الراحل عباس الجراري: رحيق الثقافة المغربية (1)

الراحل عباس الجراري: رحيق الثقافة المغربية (1) الراحل عباس الجراري
خصص الكاتب الإعلامي عبدالإله التهاني، الحلقة الاخيرة من برنامجه "مدارات" من الإذاعة الوطنية بالرباط ، لاضاءة سيرة الأديب والعالم المرحوم الدكتور عباس الجراري،حيث وصفه في مستهل هذه الحلقة، بـأنه عميد الدراسات الادبية في المغرب وأستاذ الأجيالK وأنه كان يمثل رحيق الثقافة المغربية الحديثة.
 
■ رجل العلم والحكمة :
وأضاف بأن فقيد الثقافة المغربية الحديثة،كان شخصية فكرية متعددة الأبعاد، وغزيرة العطاء، حيث ألف في التاريخ والأدب، والحضارة، وفي الفكر الإسلامي، والمذاهب الفقهية.كما أولى عناية للجماليات ومختلف مظاهر الإبداع.
وحسب معد ومقدم البرنامج، كان المرحوم عباس الجراري ، سباقا ورياديا في الاهتمام بالأدب الشعبي والتراث الموسيقي المغربي والأندلسي، وأنه لم يترك مجالا إلا وخاض فيه، بعلم ودراية وحكمة واعتدال ، وأنه لم يكن يضاهي ثقافته الواسعة إلا نبله، وتواضعه وخلقه الرفيع، وكذلك عاش، وعلى ذلك النهج سار في كل أطوار حياته الحافلة، إلى أن انتقل إلى جوار ربه .
 
■حياة حافلة وعطاء غزير :
واستعرض الزميل التهاني المحطات البارزة ، في المسار العلمي والوظيفي للمرحوم عباس الجراري ، معددا ما تولاه من مهام علمية ، وما تبوأه من مسؤوليات رفيعة، جرى تتويجها بتعيينه عضوا بالديوان الملكي من طرف الملك الحسن الثاني،ثم بتعيينه مستشارا للملك محمد السادس.
كما استعرض ما حازه المرحوم الجراري من جوائز فكرية، ومنها جائزة الاستحقاق الثقافي بالمغرب، وميدالية أكاديمية المملكة المغربية، ووسام المؤرخ العربي .
واستعرض أيضا وبالتفصيل، مجموعة الاوسمة ، عالية القيمة والدرجة ، التي وشح بها العميد الراحل من طرف الملكين الحسن الثاني ومحمد السادس، وكذا الأوسمة التي منحتها له أقطار عربية، كمصر والاردن وتونس.
 
■ مصنفاته وآثاره الخالدة:
وختم الكاتب الاعلامي عبدالإله التهاني ورقته التقديمية ، بالتوقف عند حصيلة المؤلفات التي أصدرها المرحوم عباس الجراري، وأغنى بها الخزانة المغربية وهي عديدة ومتنوعة الموضوعات ومنها ( قصيدة الزجل في المغرب ، وهو أطروحته للدكتوراه بجامعة القاهرة/ الثقافة في معركة التغيير/ موشحات مغربية/ الادب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه / الحرية والادب / النضال في الشعر العربي / وحدة المغرب المذهبية عبر التاريخ /أثر الأندلس على أوروبا في مجال النغم / معركة وادي المخازن في الادب المغربي / ثقافة الصحراء/ عبقرية اليوسي / الفكر الاسلامي والاختيار الصعب / الامير الشاعر أبوالربيع سليمان الموحدي/ فنية التعبير في شعر ابن زيدون / صفحات دراسية من القديم والحديث / معجم مصطلحات الملحون الفنية / تطور الشعر العربي الحديث والمعاصر/ بحوث مغربية في الفكر الاسلامي/ في الابداع الشعبي/ العالم المجاهد عبدالله بن العباس الجراري / رحيق العمر ، وهو كتاب روى فيها أطوارا من سيرته الذاتية في مدارج العلم ومسالك الحياة .
وأوضح الزميل التهاني أنه علاوة على هذه التآليف، للمرحوم الجراري كتابات أخرى عديدة، متفرقة في الصحف والمجلات الادبية والفكرية داخل المغرب وخارجه ، دون إغفال مساهماته في كتب صدرت بتأليف جماعي، وكذا تقديمه لعدد من المؤلفات التي أصدرها غيره من الباحثين والدارسين المغاربة.
 
■ الدكتور محمد احميدة وذاكرة النادي الجراري :
وفي تقديمه للباحث المغربي الدكتور محمد احميدة، ضيف هذه الحلقة من برنامج "مدارات" ، للحديث عن جوانب من مسار الاديب العالم عباس الجراري، أوضح الزميل عبدالإله التهاني أن هناك شخصيات ثقافية ظلت قريبة من عميد الدراسات الأدبية المغربية المرحوم عباس الجراري، بعد أن نهلت من علمه، واستفادت من رعايته الثقافية، لافتا الانتباه إلى أن هناك فئة من هؤلاء الباحثين والدارسين المغاربة، حظيت من العميد الراحل بقرب فكري وروحي وإنساني خاص، مبرزا أن الاستاذ محمد احميدة، كان وجها بارزا ضمن هذه الفئة، بل إنه يجسد في نظره ، جزءا مهما من ذاكرة النادي الجراري الرباطي الذي كان يرأسه العميد المرحوم عباس الجراري منذ العام 1983، إثر وفاة والده مؤسس هذا النادي الأدبي ، العلامة والمؤرخ عبد الله الجراري رحمه الله ، مسجلا أن أن المجلدات الضخمة التي أشرف الدكتور محمد احميدة على إعدادها و إصدارها، حول التاريخ الأدبي للنادي الجراري، تشهد على دوره الرئيسي والمحوري في توثيق ذاكرة هذا النادي، وما شهده على امتداد سنوات طويلة ، من جلسات ومحاورات فكرية وإبداعية ، بين أقطاب الثقافة من المغرب والمشرق .
 
وأضاف عبدالإله التهاني بأنه إذا كان الدكتور عباس الجراري ، قد وضع لسيرته الذاتية عنوان " رحيق العمر"، فإن إن الأستاذ امحمد احميدة يجسد فعلا "رحيق النادي الجراري" ، حيث يقاس عمر اتصاله بالمرحوم عباس الجراري ،وما تلاه من توطيد الأواصر الفكرية والإنسانية بينهما ، كل ذلك يقاس بأزيد من نصف قرن من الزمن.
 
● أثر الاصول والجذور :
وعن سؤال يتعلق بالروح الوطنية التي ميزت المرحوم عباس الجراري، وأطرت كل أعماله الفكرية والادبية،أوضح الاستاذ محمد احميدة، بأن العميد الراحل تميز بروحه الوطنية، على اعتبار أنه تربى
في بيئة وطنية، بحكم أن والده العلامة عبد الله الجراري ، يعد من رجالات الأدب والثقافة ، الذين احتكوا برجال الحركة الوطنية، وكان عدد من هؤلاء الرجال يتردد على ناديه الأدبي.
 
وفي هذا الاطار ، ذكر الأستاذ محمد احميدة أسماء بعض أقطاب الحركة الوطنية ، الذين كانوا يترددون على بيت العلامة عبدالله الجراري ، كالحاج أحمد بلافريج، والحاج عثمان جوريو، ومحمد الحمداوي ، وعبد الجليل القباج، والحاج أحمد الشرقاوي.
وأكد بأن المرحوم عباس الجراري، كان وهو مايزال طفلا، يجالس هؤلاء القادة ، معتبرا أن التنشئة الأولى للمرحوم الجراري، هي تنشئة وطنية بدأت من البيت، دون أن يغيب عنا أن والده المرحوم عبد الله الجراري كان قد امتحن سنة 1930، ودخل السجن، بسبب الأحداث التي صاحبت الظهير البربري. حيث قام خطيبا في الناس. وخلص ضيف برنامج "مدارات" إلى القول، بأنه ليس غريبا أن نجد هذه الروح الوطنية،، تتجلى عند الأستاذ عباس الجراري في مستويات متعددة.
 
●عباس الجراري وتجليات الروح الوطنية :
ومن بين تلك التجليات التي نشأ على هديها المرحوم عباس الجراري ، ذكر الدكتور محمد احميدة ، أن الراحل تربى على التمسك بالثوابت الوطنية والدفاع عنها، ولم يكن هذا الإقتناع محتفظا به لنفسه، وإنما كان يمرره إلى طلبته، من خلال محاضراته وكتاباته، يضاف إلى تجلي آخر يرتبط بدفاعه عن الهوية المغربية، حيث كان من أكبر المدافعين عن تاريخنا الفكري والثقافي.
ويظهر ذلك حسب الدكتور احميدة ، من خلال اهتمامه بالتعريف بأعلام الفكر والثقافة المغربية، مشيرا في هذا الصدد على سبيل المثال لا الحصر، إلى ما كتبه عن الحسن اليوسي، في كتابه "عبقرية اليوسي"، ثم ما كتبه عن يوسف بن تاشفين، ببعد وطني، وأوضح ضيف البرنامج، بأن الراحل عباس الجراري كان قد أصدر كتابا تحت عنوان "صبابة أندلسية" ، وهو موسوم بإهداء إلى روح يوسف بن تاشفين ، على اعتبار أن الكتاب هو دفاع عن شخصية يوسف بن تاشفين ، ردا على ما كتبه بعض المشارقة والمستشرقين ، الذين تحاملوا في القضية المعروفة بعلاقة يوسف بن تاشفين بالأمير المعتمد بن عباد.
وأضاف بأن هذا الكتاب جاء في سياق معين ، على هامش الندوة التي نظمتها وزارة الشؤون الثقافية سنة 1995، بمناسبة مرور المائة التاسعة على وفاة المعتمد بن عباد.
 
■ الادب والفكر لاثبات مغربية الصحراء :
وفي نفس المنحى،، تناول الأستاذ احميدة تجليات أخرى للروح الوطنية لدى العميد عباس الجراري، وتتمثل في أعماله وحدتنا الترابية ، حيث دحض مزاعم الخصوم عبر الدراسات الأدبية التي أنجزها ، وأثبت بالحجج الدامغة تلك الروابط الروحية والثقافية والسياسية والاجتماعية، التي جمعت عبر التاريخ بين المغرب وأقاليمه الجنوبية.
واستحضر المتحدث في هذا الباب، الدرس الحسني الذي ألقاه المرحوم الجراري في شهر رمضان من سنة 1975 ، أمام الملك الراحل الحسن الثاني، وتحديدا قبل شهر واحد من انطلاق المسيرة الخضراء، وكان بعنوان "وحدة المغرب المذهبية خلال التاريخ" ، وقد أصدره ضمن كتاب يحمل نفس العنوان.
 
■ كيف وصف الحسن الثاني عباس الجراري:
وروى ضيف برنامج "مدارات" على لسان المرحوم الأستاذ الدكتور عباس الجراري، أنه قال له في إحدى جلساتهما الخاصة ، أنه استدعي من طرف جلالة الملك المرحوم الحسن الثاني ذات ليلة، مع نخبة من المفكرين ورجال السياسة، وكان العدد محدودا، من أجل مناقشة موضوع الإجابة عن سؤال طرحته محكمة لاهاي، حول الروابط بين المغرب وصحرائه، وأن المرحوم الحسن الثاني، بعد أن استمع إلى مختلف التدخلات،، كان في حالة كبيرة من الارتياح ، وأن المرحوم عباس الجراري كان من الذين قدموا عروضهم أمام الملك الراحل ، علما أنه كان أصغر هؤلاء المثقفين الحاضرين من حيث السن.
وأضاف يحكي على لسان المرحوم عباس الجراري ، أنه خلال توديعهم من طرف الملك الحسن الثاني، وهو واقف بجانبه ، خاطب الملك جميع الحاضرين بالقول: "أتعرفون من هذا ؟ هذا ابن أستاذي" ، وكان الملك يقصد العلامة المؤرخ عبد الله الجراري .
وأشار ضيف البرنامج أن الأستاذ عباس الجراري، كان قد عين ضمن الوفد الذي سيذهب إلى محكمة لاهاي الدولية ضمن الوفد المغربي ، ضمن نخبة من المثقفين ، باعتبارها ستكون الخلفية الفكرية للقضية الوطنية، إلا أن ذلك لم يتأت ، لأنه جرى تكليفه بمهمة ديبلوماسية أخرى.
 
■ الجراري وثقافة الصحراء :
وأورد الدكتور احميدة أن الفضل يعود إلى المرحوم الأستاذ عباس الجراري ، في النبش حول ثقافة الصحراء، والإنتباه إلى أدبنا وتراثنا في صحرائنا المغربية، واعتبر عمله هذا، وجها آخر لوطنية الرجل، الذي نافح عن مغربية الصحراء ، اعتمادا على الجانب الفكري كمدعم للجانب السياسي، وهذا ما انبرى إليه الراحل عباس الجراري ، حينما بدأ يبحث في أدب الصحراء، حيث أصدر كتابه المعروف "ثقافة الصحراء".
 
يتبع