلالات.
وفي ختام هذه المقالة، أقول : أليس طغيان العلم هو الذي قسَّم العالمَ إلى دولٍ غنية ودول فقيرة، إلى دول متقدمة ودول متخلِّفة، إلى دول نامية ودول سائرة في طريق النمو، إلى دول الشمال ودول الجنوب، إلى عالم أول وعالم ثالث، إلى مجموعة 7 ومجموعة 7+1 ومجموعة 20…؟ والغريب في الأمر أن دولا كثيرةً لا تزال، رغم هذا التقسيم الجائر، لم تقتنع بأهمية العلم وانعكاساته الإيجابية على كل مرافق الحياة!