تقتضي الأمانة الأخلاقية، والعلمية، الإقرار أولاً بأن الموضوع الذي أتناولُه هُنا لم يكن من الظواهر التي انتبهتُ إليها من تلقاء نفسي. بل يعود الفضل في ذلك إلى أحد أصدقائي الذي بعث إليَّ مقطعاً مرئياً، ونصا مكتوباً، يتطرقان إلى الموضوع. وما أن شاهدتُ المقطع المرئي، وقرأتُ النص، حتى انبعثت في رأسي ملاحظات، وانطباعات، وانفعالات طالما أثارها في داخلي ذاتُ الموضوع دون أن أجد له عنواناً مناسباً بيني وبين نفسي، ودون أن أنتبه إلى كل أبعاده وتداعياته وخطورته.
بالطبع، كانت تستفزني اللغة الرديئة التي أصبحت تغزو فضاءنا التواصلي، والمدرسي، وتسربت حتى إلى البحوث الجامعية، ولم تسلم منها حتى الكتابات الصحفية. و"الاستفزاز" في هذه الحالة وصفٌ في منتهى التخفيف لأن الواقع هو أن تلك اللغة تسبب لي الغثيان والشعور بالقَرَف. ولربما كان شعوري ذاك نابعاً من المقارنة اللاواعية مع المدرسة العمومية في السبعينيات حيث كنا ونحن إذَّاكَ تلاميذ مُلزَمين بتدوين المفردات الجديدة يوميا، وحفظها، ثم استظهارها أسبوعياً مع الحرص على توظيفها في أنشطة الكتابة. ولم يكن التباري حينها بين التلاميذ المتميزين يجري حول الكتابة بلغة سليمة وإنما كان التنافس يتم حول مَنْ يبدع أكثر في استخدام الأساليب والصور اللغوية. وجيلُ تلاميذ السبعينيات ذاك هو الذي كانت كتاباتُه تملأُ لاحقاً صفحات الإبداع الأدبي بالجرائد اليومية والأسبوعية في الثمانينيات والتسعينيات، وكانت أشهرُها طبعاً هي صفحة "على الطريق" بجريدة "الاتحاد الاشتراكي"، وصفحة "مُتابعات وإبداعات" على جريدة "بيان اليوم"، والتي كنت مشرفا عليها في مرحلةٍ ما، ناهيك عن الملاحق الثقافية الأسبوعية، وغيرها من الوسائط التي كانت تستقبل كتابات الشباب آنذاك.
كنتُ أظن أن الانحطاط اللغوي يقتصر علينا وأُرجِعُ ذلك إلى أزمة التعليم في المغرب. لكن الشريط المرئي والنص اللذين ذكرتُهُما في مستهل هذا المقال فَتَحَا عيني على زاوية أكبر. فالفقر اللغوي على ما يبدو يمثل غايةً تعمل على بلوغها بعض القوى العالمية. ذلك أن الإنسان الفقير لغوياً هو، بالتَّبِعَة، إنسانٌ فقيرٌ عقلياً، وفكرياً، وثقافياً، ومعرفياً، وربما عاطفياً أيضاً. وبقدر ما انحطَّ الرصيد اللغوي للفرد وانحطَّ، تَبَعاً لذلك، عقلُه وتفكيرُه كان من السهل التحكم فيه وإخضاعُه وتوجيهُه حيثُما أراد المتحكمون في الرقاب. وهذه بمثابة "حقيقة" تقفز إلى الأعين إذا ما استحضرنا أن اللغة والعقل في أصلهما اليوناني متماهيان. فكلمة "لُوغوس" في اللغة اليونانية تعني العقل واللغة معاً. ولربما جاز لنا ـ انطلاقاً من ذلك وحده ـ أن نستنتج كل الخلاصات اللازمة عن تلازُم العقل واللغة. وبالنتيجة فإننا نستطيع، اعتماداً على ذلك، أن نتوقع ما سينتهي إليه أمرُ الإنسان نتيجة استراتيجية الإفْقَار اللغوي على الصعيد الكوني. فَلَسَوْفَ نكون ـ بكلمات قليلة ـ أمام بشر أقرب إلى الحيوان، مشدودٍ إلى التمثلات الحسية (بلغة شوبنهاور)، غير قادر على خوض التفكير المجرد، يكتفي من المعارف ببضع تقنيات يُحَوِّلُها إلى قوة عمل يشتريها منه الرأسمالي مقابل ما يضمن به عيشَه، أو بالأحرى بقاءَه!
الإنسانُ المُفْقَرُ لغوياً لا حاجة له بالشعر، ولا بالرواية، ولا بالقصة، ولا بالمسرحية، ولا حتى باللوحة الدالة، والمعزوفة الحاملة للمعنى، والأغنية الفيَّاضة بالمشاعر الرقيقة. لا حاجة له بامرئ القيس، ولا بهولدرلين، ولا ببودلير، ولا بدوستويفسكي، ولا بحنا مينه، ولا بشكسبير ولا بسعد الله ونوس، ولا بدافينتشي، ولا بجاك بريل أو رياض السنباطي أو أحمد البيضاوي أو ابن زيدون. فالحاجة إلى كل هؤلاء هي، في المقام الأول والأخير، حاجة عقلية ووجدانية تلعب فيها اللغة دوراً حاسماً. وفي اللغة وما يرتبط بها، ويترتب عنها، يتجلى الوجود الإنساني بكامل أبعاده.
لقد صارت تلك المخاوف التي عبر عنها مارتن هايدغر في منتصف القرن الماضي، اليوم، بمثابة حقيقة ماثلة في واقعنا اليومي. فالميتافيزيقيا التي تحولت إلى تقنية ـ أو لنقلُ للدقة إنها تحولت إلى تكنولوجيا باعتبار هذه الأخيرة نتيجة لتضافُر التقنية والعلم ـ قد أضحت اليوم تستعبدُنا، ويتم تسخيرُها لتجريدنا من أهم ما يفصل بيننا وبين الحياة الحيوانية: اللغة، أي "بيت الوجود" كما كان يسميها هايدغر. فالرعب القادم ليس الحرب النووية التي تدمر الأرض بمن عليها وتأتي على الحجر والشجر، وإنما هو تدميرُ الإنسان في الإنسان. وهو التدمير الذي قد ينتهي بنا إلى ذلك المصير المأساوي الذي تنبأ به بيير بول في "كوكب القردة"، حيث فقد الإنسان اللغة ففقد الحضارة وعاد إلى الغابة، بينما تطورت اللغة والوعي لدى القرد فَحَلَّ محلَّ الإنسان.
تُرَى أيُّ قِرَدَةٍ تحكمُ عالمنا اليوم؟ وأيُّ قِرَدَة قد تحكُمُنا غداً؟