لم يكن اتحاد كتاب المغرب في يوم من الأيام مجرد جمعية ثقافية كباقي الجمعيات، وإنما شكل منذ تأسيسه في بداية ستينيات القرن الماضي على يد المرحوم محمد عزيز الحبابي وثلة من الكتاب والأدباء الذين وضعوا اللبنة الأولى للثقافة الوطنية بعد الاستعمار، مؤسسة كبيرة تتسع لكل هموم الوطن الثقافية والسياسية والاجتماعية... لقد ظل مشتلا للأفكار التي تنير طريق البلاد نحو التنمية بمعناها الواسع ضمن أفق ينشد الحداثة ويتطلع إلى مجتمع يستوعب التحولات التي تجري من حوله، ويشرئب إلى مغرب تسوده الحرية في الفكر والممارسة.
إن هذا جعل اتحاد كتاب المغرب صرحا مغربيا أصيلا، حافظ على استقلاليته على الرغم من تقلب المواقف وتبدل الأحوال، فحدد موقعه ضمن نقط التماس التي جعلت منه لسنوات صوتا يروم بناء ثقافة وطنية أقرب ما تكون إلى الثقافة الموازية.
كل هذا حقق لهذه المنظمة العريقة مكانة اعتبارية بوصفها تجمعا يحتضن نخبة المثقفين المغاربة، مما أهل الاتحاد للعب أدوار طلائعية على المستويات الوطنية والعربية والدولية، فكان في الداخل صوت الإبداع والحرية وكان في الخارج في صدارة الدبلوماسية الثقافية دفاعا على المصالح العليا للبلاد، عربيا في اتحاد الكتاب والأدباء العرب ودوليا في كل المحافل والملتقيات الثقافية والأدبية الدولية التي هو عضو فيها أو كان يدعي إليها.
من هنا يعد غياب اتحاد كتاب المغرب خلال السنوات الأخيرة الماضية خسارة كبرى للبلاد. كما أن غيابه يمثل خسارة للثقافة الوطنية التي فقدت بتواريه عن الحقل الثقافي، فضاء للنقاش للنقاش العمومي، وذلك بدخوله منذ أواخر العقد الأول من القرن الواحد والعشرين في أزمة لم تبق منه سوى تاريخه المجيد واسمه الذي ما زال يتردد بين الكتاب والمثقفين المغاربة بحسرة شديدة.
للأزمة التي يجتازها اتحاد كتاب المغرب أوجه كثيرة، جعلت المهتمين يقاربونها من منطلقات مختلفة، فبعضهم يربطها بأزمة اليسار الذي يعرف منذ عقود خفوتا جعل صوته لا يسمع إلا بصعوبة، وبعضهم يردها إلى غياب رؤية واضحة تواكب التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي، وبعضهم يميل إلى ان الاتحاد أصبح عاجزا عن استيعاب التحولات الثقافية بعد اكتساح الثقافة الرقمية...
لكل هذه المقاربات نصيب في تكريس أزمة اتحاد كتاب المغرب، دون شك، ولكنها مع ذلك تبقى مجرد قضايا ذات طابع جدالي، يمكن التغلب عليها إذا توفر الجو الصحي لحوار بناء وصريح يفضي إلى إعادة النظر في هوية الاتحاد ووظائفه وآليات اشتغاله.
لا شك في أن للوضع التنظيمي بهذا المعنى الثقل الأكبر في ما آل إليه اتحاد كتاب المغرب في السنوات الأخيرة الماضية، وهو وضع لا يمكن فصله عن الأوجه الأخرى، ولكن أهميته القصوى تنبع من أنه هو الذي يوفر الفضاء السليم لعقد حوار معمق حول القضايا الأخرى.
بدأت إرهاصات أزمة اتحاد كتاب المغرب التنظيمية في بداية الولاية الثانية لرئيسه الأستاذ عبد الحميد عقار، حينما اضطر إلى ترك مهامه منذ 24 أكتوبر 2009 ، لأسباب لا مجال إلى الخوض فيها، وهي في مجملها ذاتية وليست موضوعيةـ تتعلق بحسابات بين أعضاء المكتب التنفيذي آنذاك.
حاول اتحاد كتاب المغرب أن يتجاوز هذه السابقة في تاريخه، ونجح بصعوبة في عقد مؤتمره الثامن عشر بعد انصرام ستة أشهر على انتهاء ولاية المكتب التنفيذي. لم يكن المؤتمر الثامن عشر الذي عقد بالرباط يومي 7 و8 شتنبر 2012 مؤتمرا كباقي المؤتمرات، ومع ذلك استطاع أعضاء اتحاد كتاب المغرب أن يصلوا إلى نوع من التوافق، بانتخابهم رئيسا جديدا ومكتبا تنفيذيا جديدا. وكان أهم تعديل قام به المؤتمر من اجل عدم تكرار الأزمة التي كادت أن تعصف به، أن الرئيس لم يعد يختاره المكتب التنفيذي من أعضائه، بل أصبح ينتخب مباشرة من المؤتمر.
لم تمض سوى أيام قلائل حتى بدأ الشرخ يتسع بين الرئيس من جهة وأعضاء المكتب التنفيذي من جهة أخرى، فتوالت الاستقالات بين أعضائه. ومنذ ذلك الحين أصبح اتحاد كتاب المغرب يشتغل بأقلية من أعضاء مكتبه التنفيذي، فبلإضافة إلى الذين استقالوا لجأ آخرون إلى سياسة الكرسي الفارغ تعبيرا عن غضبهم وامتعاضهم.
وكان من المفروض وفقا للقانون الأساسي لاتحاد كتاب المغرب أن ينعقد المؤتمر التاسع عشر في غضون سنة 2015 ، إلا أنه لأسباب تتعلق بتمويل المؤتمر حسب ما صرح به الرئيس المنتهية ولايته آنذاك، تأجل إلى تاريخ آخر.
وفي يوم 12 مارس 2016 التأم المجلس الإداري للاتحاد بمدينة الصويرة وقرر بالإجماع عقد المؤتمر التاسع عشر في شهر نونبر من نفس السنة بمدينة مراكش. ومرة أخرى يخلف رئيس الاتحاد والمكتب التنفيذي الموعد دون مبرر مذكور، وكان من اللازم أخلاقيا وقانونيا إذا طرأ ما يمنع عقد المؤتمر أن تتم دعوة المجلس الإداري من جديد والتفكير في سبل تجاوز المانع. ولكن رئيس الاتحاد لم يكلف نفسه حتى إخبار أعضاء المجلس بتأجيل المؤتمر، وبقي الصمت سيد الموقف إلى أن تمت الدعوة إلى المؤتمر التاسع عشر بطنجة يومي 22 و23 يونيو 2018، أي بعد مضي أكثر من ست سنوات على آخر مؤتمر. وبهذا لم تتجدد هياكل الاتحاد لفترة تعادل ولايتين. وخلال هذه الفترة استمر الرئيس ومن بقي معه في المكتب التنفيذي في ممارسة مهامهم وكأن شيئا لم يقع.
هكذا حضر المؤتمرون إلى طنجة منقسمين. فالرئيس ومن معه أرادوا أن يجعلوا من المؤتمر مؤتمرا عاديا كباقي المؤتمرات: يقدم التقرير الأدبي والتقرير المالي إلى المؤتمرين، ويعرضان للنقاش والمصادقة عليهما، ثم ينتخب المؤتمر رئيسا ومكتبا تنفيذيا جديدا... وبالمقابل رأى أعضاء آخرون أن الرئيس وأعضاء التنفيذي انتهت ولايتهم منذ 2015 ، وبالتالي فإنهم فقدوا الصفة القانونية، وعلى المؤتمرين في هذه الحالة أن يبحثوا عن طريقة لجعل مؤتمر طنجة مؤتمرا استثنائيا، لأن الاتحاد بات مجمدا بحكم القانون منذ 2015, وهذا يقتضي أن كل ما قام به الرئيس ومن بقي معه في المكتب التنفيذي خلال ثلاث سنوات هو عمل يفتقد إلى الشرعية.
ومما زاد الأمر تعقيدا أن الرئيس أغرق المؤتمر بأعضاء جدد لم تحترم المساطر في منحهم العضوية، إما لأنهم أصبحوا أعضاء في الفترة التي انقضت فيها ولاية الرئيس والمكتب التنفيذي، وإما لأن ملفات ترشحهم لنيل العضوية لم تعرض أصلا على لجنة العضوية التي انتخبها المؤتمر السابق، وهو ما شهد به أعضاء هذه اللجنة أنفسهم. لقد فهم من هذا أن الرئيس المنتهية ولايته قد قام بنوع من التجييش ليظفر بولاية أخرى، بعدما قضى سنتين يمارس فيها مهام الرئيس بعد انسحاب الأستاذ عقار، باعتباره نائبا للرئيس، وست سنوات رئيسا فعليا، وهو ما مجموعه ثماني سنوات، أي ولايتين ونصف الولاية.
مؤتمر طنجة إذن لم يبدأ لكي نقول إنه فشل أو توقف أو اجهض...ومع ذلك فإنه استطاع بفضل بعض الأصوات الحكيمة، ان يجد مخرجا لاستمرار اتحاد كتاب المغرب، وذلك بالموافقة بالإجماع على تشكيل لجنة تحضيرية تتكون من المكتب التنفيذي المنتهية ولايته وضمنه الرئيس، ومؤتمرين اقترحوا أنفسهم أعضاء. هذا يعني أن الرئيس لم يعد رئيسا وإنما أصبح مجرد عضو في اللجنة التحضيرية. أوكل إلى هذه اللجنة تهييء مؤتمر استثنائي والدعوة إليه في اجل لا يتعدى ستة أشهر.
شرعت اللجنة في اجتماعاتها بشكل طبيعي، أنجزت خلالها ما أنجزت، وفجأة أعلن الرئيس المنتهية ولايته استقالته يوم 18 فبراير 2019 على صفحات التواصل الاجتماعي. وبذلك توقفت اجتماعات اللجنة التحضيرية لفترة، لأنه هو من كان يدعو إلى اجتماعاتها.
لم يجد أعضاء المكتب التنفيذي المنتهية ولايته بدا من أخذ المبادرة، فدعوا أعضاءها إلى الاجتماع، فقررت في أول اجتماع لها بعد استقالة الرئيس المنتهية ولايته توسيع اللجنة بطريقة تراعي سد الخصاص الذي تركه المتخلفون بمن فيهم الرئيس السابق المستقيل.
اجتمعت اللجنة التحضيرية الموسعة بالمكتبة الوطنية، بحضور ثلاثة رؤساء سابقين هم الأساتذة محمد برادة ومحمد الأشعري وحسن نجمي، بالإضافة إلى كتاب مؤسسين من أمثال الأستاذ محمد مصطفى القباج الذي انتخبته اللجنة رئيسا لها.
وتوالت اجتماعات اللجنة التحضيرية الموسعة التي دأبت على نشر بلاغات بما تقوم به، بمقر اتحاد كتاب المغرب بالرباط، وهيأت كل ما يلزم لعقد المؤتمر الاستثنائي واتصلت بجهات الدعم...ثم فجأة يظهر الرئيس المنتهية ولايته، الذي تنكر لاستقالته، عبر بلاغات موقعة باسم المكتب التنفيذي لاتحاد كتاب المغرب، المنتخب منذ 2012.
رأى أعضاء اللجنة التحضيرية الموسعة أن في هذا "الخروج" الجديد للرئيس المستقيل، المنتهية ولايته، تشويشا على سيرها نحو المؤتمر، فقررت اللجوء إلى القضاء، فكان منطوق الحكم أن قوانين الاتحاد لا تنص على هيئة اسمها اللجنة التحضيرية الموسعة وبالتالي لا يحق لرئيسها التقاضي باسم اتحاد كتاب المغرب. ثم حل وباء كورونا بالمغرب فأجل كل حديث عن المؤتمر الاستثنائي.
اعتبر الرئيس المنتهية ولايته منطوق الحكم نصرا مبينا يبقيه رئيسا، فاستمر يصدر البلاغات والبيانات باسم المكتب التنفيذي. ودون استدعاء اللجنة التحضيرية أو موافقتها، قرر الدعوة إلى عقد المؤتمر الاستثنائي بمدينة العيون أيام 25 و26 و27 يناير 2023.
مدينة العيون هي رمز الوحدة الترابية للمغاربة قاطبة، وبالتالي فإذا قيض لاتحاد كتاب المغرب أن يعقد مؤتمرا بالعيون، فينبغي أن يكون المؤتمر عاديا يحضره الكتاب المغاربة وقد تغلبوا على انقسامهم واختلافاتهم. أدرك الداعمون للمؤتمر الذي كان مزمعا عقده بالعيون أن الأمر برمته حق أريد به باطل، وأنه مزايدة على القضية الوطنية، فتراجعوا عن دعمه، لأن قضية وحدتنا الترابية فوق كل الشبهات.
بدا للجنة التحضيرية أن محاولات عقد المؤتمر الاستثنائي قد وصلت إلى الطريق المسدود فقرر سبعة من أعضاء المكتب التنفيذي المنهية ولايته دعوة اللجنة التحضرية إلى الانعقاد، وتوسيع قاعدة الاستشارة بتوجيه نفس الدعوة إلى كتاب الفروع بمختلف الأقاليم.
التأم الاجتماع يوم 20 يناير 2024 وحضره أكثر من خمسين كاتبا بالمكتبة الوطنية، يمثلون أغلب أعضاء المكتب التنفيذي المنبثق عن المؤتمر الثامن عشر، وأغلب أعضاء اللجنة التحضيرية المنبثقة عن مؤتمر طنجة، وأغلب كتاب الفروع. وبعد نقاش معمق لكل جوانب أزمة اتحاد كتاب المغرب قرر المجتمعون الدعوة إلى المؤتمر الاستثنائي يومي 3 و4 فبراير 2024 بالرباط. إلا أن الرئيس المنتهية ولايته رفع دعوى استعجالية أمام المحكمة الابتدائية بالرباط لوقف انعقاد المؤتمر، فكان له ذلك.
ليست هذه مناسبة الحديث عن حيثيات الحكم، لأن القضية الآن انتقلت إلى الاستئناف. ومع ذلك يمكن القول إن قضية اتحاد كتاب المغرب ليست قضية قانونية بقدر ما هي قضية أخلاقية تضع المسؤول الأول عن هذه الأزمة على المحك، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يوقف شخص واحد أو عدة أشخاص عجلة سير منظمة لها وزنها الكبير في الثقافة المغربية المعاصرة.
إن الخاسر الأول في هذه المحنة التي تمر بها هذه المنظمة العتيدة هو البلاد قاطبة، فقد ظل اتحاد كتاب المغرب سدا منيعا ضد التطرف بكل أنواعه، لانه يحمل ثقافة التنوير ويهدف إلى تحقيق مغرب الحداثة، كما ظل مدافعا شرسا عن قضية وحدتنا الترابية في المحافل العربية والدولية، وغيابه الآن هو ما سمح للانفصاليين أن يطلوا من نافذة ضيقة على اتحاد الكتاب والأدباء العرب، وكاد الباب يفتح لهم لولا حكمة وتبصر بعض الوفود العربية الذين تداركوا هذه الزلة.
إن العبث باتحاد كتاب المغرب من أجل تحقيق أهداف شخصية ضيقة هو بمعنى من المعاني عبث بالمصلحة العليا للبلاد، ذلك أن المغرب بحاجة ماسة إلى كل جهد من شأنه أن يساهم في عملية البناء، ويدافع عن قضاياه الكبرى ومصالحه العليا من الموقع الذي يحتله. وإن تعطيل اتحاد كتاب المغرب بهذه الطريقة الفجة التي تنبئ بإفلاس بعض الذين يسمون أنفسهم مثقفين ببلادنا هو تعطيل لجهاز لا يمكن أن يكون إلا إسهاما في التقدم والتنمية، وتعزيز صورة البلاد على المستوى الدولي.