أن تكون خفيفا مثل الطائر، لا مثل الريشة" (بول فاليري )
كان الثقل يرتبط في الثقافات التقليدية بالمتانة وعلو الهمة والجدية والثراء والاحترام. كان الوازن مادة، وازنا قيمة. أما الخفيف فكان يوحي بالنقص والعوز والخصاص والبعد عن الرزانة، بل بالاستهتار عالمنا اليوم لم يعد يقسم على هذا النحو. فنحن نعيش ثورة عظمى للعالم المادي، حيث تحيلنا تقنياته ومنتجاته وأسواقه إلى منطق الخفة أكثر مما تحيلنا إلى الثقل. تتجلى مظاهر هذه الخفة في مجالات متعددة مجال الموضة، والمعمار، والتزيين، وكذا مجال الكتابة والشعر، وحتى علاقتنا بأجسادنا، أصبحت تميل أكثر فأكثر، نحو النحافة، ما تطلق عليه اللغة الفرنسية السعي وراء الحفاظ على "الجسم المنحوت."
لقد غزت الخفة كل الميادين، وأصبحت ترتبط بالجمال والرشاقة والحركية، والعالم الافتراضي. وهي لم تعد مجرد أحلام شاعرية خفيفة"، وإنما اقتحمت مجال التكنولوجيا، والصناعة فغدا الميل أكثر فأكثر نحو تصغير الأجهزة، واختزال الأحجام، واستبعاد كل ما يوحي بالثقل، مبنى ومعنى، شكلا ومضمونا. شعار المجتمع الحديث Small is better :
كان زيكمونت باومان قد تحدث عما سماه "الحاضر السائل"، مبينا أن الحداثة في طريقها إلى الانتقال من المرحلة "الصلبة" إلى المرحلة "السائلة" التي تتميز بكون البنيات الاجتماعية التي تحدد في إطارها الاختيارات الفردية، والمؤسسات التي ترعى استمرار التراث، وأنماط السلوك المقبولة، كل هذه الأمور لم تعد قادرة على البقاء على حالها، لأنها أخذت تتحلل ولم تعد من الصلابة بحيث تستمر في البقاء، مما تمخض عنه تحويل المجتمع من بنيات إلى شبكات.
نتج عن ذلك كله أن الأشياء لم تعد تتحدد بقيمتها الاستعمالية فحسب، وإنما تتخذ معاني ثانية لها علاقة بوجه "اللعب" واتباعها لموضات التخفف على هذا النحو يغدو كل موضوع، في نهاية المطاف أداة توحى بعدم الفائدة والإغواء اللعوب". لم تعد الأشياء تجسد "عظمة" آلات الإنتاج وثقلها و"فخامتها"، وإنما نوعا من الخفة الجمالية التي تغلف بضائع الاستهلاك. حيث تكون في الآن نفسه نفعية وجمالية، أداة للاستعمال، وموضوعا للاستهلاك، الاستهلاك الجمالي على وجه الخصوص. هذا الموضوع لا يكون فحسب أخف وزنا من الناحية المادية ولكنه محاط ببعد رمزي أقرب إلى "التفاهة". وعندما يتم الترويج له بالقدر نفسه، فليس من أجل خدماته الموضوعية فقط وإنما من أجل المتعة والإلهاء. وهكذا أصبحت الخفة رمزا، ونغمة سائدة تطبع اقتصاد المجتمع الاستهلاكي.
غير أن هذا السعي نحو التخفيف سرعان ما سيعمل ضد نفسه. وسيتضح أن من مفارقات المجتمع المعاصر كون الخفة غدت تغذي روح الثقل"، غدت تثقل كاهل" من يسعى نحوها.
فبما أن المثل الأعلى للخفة غالبا ما يكون مصحوبا بمعايير صارمة "وازنة" وذات تأثيرات غير مريحة، بل ومثبطة في بعض الأحيان، فإنها تنتهي بأن تثقل كاهل" من يبتغيها. فذاك الذي ينشد الحصول على جسم نحيف، على سبيل المثال، سرعان ما يدرك أن الطريق ليست ميسرة، وأن الأمر يتطلب، في أغلب الأحيان، مجاهدة وتخليا عن الحياة التلقائية المسترخية كما يستدعي القيام بتمارين على طرفي نقيض مع الحياة غير المبالية والبعيدة عن كل هم. فمما " سيثقل كاهله" أن السعي وراء الخفة لا يقتصر على اتباع حمية نصح بها طبيب، وإنما غالبا ما يتحول إلى سلوك يتبع موضات ويقلد نجوما، فيجد المرء نفسه محشورا ضمن معايير أخرى اتخذتها خفة العصر ". لذا غالبا ما يتطلب مجتمع الخفة مجهودا أثقل وزنا" مما كان يتطلبه المجتمع الذي يعلى من الموضوعات الوازنة. لا عجب أن تتكاثر ضغوط ذلك المجتمع، وترتفع التوترات التي تضغط على الحياة النفسية وتثقل كاهلها. من هنا خيبات أمل الكثيرين لبلوغ حياة تحقق الخفة والمتعة والحركة بما يكفي. يتمخض عن ذلك تراجع الإحساس بالخفة الحقيقية في مقابل انتصار ثقافة الترفيه المبالغ فيه، والخفة "المستهترة"، "خفة المظاهر". مما يعيد المرء الهيمنة روح الثقل" التي تبدي نوعا من "الصلابة."
ها نحن نلمس مدى الارتباط الوثيق بين مفهومي الخفة والثقل، الأمر الذي يدفعنا إلى أن نعيد النظر في الفصل الأولي بينهما. فهل يمكن بالفعل أن تفصل فصلا مطلقا الخفة عن الثقل وبالتالي عن كل مادية" كما يزعم البعض؟ يعتقد هؤلاء أن الخفة هي دوما تحرر من المادية فيضعون في جهة المادة الثقيلة الوازنة، ثم الخفة في الجهة الأخرى. لذا، فحينما كان المهندسون المعماريون يريدون لبناياتهم أن تبدو خفيفة "كأنها لا تنجذب نحو الأرض"، ولا تخضع لقوة الثقالة التي تجرها من الأعلى نحو الأسفل، كانوا يستعيضون عن الطين والأحجار بما يبدو من المواد أقل وزنا وأكثر شفافية، إيمانا منهم أن الخفة تتنافى مع المادية. وفي هذا السياق بول شيربارت في هندسة من زجاج" عن استعمال الزجاج "كي تنزع عن الهندسة 2/3 ية كل مادية" كما قال.
ضد هذه الخفة البصرية والهندسية يحاول نيتشه تفكيك الثنائي ثقيل / خفيف بالمعنى العميق للتفكيك، أي أن يبين أن كل طرف من طرفي الثنائي يجر الآخر نحوه في الوقت ذاته الذي ينفصل عنه بناء على ذلك، بإمكاننا أن نتحدث عن مادية خفيفة، وعن شفافية وازنة. بإمكاننا أن نتحرر من ثقل التقليد من غير أن نعلو فوق. كما بإمكاننا أن نطأ الأرض من غير أن "نرزح تحت الأثقال". وحينما حاول نيتشه أن يعلمنا على لسان زارا دوشترا أن ندعو الأرض "الخفيفة"، "عديمة الوزن"، فإنه لم يكن يقصد غير هذا.
فهذه "الخفيفة" ليست هي الأرض التي تتجذر فيها "أشجارنا"، وتتأصل هوياتنا، إنها ليست أرض التقليد، وإنما هي أرض نزعت عنها أرضيتها"، إنها الفضاء الذي لا نكف فيه عن الحركة والرقص والتحليق. لا عجب أن ينادي زارا : " كل شيء عليه أن يصبح خفيفا، وكل جسم راقصا، وكل فكر طائرا". واضح أن ما يقصده نيتشه من هذا النداء هو انتقاد المفهوم الذي يقرن الخفة باللامادية ليعيب عليه فهمه السكوني للخفة. إذ إن هذه "الخفة" لا تقوى على حراك، إنها لا تطفو ولا تطير، وحتى إن كانت من أقل المواد وزنا، فهي ربما لا تعمل سوى أن تسجن نفسها في قفص من زجاج. هذا إن لم تغد مولدة لروح ثقيلة" تعمل ضدها.
ذلك أن الخفة لا تستمد من المادة التي تتكون منها، وإنما من قدرتها على تخطي الحدود. بيد أن هذا التخطي لا يعنى انفصالاً نهائيا عن الأرض، وفقدانا تاما لكل وزن، وتحررا مما يطلق عليه الفزيائيون جاذبية "الثقالة". فلا خفة من غير ثقل وعيب الانفصال هو أن يغدو مرغوبا لذاته كتب نيتشه "علينا ألا ننشد انشدادا إلى انفصالنا، أي إلى ذلك الحنين إلى البعيد الذي هو حنين الطائر الذي لا ينفك يحلق عاليا كي يرى الفضاء يتسع تحت جناحيه، ذاك هو الخطر الذي يتهدد الطائر".
لا يتعلق الأمر إذن بتطهير الخفة من كل مادية، ولا بتخليصها التام من كل ثقل، وإنما بتغيير مفهومنا عن المكان، وتخلصنا من مفهوم يحدد "الثقالة" في علاقتها بنظرة عمودية تنزل من الأعلى نحو الأسفل. يتعلق الأمر إذن بالتحرر من كل انشداد إلى ما يجذبنا ويشدنا شدا، ومن كل ارتباط بمرجعيات قارة. لكنه يتعلق كذلك بعدم الهروب خارجا والتحليق بعيدا. ولن يعود التحرر في هذه الحال تخليا عن الانشداد للطفو عاليا، هروبا من المادية نحو اللامادة، وإنما تحريرا للفضاء الأفقي، وإثراء للاتجاهات وتنويعا للمراكز. أننذ تغدو الخفة قدرة على الترحال وعلى تنويع المنظورات، وتغيير الوجهات.