وأخيراً قرر مجلس هيئة المحامين بالدار البيضاء، العودة إلى مواصلة عضويته في جمعية هيآت المحامين بالمغرب، وذلك بعد مغادرة الهيئة المذكورة قبل ثلاث سنوات للجمعية، لاعتبارات معنوية.
وقرار استعادة محامي الدار البيضاء لمقعدهم الشاعر، كان نتيجة مساع حميدة وصادقة، ومراجعة الطرفين العواقب استمرار شغور المقعد، وما كان له من انعكاسات سلبية على القوة الاقتراحية والتفاوضية للجمعية، إزاء الأطراف المخاطبة في القضايا المختلفة، التي تهم الشأن المهني، والملفات الحارقة التي تطرحها وضعية مهنة المحاماة في الوقت الحاضر، والتعقيدات المتعددة الجوانب والأبعاد من كل النواحي الحقوقية والمهنية والاقتصادية والاجتماعية والتشريعية.
ولذلك فإن عودة محامي الدار البيضاء إلى القلعة التي تجمع كلمة المحامين على الصعيد الوطني إلى مصدر القرار داخل الجمعية، هو حدث وموقف متبصر، ينم عما لهذه الهيئة من نضج واعتبار، وهذا ليس نرجيسية أو شوفينية أو أنانية، ولكن الواقع المشهود، الذي قرأه مسؤولوا الجمعية القراءة المسؤولة الصحيحة التي ترجح المصلحة العامة الموضوعية للمحاماة، على بعض الأنانيات، والاعتبارات الذاتية.
وفي هذا الصدد، يمكن التذكير بأن هيئة المحامين بالدار البيضاء، هي من مؤسسي جمعية هيأت المحامين بالمغرب قبل اليوم باثنين وستين 62 سنة، في وقت كان فيه عدد نقابات المحامين على الصعيد الوطني بعد على رؤوس الأصابع، حيث تركزت قيادة الجمعية بين الدار البيضاء والرباط، خلال ثمانية وثلاثين سنة الموالية لتاريخ التأسيس، تحمل مسؤولية الرئاسة نقباء الدار البيضاء والرباط، وحظي بمنصب وزير العدل ثمانية من أعضائها ورؤسائها، وهم على التوالي : عبد الكريم بنجلون التويمي امحمد بوستة المعطي بوعبيد عمر عزيمان، محمد بوزيع محمد الطيب الناصري المصطفى الرميد، وآخرهم عبد اللطيف وهبي وزير العدل الحالي.
وهذا التذكير، ليس من باب التباهي، ولكن فضيلة الاعتراف بالجميل، تفرض نسبة الفضل لأهله، وترتيب النتائج العملية لهذا الاعتراف.
كما يجب التذكير بأن طريق عمل الجمعية عبر تاريخها لم يكن معبداً ومفروشاً بالورود، بل إنها واجهت واقع مراحل ما بعد الاستقلال، وإشكالات البناء المؤسسي للدولة المغربية الحديثة، وما خلقه من صعوبات واختلافات في الرأي والممارسة، وخير دليل، هو أن سنة التأسيس 1962 كانت سنة وضع أول دستور للمملكة المغربية، الذي تعددت بشأنه المواقف المطالبة بدستور ديمقراطي، يعبر عن إرادة الشعب المغربي، ويكرس فصلا حقيقيا للسلطات، ويضمن ممارسة الحريات وحماية الحقوق لا دستوراً " ممنوحاً "، لا يعكس إرادة الأمة وتضحياتها، من أجل الاستقلال الحقيقي في المضامين الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية.
وهكذا يتأكد أن جمعية هيئات المحامين بالمغرب، واكبت مرحلة ما بعد الاستقلال، بشكل الصيق بقضايا المواطن المغربي فرداً ومؤسسات، حيث يبرز ذلك من خلال نتائج مؤتمراتها، ومطالبها، التي تعكس قضايا العدالة في مفهومها الواسع، وانعكاس ذلك على الحياة الاجتماعية والحقوقية على المواطن المغربي، بتأكد كل ذلك من خلال الرجوع لبيانات مؤتمراتها، حيث تتجلى نظرة المحامين وموقفهم من قضايا العدالة، بما فيها القضاء، وما تشكله القضايا، التي يواجهها تشريعا وبنية بشرية وتبعية للسلطة التنفيذية من عواقب في تلك الحقب على المحاكمة العادلة ويؤكد التاريخ والواقع، أن جمعية هيأت المحامين كانت لها رؤية استراتيجية بعيدة المدى، لما يجب أن يكون عليه القضاء، حيث طالبت وبجرأة وإلحاح على فصل القضاء عن السلطة التنفيذية، الممثلة في وزارة العدل، وهو ما استجاب له بعد حين دستور 2011، باعتبار ((السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية، وعن السلطة التنفيذية ... )) هذا الاختيار برز في شكل مؤسسات قضائية مستقلة ممثلة في المجلس الأعلى للسلطة القضائية، إلا أن جمعية هيئات المحامين رغم أنها كانت منذ تأسيسها وطيلة عمرها المديد أول من طالب باستقلال السلطة القضائية التي كانت تعتبر مجرد هيئة لم تستفد بعد بشكل ملموس من تضحياتها ومواقفها الصامدة لتحقيق مطالبها المهنية المشروعة، بما يتناسب مع تضحياتها، بل إن وضع المحامين اليوم ينذر بتطورات سلبية على كل المستويات المهنية والأخلاقية والاقتصادية ....
لقد أصبح من ضرورات الواقع أن تقرأ الجمعية تاريخها، في ضوء معطيات التغيرات التي حدثت بحكم التطور الطبيعي للأشياء، في تفاعل مع ماضيها ومنجزاتها، بغاية تعزيز ما أثبت الواقع صلاحية استمراره من اختيارات وخلق الآليات الجديدة التي تلائم الوضع المجتمعي الراهن وأوضاع المهنة وبنياتها الحديثة، بما في ذلك من تغيرات ديمغرافية، وبنية بشرية، أهمها النمو الديمغرافي والتنوع الاجتماعي والطبقي والإقبال المتزايد على الانتماء لمهنة المحاماة مع ما ترتب عن فتح الأبواب بدون ضابط لمن سدت في وجوههم الوظائف الإدارية والخدماتية، من خريجي كليات الحقوق، فوجودوا في الهروب من واقعهم المأسوف عليه في المهنة طوق نجاة صوري، لا يسمن ولا يغني من جوع، أو يحفظ كرامة، الأمر الذي ينذر بأوخم العواقب لا قدر الله، إن واقع المهنة بهذه الصورة، يتناقض مع قيمتها الحقوقية، وبكينونة رسالتها الحقوقية والأخلاقية..... في تحقة العدل والدفاع عن دولة الحق والقانون عبر التاريخ، ولعل إرهاصات هذا الواقع كانت قد 3/5، الرسالة الملكية الموجهة للمكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب سنة 2000.
(( لقد أصبحت مهنة المحاماة في المجتمع الديمقراطي الحديث تحتل مكانة متميزة، بالنظر للدور المحوري للمحامي في تحقيق العدل والدفاع عن دولة الحق والقانون، لكن بقدر تعاظم هذه المكانة المحورية للمحاماة، بقدر ما تتنامى تحديات مهنية داخلية وخارجية، من شأنها أن تخل بنهوض المحامي بدوره الأساسي في إنارة الطريق أمام القضاء، لتحقيق العدالة المنشودة.
وإن من أكبر المعوقات المهنية الداخلية التي تؤثر سلبا على المحاماة، ما يعرفه الواقع من مساس بأخلاقياتها وقيمها وتغليب الاعتبارات المادية على مبادئها الإنسانية السامية، وهو ما يؤدي إلى الإخلال بالواجبات التي تفرضها المهنة على المحامي. فهذه الشوائب لا تمس بقدسية مهنة المحاماة فقط، بل وتلقي بظلالها السلبية على الحماية القانونية المطلوب توفيرها لعموم المتقاضين، هذه الحماية التي يعد ضمانها جوهر عمل المحامي ورسالته في آن واحد. أما بالنسبة للمعوقات الخارجية، فيكفي التذكير بما تتعرض له المحاماة من تحديات، ترمي إلى الخروج بها، إلى مجال الخدمات التجارية، وإخضاعها لمنطق السوق، وجرها إلى حلبة المنافسة الدولية، مما يمس بهويتها الأصيلة، وما ذلك إلا نتيجة للتطورات الاقتصادية العالمية المتسارعة، والأبعاد الدولية التي أصبح يتخذها القانون، خاصة عن طريق الاتفاقيات الدولية، التي تهم قانون الأعمال والجرائم الاقتصادية والبيئة، والتقنيات الحديثة للاتصال والتطور المتسارع في مجال البيوليوجيا، وغيرها من العلوم، مما يفرض على المحامي أن يكون على إلمام واسع بالمجال الذي يتدخل فيه، ويقدم خدمة قانونية على مستوى عال من الأداء، تحت طائلة مسؤوليته المهنية، ونتيجة لهذه التحديات، فإن المحاماة توجد اليوم في موقع دفاع، حتى لا تفقد قواعدها وتقاليدها وأعرافها، وثقة من يلجأ إليها، ولم يتسن رفع تلكم التحديات، إلا بالعمل على إصلاح وهيكلة المهنة، وفق تنظيم حديث ومتطور يحافظ للمحاماة على استقلاليتها وحرمتها، ويضمن في نفس الوقت تطورها، وتكيفها مع المتطلبات المستجدة، كما أن كسب هذا الرهان الحيوي، لن يتم إلا بتأمين الضمانات الأخلاقية للمهنة وأعرافها الأصيلة الملزمة، والعمل على الرفع من مؤهلات ومستوى أداء المحامي لرسالته، لا ليكون أكثر دراية بالمجال القانوني فقط، ولكن ليكون أيضا فعالا في ممارسته، متحكما في التقنيات الحديثة للمعرفة والاتصال، متفتحا على الثقافة الإنسانية، ملما بالأساليب المبتكرة في ميدان التسيير والتدبير، لأن كل تفريق في هذه المقومات من شأنه أن يرهن حرية المحامي واستقلاله، والحال أن هذين الشرطين هما قوام رسالته، وضمان نجاحه في مهمته)).
مما سبق يتأكد أن جمعية هيئات المحامين تواجه تحديات كبيرة، ذاتية وموضوعية، في مقدمتها إعادة الهيكلة والتمثيلية داخلها بنفس ديمقراطي، ووضع برنامج نضالي واقعي يسعى للإجابة على الأسئلة التي يطرحها واقع المحامين اليوم، أخلاقياً واجتماعياً واقتصادياً... وبغير هذا الاختيار، فإن الجمعية قد تتحول إلى مؤسسة فولكلورية تجتمع للترويح عن النفس، وإحياء صلات الرحم المهنية على مستوى القيادات، وتظل جماهير المحامين تعيش التردي المستمر وانسداد آفاق العمل، مع ما يترتب عن ذلك من مضاعفات تهدد الشكل والمضمون، لا قدرالله.