السياسيون يفهمون السياسةَ أكثر من غيرهم. بل يصبحون بقدرة قادر، بعد وصولهم إلى السلطة، أسياد العارفين في كل شيء. بينما أغلب هؤلاء السياسيين وصلوا إلى السلطة عن طريق الغش والتَّزوير والمتاجرة بالأصوات. أما السلفيون المتطرِّفون، فهم يلحُّون على أنهم يفهمون الدينَ أكثر من غيرهم. بل لا أحدَ يستطيع أن يصلَ إلى مستوى فهمهم للدين.
في هذه المقالة، سأكتفي بالحديث عن السلفيين المتطرفين.
إذا كان السياسيون، الذين هم فعلا سياسيون بما للكلمة من معنى نبيل، يستندون في تصرُّفاتِهم على تيارٍ فكري معيَّن أو إيديولوجيا معيَّنة، فإن هدفَهم هو الوصول إلى السلطة بأغلبية مُريحة، ومن تمَّةَ، فرضُ أفكارهم و أهوائهم على المجتمع من خلال التَّشريع.
أما السلفيون المتطرفون، سواءً وصلوا إلى السلطة أو لم يصلوا إليها، لهم، هم الآخرون، مشروعٌ فكري يريدون فرضَه على المجتمع بطريقة أو أخرى. وحتى إن وصلوا إلى السلطة بطريقة ديمقراطية، فسرعان ما يلعنون الديمقراطية ويتنكَّرون لها. لماذا؟... : لأن الديمقراطية، كمفهوم، تتعارض مع أفكارهم المتطرِّفة والتَّسلُّطية وليست، بالنسبة لهم، إلا وسيلة توصِلهم إلى السلطة ليفرضوا على المجتمع أفكارَهم بطريقة مشروعة. وللتذكير، فإن ما يعتبرونه مجتمعا، يجب أن يكونَ ذكوريا، أي أن نصفَه، المتكوِّن من النساء، مُلغَى ولا قيمة له.
والسلفيون المتطرِّفون يدَّعون أنهم يفهمون الدينَ أكثر من غيرهم إلى درجة أن كلَّ مَن يأتي بأفكارٍ مضادة لأفكارهم الدينية، سرعان ما يُكفِّرونه، أي يجرِّدونه من إسلامه ظلما وعدوانا، علما أن التكفيرَ هو خاصية من خصائص الله سبحانه وتعالى، أو سِمةٌ من سِماته المتفرِّدة. فبماذا يتميَّز السلفيون الإسلاميون المتطرِّفون؟
أولا، يتميَّز السلفيون المتطرفون بكونهم جماعةً من الناس (من الذكور) متشبِّثين بما قاله السلف، في ماضي الزمان، في مختلف مناحي الحياة الدينية. وهذا يعني أن كل أفكارهم مستمدَّة من التراث الفقهي الإسلامي الذي يعود إنتاجُه إلى قرون مضت، أي أكلَ عليه الدهر وشرب. بمعنى أن هذا التراث، إن كان صالحا لظروف حياةٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ مضت، فإنه، في جل أطواره، لم يعد صالحا لظروف الحياة المعاصِرة، الاجتماعية منها والثقافية وحتى الدينية (لا لإتحدَّثُ عن الثوابت).
ثانيا، السلفيون المتطرفون ليس لهم أي إنتاج فكري يُذكر. وإن انتجوا فكرا، فإنه لا يختلف بتاتا عن ما قاله السلف، أي ليس هناك تجديدٌ لا في الفكر ولا في المضمون. إنهم، فقط، يردِّدون، ما قاله السلف.
ثالثا، السلفيون المتطرفون يقدِّسون شيوخَهم تقديسا قد يصل إلى درجة اعتبار ما يقولونه حقائق لا غبارَ عليها، إن لم تكن حقائق مطلقة. وهذا هو ما يحدث حيث أن ما يعتبرونه حقائق لا غبارَ عليها، يتكرَّر طول حياتِهم بدون أي تجديد وبدون أية إضافة، وبحكم التِّكرار، تصبح هذه الحقائق مطلقة، أي صالحة لكل زمان ومكان.
رابعا، السلفيون المتطرِّفون، بما أنهم يعتبرون ما يقوله شيوخُهم حقائق مطلقة، فإنهم بارعون في توقيف مسيرة الزمان. وتوقيف الزمان بدأ مباشرةّ بعد وفاة كل شيوخهم الذين تركوا لهم وإبلاً من كتُب التراث الإسلامي. والمقصود بتوقيف مسيرة الزمان، هو أن الدين الإسلامي الذي نصَّت عليه كتُب شيوخهم، هو الدين الحقيقي الذي كان صالحا في الماضي، ومن اللازم أن يبقى صالحا للحاضر والمستقبل دون أن يطرأ عليه أي تطوُّر أو تكييف (أكرِّر وأعيد، لا أتحدَّث عن ثوابت الدين الإسلامي). وهذا الدين المتجانس مع أفكارهم المتطرفة، هو الذي يريدون فرضَه ليس فقط على البلدان الإسلامية، ولكن على سائر بلدان العالم.
خامسا، السلفيون المتطرِّفون يعتقدون اعتقادا راسخا أن ما يقومون به من أعمال وما يُروِّجون له من أفكار، يقومون به بوصاية من الله، أي أنهم خلفاء الله في الأرض (الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم : "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (الشورى، 11) ولذلك أتحفَّظ على أن يكونَ له خليفة). ولهذا، فإنهم يرون أنفسَهم، بحكم ادِّعائهم أنهم خلفاء الله في الأرض، مجبرين أو من واجبهم أن يُبلِّغوا الدين الإسلامي، بأبعاده المتطرِّفة، للناس. هذه الصيغة من الدين الإسلامي، إما أن يقبلَها هؤلاء الناس عن طواعية وإما أن تفرَضَ عليهم بشتى الوسائل : بالعنف اللفظي، بالتَّخويف من خلال عذاب القبر، من خلا عذاب جهنم، من خلال الصراط المستقيم كما يتخيَّلونه، من خلال الخرافاَت والخُزعبلات…
سادسا، السلفيون المتطرِّفون يحتكمون فيما يُروِّجونه من أفكار، للنصوص الدينية التي خلّفها لهم السلف من الشيوخ والفقهاء. فمنهم مَن يحتكم لنصوص ابن تيمية ومنهمَ يحتكم لنصوص محمد بن عبد الوهاب أو لما أنتجه السيد قطب… وهكذا. فكل جماعة سلفية متطرفة لها شيخُها أو شيوخها. لكن، رغم اختلاف هذه الجماعات من حيث التَّوجُّه الفكري، فإن لها قاسما مشتركا يتمثَّل في الابتعاد عن الوسطية، أي الدين الوسط وتبنِّي مفهوم الغُلُوِّ في الدين، أي إدراك الدين بجرعة عالية من التَّشدُّد، علما أن الله سبحانه وتعالى أوصى بعدم الغلو في الدين : "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ (المائدة، 77).
في هذه الآية الكريمة، كلام الله مُوجَّه لأهل الكتاب، أي اليهود والنصارى. لكن المغزى منه هو أنه سبحانه وتعالى يوصي بعدم تجاوز ما هو حق في الدين، أي عدم تجاوز الحدود في ممارسة هذا الدين. وهذا يعني أن الدينَ يجب أن يمارسَ كما أوصى الله بذلك، أي أن لا تكون في هذه الممارسة زيادة أو نقصان مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا... (البقرة، 143)، أي أمةً تنهج الاعتدالَ في الدين.
وهكذا، فإن الجماعات السلفية المتطرِّفة تبنَّت الغُلُوَّ في الدين. لكن الخطيرَ في الأمر أنها تريد أن تفرضَ هذا النوعَ من التَّديُّن على الآخرين، ناسيةً أو متناسية أن اللهَ سبحانه وتعالى يقول في قرآنه الكريم : "...وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلدِّينِ مِن حَرَجٍ… (الحج، 78). "مِن حَرَجٍ"، يعني أن التَّديُّنَ بالدين الإسلامي لا مشقَّةَ ولا ضيقَ فيه. بل إنه مبني على التَّيسير والتَّخفيف. والدليل على هذا التَّخفيف والتَّيسير، أن اللهَ سبحانه وتعالى، وحتى إن اقترف عبادُه ذنوبا، فإنه يغفرها ولا يغفر أن يُشركَ به مصداقا لقوله، عزَّ وجلَّ : "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا (النساء، 48). فلماذا السلفيون المتطرفون يُعسِّرون (يُصعِّبون) الدين بينما الله سبحانه وتعالى يريد لهذا الدين اليسرَ والتَّيسير؟
لأن السلفيين المتطرفين لهم مشروعٌ اجتماعي-سياسي un projet socio-politique. وهذا المشروع، الهدف منه ليس نشرُ الدين الإسلامي كما أراده الله، لكن استعمالُ الإسلام كوسيلة، أو كمطِيَّةٍ، لبلوغ أهذاف سياسية. ولهذا، فإن هذا المشروع، عوض أن يعتمدَ على نشر التَّعاليم الإسلامية، فإنه يرتكز على إيديولوجية سياسية التي تستمدُ وجودَها من الأعراف والقوانين الدينية، أي من الشريعة الإسلامية. وهو ما يُسمَّى عادةً الإسلام السياسي الذي تكون فيه الشريعة هي الموجِّه الأساسي لكل عملٍ. وفي نهاية المطاف، السلفيون المتطرِّفون يسعون إلى إنشاء دولة، يفرضونها على الشعوب، دستورُها هو الشريعة، كما هو الشأن، حاليا، في أفغانستان.