فلسفة الإسلام ونظرته إلى الفرد والجماعة هي نظرة شمولية انسانية واحدة، لا نظرة إقصاء طرف على حساب الطرف الآخر " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.. " فليس للفرد في الإسلام الحق في أن يطغى على الجماعة، وليس للجماعة كذلك الحق في أن تطغى على الفرد..
وليس أبلغ في الدلالة على هذه النظرة الإنسانية العقلانية الرافضة لمنطق الفردية المُطلَقة من هذه الصورة الجميلة التي يرسمها الحديث النبوي الشريف: "إن قومًا ركبوا سفينة، فاقتسموا فصار لكل منهم مَوضِع، فنقَر رجل منهم موضعه بفأسه، فقالوا له: ما تصنع؟ قال: هو مكاني أصنع فيه ما أشاء، فإن أخذوا على يده نجا ونجوا جميعا، وإن تركوه هلك وهلكوا جميعا"، ولهذا دستور المدينة الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم اعتبر المواطن القاطن في المدينة له جميع الحقوق بغض النظر عن دينه أو لونه أو قبيلته، له ماله وعليه ما عليه، فهو كباقي أفراد المجتمع؛ جميعهم على ظهر سفينة الوطن ،فإن حاولت مجموعة ما، أو حزب ما، أو تيار ما ، أو طائفة دينية ما، إلحاق الضرر بهذه السفينة (أي الوطن) ينبغي على الوطن (أي الدولة) التدخل لحماية الجميع من مخاطرها وأضرارها؛ بحيث الدول الوطنية الحديثة اليوم هي بمثابة الأم الحاضنة لأبنائها تحميهم جميعا من بعضهم البعض، وتحميهم كذلك من العدو الخارجي إن وجد؛ لكن للأسف مفهوم الدولة الوطنية عند بعض المتنطعين في الدين لهم مفهوم سلبي عدمي غير المفهوم النبيل الذي أشرنا إليه؛ بحيث يعتبرون حب الوطن والإنتماء إليه هو كفر وشرك بالله تعالى؛ لأن فكرهم العقيم ونظرتهم الضيقة لمقاصد الدين الإسلامي دفعهم دفعا إلى الريب والشك، وظنوا ظن السوء بأن هناك تعارض بين الانتماء للوطن والإنتماء للدين، مع أنه لا يوجد تعارض بينهما أبدا؛ فالوطن القوي واستقراره وأمنه وسلامته وتقدمه وازدهاره هو في حد ذاته قوة للدين وحماية له..
وأن الوطن الضعيف المشتت الممزق لا يستطيع أن يحمي الدين والعقيدة والقيم والأخلاق، وهذا مجرب ومعروف عبر محطات التاريخ الإسلامي القديم والحديث، أنظر مثلا: أفغانستان، سوريا، العراق، ليبيا.. فقيام الدين وانتشاره وازدهاره ونموه وتقدمه لا يكون إلا في ظل الدول المستقرة الآمنة والعادلة،وما شرع الجهاد والحرب في الإسلام إلا من أجل حماية هذا الوطن والدفاع عنه، يقول تعالى: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ"كما ندرك قيمة الوطن وحبه والولاء له من كلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حينما خرج من مكّة المكرّمة وأناخ راحلته ونظر إلى موطنه ومسقط رأسه ببكة، وهو يقول: "والله أنّك لأحبّ البلاد إليّ، وأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أنّ قومك أخرجوني منك ما خرجت أبداً"، فكانت تلك المشاعر النّبويّة هي تعبيرٌ صادق عن الوطن والولاء له؛ لهذا مفهوم الإسلام للوطن مفهوم وجدانيّ يحمله الإنسان في قلبه اتجاه وطنه..
ففي هذا الوطن ذكريات الإنسان الأولى، وفي هذا الوطن يستشعر الإنسان كرامته ويبني آماله وطموحه، ويحقّق أحلامه، ويبني مسكنه وينال حقوقه؛ بل إنّ الإسلام ليؤكّد على أهميّة الوطن وأنّ محبته هي فطرة وجدانية إنسانيّة، كمحبة الطفل لأمه التي أرضعته وعاش في كنف أحضانها، فكيف سيتخلى عنها، ومن يتخلى عن أمه أو أبيه فهو عاق لوالديه، وخائن لهما، وكذلك عقوق الوطن وخيانته لا تقل خطورة عن عقوق الوالدين، فبما أن نظرة القرآن للإنسان نظرة تقدير واحترام وتكريم "ولقد كرمنا بني آدم"وكلمة آدم هنا تشمل جميع البشر مسلم وغير مسلم، فهذه الأسس القرآنية الربانية قام عليها التشريع الإسلامي وهي تحقيق مصالح العباد جميعًا، والحفاظ عليهم وعلى كرامتهم وأعراضهم وأموالهم ودمائهم..
من أجل ذلك كان من الضروريات التي أوصت الشريعة بالحفاظ عليها ورعايتها،وحثت على صيانتها، حفظ النفس الإنسانية، الذي يعني حفظ الدماء البشرية من أن تهدر وتسفك، فمن سفك دم شخص واحد، فكأنما سفك دماء البشر أجمعين، قال تعالى: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ"، لكن تصوروا معي إذا لم يكن هناك وطن ولا سلطان ولا قانون ولا قضاء.. من سيحمي دماء الناس ومصالحهم وكرامتهم وأعراضهم ..؟ يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: " كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه".