منذ تعيين عبد اللطيف الحموشي، في ماي 2015، مديرا عاما للأمن الوطني مع احتفاظه بمنصبه كمدير عام لـ "الديستي" (إدارة مراقبة التراب الوطني)، دخل المغرب إلى حيز أمني مضيء، عنوانه العريض هو المضي في تقعيد الاحترافية والمهنية والنجاعة، فضلا عن رؤية تشمل الأهداف الاستراتيجية للمغرب، على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، إلى جانب كيفية استثمار الموارد البشرية والمالية والعلمية والتكنولوجية واللوجيستية، والعمل مع الشركاء الدوليين وتشجيع روح المبادرة، وضمان الاستعداد والجاهزية ورفع الأداء المهني، وإقرار نظام متكامل للحوافز، على أسس مضبوطة لا مجال فيها للعفوية أو الزبونية.
وبالفعل، فإن إسناد هذين المنصبين في يد الحموشي من طرف الملك محمد السادس يُقرأ، أولا، على أنه تكريم لـ «حنكة الرجل وتجربته»؛ وثانيا بوصفه تكليفا ملكيا لـ "إعطاء دينامية جديدة للإدارة العامة للأمن الوطني وتطوير وعصرنة أساليب عملها"، كما جاء في بلاغ للديوان الملكي عقب قرار التعيين والاستقبال الذي حظي به الرجل من طرف الملك محمد السادس.
كان هذا هو الرهان الذي رفعه الحموشي: الانتقال بالجهاز الأمني المغربي من منطقة الظل إلى منطقة الضوء، حيث تمكن، ما إن تسلم مقود القيادة، من تحويل إدارته إلى وجهة دولية، وأصبح المسؤولون الأمنيون بأوروبا وأمريكا وإفريقيا والشرق الأوسط، وحتى بعض الدول الأسيوية، يترددون على الرباط من أجل إبرام اتفاقيات أمنية تهم التكوين والتنسيق والتعاون في المجال الأمني، خاصة أن إدارة الحموشي أبانت في منحى تصاعدي عن حرفية ومهنية عالية في محطات حاسمة تتصل كلها بمكافحة الإرهاب والاتجار الدولي في المخدرات وتهريب البشر، وكل أشكال الجريمة المنظمة.
الحموشي مع مدير الأمن الفرنسي
الاعتراف الأممي
وقد سمح هذا المعطى ببروز «الديبلوماسية الأمنية» التي انعكست تأثيراتها على مجمل القرارات بين المغرب وشركائه في الخارج، وليس أدل على ذلك من التقارير الدولية التي تمتدح كفاءة الإدارة الأمنية المغربية ونديتها واحترافيتها وعلو كعبها في محاربة «الإرهاب» و«الجريمة العابرة للقارات»، فضلا عن شهادات أقوى المخابرات في العالم التي بات رؤساؤها ومديروها يشدون الرحال إلى الرباط من أجل إقامة تعاون ثنائي أو تطويره، سعيا منهم إلى الاستفادة من الخبرة المغربية، وأيضا من الشبكة الكبيرة التي أقامها من خلال «بنك المعلومات الأمنية» التي أتاحت لدول يشهد بعراقة أجهزتها الاستخباراتية تجنب ضربات إرهابية وشيكة.
إنه معطى حاسم ومثير للانتباه يدل أساسا على جدارة واستحقاق، مما دفع بالأمم المتحدة، في شتنبر 2021، إلى افتتاح مقر مكتب برنامج الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب والتدريب في إفريقيا بالرباط، وهو الأول من نوعه في القارة، ومن أهدافه «الاستفادة من الخبرة والتجربة الكبيرة للمغرب، الذي يضطلع بدور مهم في جهود مكافحة الإرهاب على المستوى الإقليمي والدولي»، كما صرح بذلك مساعد الأمين العام للأمم المتحدة المكلف بمحاربة الإرهاب، فلاديمير فورونكوف.
ويتعاون البرنامج الأممي لمكافحة الإرهاب مع المغرب في «بناء القدرات في مجالات مختلفة، لاسيما مكافحة تحركات الإرهابيين، وأمن وإدارة الحدود، والإرهاب المتعلق بأسلحة الدمار الشامل، والمعدات الكيماوية والبيولوجية، والإشعاعية، والإرهاب النووي، والتدخل لمنع التطرف العنيف..». وهو البرنامج الذي يشارك فيه العديد من الدول الأعضاء في سياق «التعاون الدولي»، خاصة أن الأمن والعمل الاستخباراتي ومحاربة الجريمة العابرة للقارات يحظيان بمركزية مهمة في تفكير الدول العظمى، على مستوى مكافحة الإرهاب، وأيضا على مستوى التحكم في القضايا الأمنية ذات البعد الاستراتيجي والجيو-سياسي المشترك، والتي تتطلب استجابة أمنية ومقاربة مدروسة ومنسقة عابرة للحدود.
الحموشي مع مدير المكتب الاتحادي الألماني
الريادة الأمنية المغربية
لقد أصبح المغرب رائدا معترفا بمقدراته الأمنية والاستخباراتية على مستوى ملاحقة الإرهابيين والعصابات المنظمة وجرائم الاتجار في البشر وغسل الأموال، بل أخذ يعرض مقاربته الأمنية الشاملة التي ترتكز على التعاون الإقليمي والدولي، وعلى مقاربة متعددة الأطراف واستباقية وشاملة. ولهذا ليس غريبا أن يجري اختيار المغرب بالإجماع ليتحمل مسؤولية الرئاسة المشتركة للمنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب مرتين، أولا مع هولندا (2015)، وثانيا مع كندا (2020)؛ وهو المنتدى الذي يتكون من أكثر من 30 عضوا، فضلا عن دول ومنظمات دولية شريكة، في مواجهة الإرهاب، من بينها الأمم المتحدة.
لقد بدا واضحا أن الحموشي هو رجل التعاون والالتقائية، كما بدا أن عمله الاستراتيجي يرتكز على «الديبلوماسية الأمنية»، لأنه أدرك أكثر أن التعاون الأمني أخذ يحظى بمركزية كبيرة في السياسات الخارجية للدول، وهذا ما يبدو واضحًا اليوم مع الزيارات التي يقوم بها عبد اللطيف الحموشي بعيدا عن الأضواء، إلى العديد من عواصم العالم، بدءا من واشنطن وباريس ومدريد وبروكسيل وموسكو، وانتهاء بالرياض وأبو ظبي والدوحة وغيرها. حيث زار الحموشي واشنطن في منتصف شهر يونيو 2022، على رأس وفد أمني ضم مدراء وأطر من المصالح المركزية للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، وتمحورت مباحثات الجانبين حول تقييم الوضع الأمني على المستوى الإقليمي والجهوي، ودراسة التهديدات والتحديات الناشئة عن الوضع في بعض مناطق العالم، فضلا عن استعراض المخاطر التي تطرحها الارتباطات القائمة بين التنظيمات الإرهابية وشبكات الجريمة المنظمة. كما سبق له أن زار موسكو وبروكسيل (2016)، وباريس (2017)، والدوحة (2018)/ (2022)، ومدريد (2019)/ (2022)، والرياض (2022)، وأبو ظبي (2023)، ولشبونة (2023)، وفيينا (2023)...
ولم يكتف الحموشي بالانفتاح على أكبر العواصم الدولية، بل فتح مكتبه بالرباط لتعزيز الشراكات القائمة وتقاسم المعلومات والممارسات الجيدة بين المؤسسات الأمنية الدولية، حيث أصبح تبادل الزيارات نهجا قائم الذات، خاصة مع الحليف الاستراتيجي للمغرب «الولايات المتحدة الأمريكية»، أيضا مع إسبانيا التي يجمعها مع المغرب تعاون أمني وثيق، حيث أضحى المغرب، حاليا، هو البلد الأكثر تعاونا وثقة على الصعيد الاستخباراتي بالنسبة لمدريد.
الحموشي مع أمير قطر
التوشيح الدولي
وهذا ما تحمله تصريحات المسؤولين الإسبان أنفسهم. وليس أدل على ذلك من إقدام إسبانيا، خلال عامي 2014 و2019، على توشيح عبد اللطيف الحموشي، أولا، بوسام «الصليب الشرفي للاستحقاق الأمني بتميز أحمر»؛ ثم ثانيا، وسام «الصليب الأكبر».
وتعود آخر زيارة لمسؤول أمني إسباني رفيع المستوى إلى أيام فقط (13 فبراير 2024)، حيث استقبل الحموشي بمكتبه بالرباط المفوض العام للاستعلامات بالمملكة الإسبانية، «أوخينيو بيرييرو بلانكو»، الذي كان مرفوقا بوفد أمني مهم.
وإذا كانت العلاقة مع واشنطن ومدريد على رأس العلاقات المثالية التي أنشأها الحموشي دوليا، فإن القطب الأمني المغربي قد أرسى علاقات متميزة مع الشرطة الألمانية، حيث استقبل عبد الطيف الحموشي، في منتصف يونيو 2022وفدا أمنيا ألمانيا مهما، وكان على رأسه المدير العام للشرطة الاتحادية بدولة ألمانيا، دييتر رومان. وجرى اللقاء بين الطرفين من أجل تعزيز الشراكة الأمنية وتقاسم الخبرات في مجال مكافحة الإرهاب ومختلف صور الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية. كما أرسى علاقات متميزة مع فرنسا وهولندا وبلجيكا والكونغو وقطر والإمارات والسعودية والبرتغال وإيطاليا وإسرائيل.. إلخ، الأمر الذي سمح للرباط بتمتين التعاون الثنائي وتقويته بشكل يسمح بضمان التصدي الحازم والفعّال للتحديات التي تطرحها الجريمة العابرة للحدود والتهديدات المرتبطة بالتحديات الإرهابية وأخطارها، ومن ذلك تقاسم التجارب والجبرات في سائر المجالات الأمنية، ومكافحة التطرف وجرائم المخدرات والاتجار غير المشروع في الأسلحة والجرائم المالية وغسل الأموال وجرائم الانترنيت، فضلا عن التعاون الأمني الميداني والاستخباراتي.. إلخ.
الحموشي في اجتماع الانتربول بفيينا
الرؤية الاستراتيجية
وبالإضافة إلى كل ذلك، أرسى المغرب نظاما لنقل خبرته إلى مجموعة من الدول الحليفة والصديقة. ذلك أنه إلى جانب السعودية «التكوين الجامعي بجامعة نايف العربيةللعلوم الأمنية» وقطر «تأمين المونديال»، عملت المديرية العامة للأمن الوطني، بتعاون مع القيادة العامة لشرطة «أبو ظبي»، على تنفيذ برنامج دورات تكوينية متخصصة لفائدة مجموعة من الأطر الأمنية من شرطة أبو ظبي، من قبيل دورة للتكوين النظري التخصصي في مجال الشرطة القضائية ومكافحة الجريمة، ثم دورة للتكوين التطبيقي بكل من الفرقة الوطنية للشرطة القضائية والمختبر الوطني للشرطة العلمية والتقنية والمكتب المركزي للأبحاث القضائية. كما باشرت تنزيل برنامج الشراكة جنوب- جنوب، الذي يهم برامج تكوينية لفائدة مجموعة من الدول الإفريقية الصديقة، مثل الدورة التي احتضنها المعهد الملكي للشرطة بالقنيطرة، في مستهل دجنبر 2022، حيث تم تكوين 60 مفتشا وعميدا للشرطة، من بينهم 9 سيدات، ينحدرون من دولة غينيا كوناكري، وقد تضمن هذا التكوين دروسا نظرية وتطبيقية في مختلف المجالات والتخصصات الشرطية «التدخل بالشارع العام، الإطار المهني والقانوني للمحافظة على النظام، آليات البحث الجنائي، استخدام التكنولوجيا في الأبحاث القضائية، أمن النظم المعلوماتية، تقنيات شرطة الحدود».
لقد حوَّل الحموشي، على مدى 9 سنوات من العمل الاحترافي الدؤوب، القطب الأمني المغربي إلى رقم صعب في المعادلة الأمنية الدولية، وإلى وجهة استراتيجية موثوقة للوقاية من الضربات الإرهابية والجريمة الدولية المنظمة. وهذا دليل على أن الرجل صاحب رؤية استراتيجية، بل رجل ديبلوماسي من الدرجة الأولى، يعمل في الظل «الدق والسكات، كما يقول المغاربة»، من أجل ترصيص العلاقات الخارجية للبلاد في عمق المصالح الأمنية على المستوى الدولي. وليس أدل على ذلك من أن الدول العظمى، التي تتوفر على إمكانات مالية ولوجيستية كبيرة «تكنولوجيا متطورة، أقمار صناعية، أجهزة تجسس، موارد مالية هائلة... إلخ»، تقصد المغرب كلما احتاجت إلى معلومات دقيقة وحاسمة على اتصال بالإرهاب، الأمر الذي يؤكد أن الدربة والنجاعة والمهنية والاقتدار هي «الرأسمال النفيس» الذي يحظى بها الجهاز الأمني المغربي، وهي العنوان العريض لبلاد لا يتثاءب رجال أمنها ولا يعرفون النوم..
تفاصيل أوفى في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن"