الطيب بياض يبرز تشابك العلم بالنضال في شخصية المؤرخ الراحل ابراهيم ياسين

الطيب بياض يبرز تشابك العلم بالنضال في شخصية المؤرخ  الراحل ابراهيم ياسين الطيب بياض ( يمينا) والراحل إبراهيم ياسين
في هذا المقال يستحضر الطيب بياض، أستاذ التاريخ الراهن بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان، الثلاثية "القيمية المشيدة" لشخصية المرحوم إبراهيم ياسين، ويتعلق الأمر بصفاء السريرة ونقاء الطوية وبهاء الروح. كما تحدث عن تشابك العلم بالنضال السياسي الذي بصم مسار هذا القيادي اليساري في الحزب الاشتراكي الموحد الذي يعتبر لوحده حلقة دراسية لا يمكن تجاوزها للاطلاع على حقيقة اليسار في المغرب..
 
قد يكون من النادر أن يلتفت أهل صنعة التاريخ إلى أنهم لا يدونون تواريخ غيرهم فحسب، بل هم أيضا يعيشون تجارب ذاتية أو جماعية في سياقات تاريخية مختلفة، بما يعنيه ذلك من مسارات شخصية تُكتب، يسجلها التاريخ ضمنيا إما لهم أو عليهم. وإذا حصل أن أخطأهم الحظ وانزوى عنهم اليقين، ولم يلتفتوا لهذا الأمر، ينتهي بهم المسير، وقد بلغوا من العمر أرذله، إلى ترديد ما أنشده مارسيل خليفة: "درسنا تواريخ، حفظنا تواريخ، إجا التاريخ طعمانا كف".
غير أن النبهاء من المؤرخين لا يخونهم حدسهم، يقودهم وعيهم التاريخي إلى إدراك أنهم عابرون في زمن عابر، فيحرصون على رسم مسارات شخصية نوعية بريشة القِيم، بالقدر الذي يُصِرُّون على تلمس طُرق المعالجة الموضوعية لمواضيع أبحاثهم صونا لشرف المهنة وسعيا لضمان أمد حياة أطول لإنتاجاتهم.
انتمى المرحوم إبراهيم ياسين إلى هذا العينة من المؤرخين، بفعل ثلاثية قيمية مُشَيِّدة لشخصيته: صفاء السريرة ونقاء الطوية وبهاء الروح. كانت للأصول وتربة الانتماء ولا شك كلمتها في هذا الشأن، والبقية الباقية تكفلت بها مدرسة النضال الوطني الصادق، التي شذبت وهذبت ونحتت أيقونة إنسانية متفردة حملت ذاك الاسم.
لست أدري لماذا يحضر اسمه في ذهني مرارا، مقترنا باسم المرحوم عبد الرحمان المودن، هل لأن علاقتي بهما معا كانت محدودة في الزمن، متباعدة اللقاءات، لكن زخمها وعمقهما وأثرها فاق توقعاتي؟ المرة الوحيدة التي قابلتهما فيها مجتمعين، كانت ذات شتاء قبل حوالي عقدين من الزمن، وأنا أجلس أمامهما في قاعة الاجتماعات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق بالدار البيضاء، مترشحا لنيل منصب أستاذ التعليم العالي مساعد تخصص تاريخ معاصر. كانا من بين أكثر أعضاء اللجنة تفاعلا بلغة حكيمة وعميقة وأنيقة، جعلتني حينها أنتشي برقي التفاعل، ناسيا أنني خارج لتوي من مباراة قد تحدد بوصلة مستقبلي.
وكم كان إبراهيم ياسين كاشفا عن جوهر معدنه النفيس، وهو يجيب صديقه المصطفى بوعزيز، عن سؤاله بخصوص نتيجة المباراة: "هنيئا لشعبتكم! ستلتحق بها نُقلة طيبة".  نضح إناؤه بما فيه، وفاض بطيبوبته.
سنتين بعد ذلك حلَّ الفقيد إبراهيم ياسين بكلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق بالدار البيضاء، هذه المرة ضيفا على مجموعة البحث حول الذاكرة، ليتحدث عن ذاكرة اليسار وتجربته داخلها. خاض في تمرين الحديث عن الذات بموضوعية، تاركا مسافة منهجية مع أناه المناضلة منتصرا لأناه العالمة. تحدث عن اليسار بنَفس نقدي، دون جلد للذات ولا تحنيط للتجربة. اتخذ من السياقات المفسرة للأحداث دليلا هاديا للإمساك بعناصر تفسير الكثير من القرارات والاختيارات.
ضمن المنحى نفسه، الذي يشتبك فيه العلم بالنضال، قيض لي أن ألتقيه، مرة أخرى، لحظة تأسيس مركز محمد بن سعيد آيت إيدر للدراسات سنة 2011. حصل الاحتكاك عن قرب، خاصة أثناء اجتماعاتنا داخل المكتب المديري للمركز. حينها فهمت معنى كلمة قالها لي سابقا أحد رفاق ظهر المهراز بفاس، متحدثا عن اجتماعات مكونات اليسار في أفق تشكيل الحزب الاشتراكي الموحد، وكيف كان يسود صمت رهيب بمجرد أن يأخذ إبراهيم ياسين الكلمة، فيجُبُّ الهدوء ما سبقه من صخب. كلمة تضمنت تعبيرا باللغة العامية: "عندما يتحدث إبراهيم ياسين يفرض على الجميع أن «يطرطق»  أذنيه"، لكنها أكثر فصاحة وبيانا للدلالة عن معنى أن يكون في صفوف اليسار المغربي حكيم من طينة إبراهيم ياسين، يفرض على المعارض لرأيه قبل المؤيد له أن يرهف إليه السمع جيدا.
لم يكن الرفيق مغاليا، لأن من قُدر له أن يحضر اجتماعا مع إبراهيم ياسين، سيكتشف أن الرجل يفرض هيبته بالصمت قبل الحديث، إذ يمكنه أن يطيل الإصغاء للجميع في هيبة ووقار، وحين يتحدث يخيل إلى المستمع إليه كما لو أن نسيما روحيا يهب على الفضاء قادما من جهة الشرق؛ حيث حِكم شرق آسيا تمتزج بحِكم الإغريق قبل أن تصل المحيط الأطلسي.
في خريف سنة 2014، كنت على موعد بمدينة مراكش مع لحظة معرفية منتجة بامتياز، أتاحها حوار مع المرحوم إبراهيم ياسين حول الاختيارات الاقتصادية للمغرب بعد حصوله على الاستقلال. جاء مقترح إدراج اسمه ضمن لائحة ضمت مجموعة من الاقتصاديين والباحثين ورجال الأعمال من طرف زميلي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط مصطفى القادري. للأمانة لم أفهم سر الاقتراح إلا بعد أن شرعت في إجراء الحوار، فالموضوع دقيق للغاية يهم صناعة القرار الاقتصادي في المغرب الراهن، يجري فيه تحليل الاختيارات الاقتصادية للبلاد. والفكرة التي كانت لدي بعد لقاء الدار البيضاء حول ذاكرة اليسار، أن الأستاذ إبراهيم ياسين متمكن من التاريخ السياسي ومدرك لتعقيدات العلاقة بين الذاكرة والتاريخ، وفاتني الانتباه حينها إلى أن رصيده المعرفي يتجاوز تلك التصنيفات الكلاسيكية المرتبطة بالتخصصات الضيقة.
استغرق الحوار زهاء ساعتين، جال بي خلاله بين مختلف المخططات الاقتصادية. حلل بأدوات التاريخ الراهن استراتيجيات ورهانات تدبير تركة الحماية، على مستوى الاختيارات الاقتصادية للمغرب المستقل. توقف عند المخطط الثنائي الانتقالي لحكومة بلافريج، قبل أن يغوص في تفاصيل المخطط الخماسي1960 – 1964 الذي هندس عبد الرحيم بوعبيد برنامجه داخل حكومة عبد الله إبراهيم، ثم عالج بنَفس نقدي عميق تجربتي المغربة والخوصصة، مستحضرا مسألتي السيادة والانعكاسات الاجتماعية لمختلف هذه القرارات الاقتصادية.
كنت أصيخ السمع بإمعان لذلك التحليل العميق والدقيق لتشابك خيوط يصعب فيها عزل الاقتصادي عن الاجتماعي والسياسي، ويلتبس فيها مهماز القرار بين صناعة محلية ووصفة أجنبية. ومع تقدم أطوار الحوار  الذي استدعى التفاعل، والخروج من  نمطية سؤال/جواب على النمط الصحفي، لاح أكثر من مرة طيف إبراهيم بوطالب، من خلال محاضرته"بعض قضايا التاريخ الاقتصادي في المغرب" التي قدمها يوم 15 نونبر 1984 بدعوة  من جمعية موظفي كلية الآداب بالرباط، قبل أن يعمل على  نشرها في العدد الخامس من مجلة المشروع سنة 1985.
كان الوعي التاريخي عند إبراهيم ياسين عميقا ومتجليا في الكثير من تفاصيل مشروعه الفكري، لذلك لم يكن مستغربا أن يعالج قضايا، عادة ما، يتسلل فيها الوجداني إلى أعمال المؤرخين، برصانة علمية وانتصار لذاته العالمة قبل أي انتماء آخر. وللقارىء أن يعود في هذا الشأن إلى كتابيه: "الأمير عبد القادر والسلطان المغربي عبد الرحمان، من التعاون إلى الصراع، دراسة تاريخية: 1832- 1847"،  و"جنوب أطلس مراكش تحت حكم الفرنسيين والقادة الكلاويين، آثار الاحتلال الفرنسي لبلاد أيت واوزكيت".
بيد أن البديع الرفيع وروعة الصنيع في نوعية الوعي التاريخي لدى إبراهيم ياسين هو أنه محمول على بساط منظومة قيم نبيلة وراقية، مما أضفى على أعماله صدقا متفردا وجعلها تتمتع بمصداقية نوعية وأمد حياة أطول حتى ولو توقفت حياة صاحبها. حلت الذات، برمزية الحلولية الصوفية، في ما أنتجت، ورحم الله من توقف نبضه وخلَّدَهُ علمه ..