حتى حدود التسعينيات من القرن الماضي، كان الحديث يجري عن "أزمة القراءة"، وعن "العزوف عن القراءة"، وما شاكل ذلك من العناوين. ورغم أن العناوين إياها كانت حاضرة بشكل شبه دائم في الصحف، والمجلات، والندوات التي كانت تُعقَدُ هنا وهناك، فقد كان الكتابُ والجريدة والمجلة حاضرين جميعاً رغم ذلك في الفضاءات العامة المختلفة.
لم يكن من النادر حينها أن ترى الكتاب والمجلة والجريدة في المقهى، والحديقة العمومية، وكان الإنسان القارئ يحظى بنظرة التقدير والاحترام من طرف الجميع، بمن فيهم أولئك الذين لم يكونوا ضمن خانة القُرَّاء. بل وكانت هناك مَقَاهٍ شهيرة في بعض المناطق يرتادُها القراء والمثقفون والفنانون. وكانت تلك المقاهي بمثابة منتديات مفتوحة للنقاش وتداول الأفكار ومقارعة المواقف السياسية أيضا. كان في البلاد مسرَحٌ هَاوٍ له روادٌ وعشاقٌ وجمهور، وكانت ملتقياتُه ومهرجاناتُه تشكل مناسبة للقراءة والنقاش أيضا. وكانت دُورُ الشباب تعجُّ بالندوات والمحاضرات ومعارض الكتاب حتى أنه كان يستعصي على الجمعيات والأندية النشيطة آنذاك، في كثير من الأحيان، أن تجد موطئ قدم لها ضمن البرامج الأسبوعية والشهرية بفعل كثرة الأنشطة ومحدودية القاعات.
اليوم، تبَخَّر كل هذا وضربت العنكبوتُ بنسجِها على دُور الشباب التي تحولت إلى مشاتل لاستنبات الظلامية والتخلف والعَفَن. وفي الآن ذاته مُسِخَت تلك المقاهي التي كانت ملتقىً للقراء وساحة للاحتفاء بالكتاب والمجلة والجريدة. وعوض نظرة الاحترام والتقدير صار الإنسانُ القارئ عرضة لنظرات العدوانية والكراهية والاستصغار. ومكانَ مشية التواضع التي كانت تميز أغلب عُشَّاق الكلمة حَلَّت البهيمية، والاستعراض الفج لعضلات الصدر والمؤخرة، وتفشى استهلاكُ التفاهة، وانتشرت السطحية والبذاءة، وتدنى الذوق، وانحطَّت الأخلاق.
هل كان كل هذا صدفةً؟
كلاَّ! فقد شكل هذا رهاناً استراتيجياً لقوى التجهيل، والتسطيح، والظلامية، بكل أصنافها وتموقعاتها. وسخَّرَت القوى إياها لتلك الغاية إمكانيات ووسائل لا سبيل لنا إلى حصرها ولا إلى وصفها هنا على سبيل الدقة. ولعل أبناء جيلي يذكرون أن ما أسميه شخصيا بـ "عصر النهيق" قد بدأ مع تسخير كل إمكانيات الترويج في الثمانينيات لنشر صنفٍ من "الموسيقى" و"الغناء" (لا أريد ذكره بالاسم!) وربطِه بتعاطي أقراص الهلوسة، والإيذاء الذاتي (Automutilation). ولا شك أنهم يذكرون أيضا كيف تحول شبابُنا آنذاك إلى كومةٍ من التيه والضياع. وها نحن اليوم قد تقدمنا أشواطا كبيرة على نفس الدرب وصرنا نسمع النهيق يتصاعد من كل مكان لا فقط في شوارعنا وأزقتنا وإنما أيضا داخل مدارسنا. بل وبلغ الأمر حدَّ الاعتراف الرسمي من طرف وزير التربية الوطنية بأن تلاميذنا في آخر المرحلة الثانوية لا يتقنون أي لغة!
هل نلومُ الهواتف الذكية كالمعتاد؟
يبدو الأمر في منتهى السخافة. فالمجتمعات التي تنتج آخر صيحات التكنولوجيا هي المجتمعات التي تحتل المراتب الأولى على صعيد القراءة عالمياً. ووجود الوسائط الرقمية لم يجعل القراءة تتراجع في الولايات المتحدة الأمريكية، ولا في الاتحاد الأوروبي، ولا في بريطانيا، ولا في اليابان، ولا في الصين. فالقراءة لم تتراجع ـ ولا تزال تتراجع مع الأسف! ـ إلا في المجتمعات التي هي غارقةٌ أصلاً في التخلف والظلام. وهذا معناه أن الذي يقف وراء ذلك ليس الأدوات التكنولوجية وإنما هو سياسة متكاملة، وبكل وسائلها وأدواتها الجهنمية، تتوخى محاصرة الإنسان القارئ، وجعله غريباً ومُسْتَغْرَباً ومُسْتَهْجَناً، ومُحتقَراً. وما ذلك إلا لأن الإنسان القارئ هو الخطر الأكبر على الأنظمة الاستبدادية، وعلى سلطة "الشيوخ"، ولصوص المال العام، وسارقي ثروات الشعوب، ومَنْ أسميهم بـ "طَرَاطِرَة السياسة"، أي أولئك السياسيين الفاشلين الذين لا يملكون إلا الخُطَب. وحتى خُطبُهم فهم لا يكتبونها وإنما تُدَبِّجُها لفائدتهم أقلام تبيع خدماتها بأثمنة زهيدة في أغلب الأحيان.
غُربة القارئ، في آخر المحصلة، ليست صدفة وإنما هي رهانٌ واعٍ لكل أولئك الذين يعرفون أن نهايتهم رهينة بكلمة واحدة: اقرأ!