محمد بنمبارك: غزة ورطة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية

محمد بنمبارك: غزة ورطة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية محمد بنمبارك
لم يُفاجأ الرأي العام العالمي بقدر ما فوجئت إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية بقرار محكمة العدل الدولية يوم 26 يناير 2024، وهي تفتي في الدعوى الاستعجالية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، والتي تّتهمها فيها بممارسة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في أعقاب هجمات حماس في 7 أكتوبر 2023. جاء القرار ينطق بالحقيقة الماثلة أمام المنتظم الدولي التي يصعب طمسها، حقيقة حرب الدمار الشامل التي شنتها قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة المدنية المعزولة والمحاصرة.
مفاجأة إسرائيل وأمريكا وإلى جانبهما بريطانيا، تكمن في أنها المرة الأولى التي تتم فيها محاكمة الدولة اليهودية بموجب اتفاق الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية، وفي نزوع المحكمة نحو الأخذ بأطروحة جنوب إفريقيا في الدعوى، حين أكدت على أن "لديها صلاحية للحكم بإجراءات طارئة في قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل"، وأنها " لن ترفض القضية والفلسطينيون مجموعة تخضع للحماية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية".
الصدمة الإسرائيلية الأمريكية تمثلت أيضا في مطالبة إسرائيل باتخاذ ستة (6) تدابير لتسوية الأوضاع الحربية والإنسانية في حدود سلطتها لمنع الإبادة الجماعية بقطاع غزة، مؤكدة أنها ستفرض إجراءات طارئة في القضية، وعلى حكومة إسرائيل تقديم تقرير إلى المحكمة في غضون شهر يفيد التزامها بما أوصت به من تدابير إلزامية.
وإذا كانت المحكمة لم تأمر بوقف إطلاق للنار كخطوة استعجالية إنسانية ملحة، فإن التمعن في قراءة تفاصيل وثنايا قرارها وفيما انطوى عليه من تدابير طارئة وحيثيات، يفيد أنه جاء استجابة لمطالب الفلسطينيين، وأننا أمام تطبيقات لقرار وقف لإطلاق النار، ذلك أن التدابير جاءت بمثابة تعطيل لآلة الحرب الإسرائيلية ودعوة لفتح المعابر لإدخال المساعدات الإنسانية وإسعاف المدنيين وغيرها، وهذه كلها إكراهات وشروط لا تخدم سيناريوهات "نتنياهو" في الحرب.
ــ المأزق الإسرائيلي وذريعة حرب من أجل الدفاع عن النفس:
كان من الصعب على إسرائيل التحلل من التزاماتها أمام المحكمة، فقررت على مضاضة المثول أمام محكمة العدل الدولية والدفاع عن نفسها لتبرير موقفها، ورأت أنه لا سبيل للتملص من هذه الدعوى، بحكم أنها عضو في اتفاق منع جريمة الإبادة الجماعية منذ بدايتها، حيث كانت المستفيد الأول من قرارات هذه المحكمة
مثول إسرائيل أمام المحكمة مؤشر جد إيجابي للقضية الفلسطينية يفيد أن هناك تغيير في سياسة إسرائيل المعتادة على عدم الخضوع لمثل هذه المساءلات أمام مؤسسات المنتظم الدولي، وهي المثقلة بشتى أصناف الجرائم والتعارض مع القانون الدولي: احتلال أراضي فلسطينية وعربية، بناء وتوسيع المستوطنات، جدار الفصل العنصري، الاعتداءات والحروب المتكررة على الشعب الفلسطيني، الحصار، إغلاق المعابر، الاغتيالات والاعتقالات لآلاف الأسرى بمن فيهم الأطفال، أعمال إبادة في حق الشعب الفلسطيني بالضفة الغربية وغزة، واللائحة طويلة تمتد إلى 75 عاما. (قرار إدانة النازية بسبب المحرقة اليهودية).
بَنَت إسرائيل استراتيجيتها القانونية أمام المحكمة على كون حربها على غزة تأتي دفاعا عن النفس وعلى مفهوم (طهارة السلاح) أي أن الحرب لا تستهدف المدنيين، لكن الأفعال على أرض الواقع، دحضت هذا التوجه العام للدولة العبرية، باعتماد المحكمة الدولية كل البنود التي دَفعت بها جنوب إفريقيا، واعتبار أن إسرائيل في وضعية لا تسمح لها بالتذرع بالدفاع عن النفس، لأنها دولة محتلة ومسؤولة عن حماية المدنيين بأراضيهم.
أقرت إسرائيل بالضرر السياسي الذي لحقها جراء اتهامها بشبهة الجرائم الإبادة الجماعية، وهاجمت المحكمة (وهي عادة ما تهاجم المؤسسات الدولية وتحاول نزع أية شرعية عن مقرراتها) التوصيات التي تبنتها لصالح الشعب الفلسطيني، متحججة بشرعية الدفاع عن النفس، وبردة الفعل على هجمات 7 أكتوبر والسعي لإطلاق سراح الرهائن لدى حماس، معتبرة بأن ما حصل شبيه بكارثة المحرقة النازية لليهود، معتمدة في ذلك على السردية اليهودية المعروفة التي تحاول الظهور فيها على الدوام كضحية وليس كجلاد والسعي أخلاقيا للمحافظة على المكانة اليهودية المشمولة دوليا بالرعاية والتعاطف والدعم الدائم.
القرار القضائي وضع الجميع أمام مسؤولياته، إسرائيل والإدارة الأمريكية، وقد يساعد في التحضير لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين ومن يقف إلى جانبهم في ارتكاب جرائمهم، كما يفتح الباب على مصراعيه لالتفات العالم إلى معاناة الشعب الفلسطيني، ولاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة. هي مخاوف مقلقة ضاغطة كون مطالب المحكمة تلصق بإسرائيل تهمة الشك في وجود إبادة جماعية. لذلك باتت إسرائيل تشعر بالإحراج بخاصة بعد تحول الرأي العام الدولي ومطالبتها قضائيا بالإدلاء بالبيانات والتبريرات القانونية لحربها المروعة.
ذهبت المحكمة أيضا في الاتجاه المعاكس لرؤية إسرائيل ودفوعاتها وهو ما أزعجها، ومما وزاد من حدة غضبها الإجماع حول القرار( لا مثيل له منذ قرار إدانة المحرقة النازية في مفارقة تاريخية معبرة)، الأمر الذي ضغط بدوره إسرائيل، ودفع مسؤوليها ـ حسب الصحافة العبرية ـ إلى التخوف من تداعيات ذلك على الموقف من إسرائيل دوليا والخشية من فرض رقابة دولية بعدما باتت عملياتها العسكرية مكشوفة ومحط أنظار العالم والمؤسسات الدولية في مقدمتهم محكمة العدل الدولية والأمم المتحدة، ولِمَ لا محكمة الجنايات الدولية التي تتوصل بالعديد من الدعاوى والمطالب لمحاكمة المسؤولين الإسرائيليين.
وقد بدأت تلوح داخل إسرائيل تصريحات ومواقف تُحَمِل اليمين المتطرف بقيادة "نتنياهو" مسؤولية دفع دولة إسرائيل نحو الهاوية، والإضرار بمصالحها وتشويه سمعتها لدى الرأي العام العالمي واحتمال تعرضها لعقوبات دولية وفقدان مركزها وهيمنتها وهيبتها إقليميا ودوليا. وفي هذا السياق هاجم عدد من الساسة من اليسار وكتاب مقالات بصحف عبرية، التصريحات التي صدرت عن السياسيين والقادة العسكريين وحتى الجنود في الميدان، الذين طالبوا بمسح غزة، وإلقاء قنبلة نووية ورفضوا التفريق بين المدنيين و"المخربين"، المقصود حركة حماس قيادة ومقاتلين، وخطاب الكراهية والتحريض على القتل ومنع المساعدات وقطع الإمدادات المدنية والدعوة إلى الطرد والتهجير القسري وغيرها وهي الخطابات الممنوعة دوليا.
فيما عبر آخرون عن غضبهم حين اعتبروا أن قرار المحكمة لم يكن ممكنا إلا بسبب تلك التصريحات غير المسؤولة من قبل السياسيين اليمينيين المتطرفين. وهناك من طالب بتغيير القيادة في إسرائيل ومحاسبة المسؤولين على الكارثة التي حلت بإسرائيل منذ السابع من أكتوبر مع الدعوة إلى تبني سياسات أكثر عقلانية وانفتاحا.
ــ مناورات أمريكية لخلط الأوراق:
لم تتردد الولايات المتحدة التي تعد أقوى حليف للدولة العبرية في معارضة قرار المحكمة، كما رفضته بعض الدول المنضوية بالاتحاد الأوروبي، حتى أن فرنسا رأت أن اتهام إسرائيل بالإبادة يمثل "تجاوزاً لعتبة أخلاقية"! تحركت الإدارة الأمريكية وبريطانيا إلى جانب إسرائيل سياسيا ودبلوماسية وعلى نطاق واسع داخل وخارج المحكمة الدولية للدفع باتجاه رفض طلب الدعوى، واستعصى ثني جنوب إفريقيا عن العدول عن عريضتها، كما أشارت بعض التقارير الإعلامية إلى محاولات التدخل لدى السلطة الوطنية الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني لتعطيل إجراءات المحاكمة لكنها رَفَضت.
جرت أيضا محاولات لإحداث اختراق في صفوف قضاة المحكمة لرفض الدعوى أو حتى التخفيض من نسبة التصويت لصالح القرار. في هذا السياق صرح متحدث باسم الحكومة الإسرائيلية قبل يوم من صدور القرار:" أنهم يتوقعون من المحكمة التابعة للأمم المتحدة إسقاط هذه الاتهامات الزائفة والمضللة". لكن كل هذه المناورات باءت بالفشل.
وفي محاولة للتعتيم على القرار يوم صدوره، أصدرت الخارجية الأمريكية قرارا بتعليق مؤقت لتمويل جديد لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، على خلفية اتهام السلطات الإسرائيلية بعض موظفي الوكالة الأممية بالضلوع في الهجوم الذي شنته حركة "حماس" في السابع من أكتوبر الماضي، واتخذت نفس الموقف وبشكل استعجالي وغريب دول غربية في ظل ظروف حرب قاسية يعيشها سكان غزة ودون استكمال إجراءات التحقيق، تهافت يعكس هذا التحالف الغربي الأعمى مع إسرائيل.
تظاهرت الإدارة الأمريكية أيضا بالانشغال بالبحث عن خطة سلام بين إسرائيل والفلسطينيين واهتمامها بالمدنيين في غزة وبالحديث عن مشاريع واعدة لما بعد الحرب في غزة، وقالت إنها تدرس مع إسرائيل صفقة بوساطة مصرية قطرية للتوصل إلى هدنة والسماح بإدخال المساعدات في مقابل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين لدى حماس، واستعجلت بعقد قمة بباريس يوم 28 يناير الجاري بمشاركة إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ومصر وقطر لكنها لم تنته إلى شيء، دخول فرنسا على الخط جاء في سياق لعبة تبادل الأدوار مع أمريكا والتغطية عما باتت إسرائيل مطالب به أمام العدالة الدولية من إجراءات قضائية طارئة ملزمة.
المثير للسخرية ظهور رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في مؤتمر صحفي يوم واحد بعد صدور قرار المحكمة، حاملا كتاب "كفاحي" بالعربية لأدولف هتلر، زَعَم أن جنوده وجدوه بمنازل المدنيين في غزة، قائلا إنه " أدب معاد للسامية ونازي"، فبركة لتعزيز أكاذيبه بأنه يحارب من يسميهم "النازيين الجدد"، وعلى خطى التغطية والتمويه، صدرت تصريحات لنتنياهو يهاجم فيها قطر، فيما اتهم وزير اسرائيلي الدوحة بدعم وتمويل الارهاب.
وقد تزامنت كل هذه التحركات والتصريحات والخرجات الأمريكية والإسرائيلية والفرنسية بُعَيْد صدور حكم المحكمة هدفها التشويش والضجيج السياسي والاعلامي، في محاولات للالتفاف حول قرار المحكمة لصرف أنظار العالم، والتظاهر بأن الجهود الدبلوماسية ماضية نحو الحل، في حين أن لا صوت يعلو فوق صوت المدافع.
بات قرار المحكمة شوكة في حلق إسرائيل المطالبة داخل أجل شهر بتقديم تقرير للمحكمة، يتداخل مع ذلك معطيات إقليمية ضاغطة كحرب السفن بباب المندب المُضِر بالتجارة العالمية ومصالح إسرائيل، ومقتل جنود أمريكيين على الحدود الأردنية السورية، فضلا عما تفرزه يوميا تطورات الحرب والوساطات، تَعَزّز بدخول محكمة العدل الدولية على خط الصراع كعامل مؤثر وحاسم بعد تراجع دور مجلس الامن الدولي.
 
 محمد بنمبارك، دبلوماسي سابق