نادرا ما تصادف فيلما عربيا يستحق الوقوف عنده والاهتمام به لتكامل أبعاده الفكرية والفنية والتقنية أيضا. شاهدت اليوم الفيلم الأردني "إن شاء الله ولد" لأمجد الرشيد، المشاهدة متأخرة نوعا ما، لكن أن تشاهد متأخرا خير من أن لا تُشاهد أبداً، الفيلم من إنتاج 2003 ويعتبر أول عمل سينمائي أردني يشارك في مهرجان كان السينمائي، وهو حقا جدير بالمشاهدة والتحليل، كونه عملا غاص في قضية شائكة ومعقدة لا تخص المجتمع الأردني وحده، بل جل المجتمعات العربية، والجميل أنه ناقشها برؤية فنية وفكرية متميزة بعيدة عن الخطابة والوعظ .
زوجة شابة، وجدت نفسها أرملة، فأصبح مصيرها فجأة تحت رحمة فأر المطبخ من جهة، وقانون الأحوال الـشخصـية من جهة أخرى، الفأر رمز للضيف غير مرغوب فيه، وللكائن الطفيلي المقزز الذي يقتحم حياة الآخرين ويعتاش على قوتهم وعرقهم، فبسببه مُنعت من استخدام مطبخها بأريحية، خوفا ورهبة منه، إذ أضحى هاجسها الأكبر في البيت، وقد تزامن ظهوره في السياق الدرامي بظهور شقيق زوجها المتوفى، الذي اقتحم حياتها فجأة مطاردا ومطالبا إياها بتسديد ما على زوجها من دين، وببيع المنزل وتوزيع الإرث، كونها لم تلد ولدا ذكرا، يمنعه من مشاركتها الإرث، وحتى البنت الوحيدة التي لديها يحاول العم انتزاعها منها بفرض الوصاية عليها.
يتصاعد الخط الدرامي بعد الوفاة مباشرة حيث تجد نوال/الأرملة نفسها وحيدة تصارع مجتمعا بأكمله، مجتمعا ذكوريا بقوانيه وتقاليده وأعرافه، المعاناة والألم لم تتلقاهما من عائلة زوجها فقط، بل من شقيقها الذي يقف محايدا مرة، ومساندا شقيق زوجها مرة أخرى دون تقديم يد العون لأخته، بل أكثر من هذا تكتشف ان زوجها نفسه كان يخونها، فتصبح المصيبة مزدوجة، والآلام مضاعفة، الجميل أن الفيلم لم يتوقف عند نوال الأرملة الفقيرة المحجبة المسلمة التي يتحكم في مصيرها قانونا باليا مهترئا، بل جعل مصيرها يتقاطع مع مصير زوجة شابة أخرى، من عائلة مسيحية ثرية اسمها لورين، تعيش تحت كنف قانون آخر ظالم يمنعها من الطلاق رغم ان زوجها يخونها مع نساء أخريات، لورين تجد نفسها حبلى من زوجها، فتسعى للتخلص من الجنين، في نفس الوقت الذي تحلم فيه نوال بذات الحمل، ذاك الحمل شبه المستحيل، فرغم أن كل المشاكل والمصائب التي تتخبط فيها نوال هي بسبب الرجل، فاستعادة حياتها مجددا وخلاصها يبقى في يد مولود ذكر، وهي مفارقة رمزية تظهر كنه وطبيعة مجتمعاتنا العربية.
الفيلم هادئ رغم إيقاعه المتسارع، وقد قامت فيه الممثلة منى حوا بمجهود تشخيصي مميز ورائع ومقنع جدا، فشخصية نوال التي أدتها هي عصب العمل ككل، ومنها تنطلق الأحداث وحولها تحوم باقي الشخصيات، والمهم أن هذه الشخصية رغم أنها تعيش داخل كل هذه المحن والمصائب إلا أنها شخصية غير مهزوزة قوية وعنيدة، صارعت الى آخر نفس، لكن في نفس الوقت هي امرأة ككل النساء تخشى الفئران وتضعف أمامها، هي إشارة ذكية من المخرج وقد توفق في اللعب بها، الفيلم تفنن في إظهار تفاصيل مشاعر الشخصية وانفعالاتها الداخلية، وأقحمنا داخل تشابكاتها المصيرية، من خلال زوايا التصوير، واللقطات القريبة والقريبة جدا...
عندما اكتشفت نوال وفاة زوجها وضعتُ أصبعي على زر التسريع، كنت أنتظر مشهد الصراخ والعويل الذي يصاحب كل وفاة في أفلامنا العربية، حتى أسرّعه وأتجاوزه لكن المخرج أمجد الرشيد فاجأني حقيقة حيث مر بكل سلاسة، وهدوء، وذكاء من مشهد الوفاة الى مشهد العزاء، فشكرا لهذا المخرج الذي عافانا من الأذى الذي ابتلينا به في أفلام عربية أخرى.