ثمة حقائق تاريخية نائمة في عدد من المخطوطات والكتب التاريخية المغربية، تقوم دليلا قاطعا على محاولات الإصلاح الجدية التي انخرطت فيها ثلة من نخبة المغرب بقرار سياسي تدبيري من السلطان مولاي الحسن الأول في عقد الثمانينات من القرن 19، من ضمن مجالاتها بعث طلاب مغاربة إلى الخارج للتكوين في مجالات تدبيرية دقيقة.
اخترت اليوم أن أتوقف عند مجموعة منهم (أغلبهم من مدينة مراكش) تم إرسالهم إلى بلجيكا لاكتساب معارف تقنية وعملية في مجال صناعة القطارات البخارية. مما يقوم دليلا على أن السلطان المغربي ذاك رحمه الله قد كان له تصور حول مجالات الإصلاح الواجبة لتغيير أسباب التقدم والتمدن التقني بالمغرب حينها، التي من ضمنها مخططه لتنفيذ مشروع للسكك الحديدية، تذهب بعض المصادر الإنجليزية (التي سبق وأحال عليها المؤرخ المغربي الحجة خالد بن الصغير في كتابه "بريطانيا وإشكالية الإصلاح بالمغرب في القرن 19") إلى أن أول مخطط طموح لإنجاز خط للسكك الحديدية حينها قد تم اختيار أن يكون بين مدينة الجديدة ومراكش.
سيواجه هذا الطموح الإصلاحي بمقاومة من قبل جهات خارجية (خاصة فرنسا المحتلة للجزائر التي كانت ترفض أي تواجد إنجليزي أو ألماني بالمغرب)، بالتوازي مع إصدار بعض فقهاء زوايا وازنة ومؤثرة مجتمعيا فتاوى تحرم أي إصلاحات تنموية مماثلة، حيث نجد فتاوى تحرم ما تسميه "بابور البر" (القطار) وأخرى تحرم "التلغراف". مما كانت نتيجته أن ذلك المشروع الإصلاحي بأذرعه المتعددة الذي نتحدث اليوم فقط عن الشق المتعلق منه بمشروع تنفيذ إنشاء خطوط للسكك الحديدية بالمغرب، سيتوقف تماما ويطوى نهائيا مع وفاة السلطان مولاي الحسن الأول.
مما يحيل عليه المؤرخ المغربي الحجة الفقيه محمد المنوني المكناسي في كتابه "مظاهر يقظة المغرب" (الجزء الأول)، وقوفه على تقييدات تتعلق بلائحة البعثات الطلابية المغربية إلى أروبا منذ عهد السلطان محمد الرابع (محمد بن عبد الرحمان) سنة 1864، والتي تعززت أكثر في عهد ابنه السلطان مولاي الحسن الأول ابتداء من سنة 1878، من ضمنها تقييد خاص بلائحة الطلبة المغاربة الذين تم إرسالهم للتكوين في المجالين العسكري والمدني بمملكة بلجيكا ابتداء من سنة 1887، البالغ عددهم 55 طالبا، كما ورد في تقييد مخطوط ضمن المكتبة الزيدانية بمكناس الواردة تفاصيله ضمن كتاب "العز والصولة في معالم نظم الدولة" للمؤرخ المغربي عبد الرحمن بن زيدان، كان ضمنهم 8 طلاب مغاربة تكونوا في مجال صناعة القطارات أو ما يسمى "بابور البر"، هم:
"أحمد بن لحسن/ محمد بن المؤذن/ أمان العباس/ سالم بن إبراهيم/ عباس بن المصطفى/ العرفاوي بلحاج/ محمد بن زروق/ بنعيسى بورواين".
بالتالي فإن هؤلاء الشباب هم أول المغاربة الذين اكتسبوا معرفة علمية وتقنية في مجال صناعة القطارات والسكك الحديدية منذ سنة 1887.
أين انتهى هؤلاء الطلاب المغاربة؟
لا أحد يعلم ذلك لحد الآن، ما لم يبح مخطوط ما منسي هنا أو هناك بالمآل الذي انتهوا إليه.