وجه الملك محمد السادس رسالة إلى المشاركين في الندوة الوطنية التي انعقدت تخليدا للذكرى الستين لقيام أول برلمان منتخب بالمغرب. مضمون الرسالة ضرورة تخليق الحياة العامة وخصوصا داخل الغرفتين التشريعيتين مجلس النواب ومجلس المستشارين.
لفهم الحاضر لا بد لنا أن نستقرأ التاريخ. لقراءة الرسالة الملكية بشكل معمق لا بد لنا أن نرجع إلى تاريخ البناء الديموقراطي بالمغرب منذ نداء الملك الراحل محمد الخامس، ملك التحرير، حين أعلن أن المغرب انتقل من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر وذلك مباشرة بعد الاستقلال.
استقلال بتكلفة كبيرة عرف تحديات كبرى متمثلة في تجدر بقايا الاستعمار الاقتصادي والثقافي ووقوع هزات وتجاذبات حول السلطة السياسية أفرزت صراعات أججتها فكرة هيمنة الحزب الوحيد انتهت "بانتصار" المؤسسة الملكية التي أصبحت تلعب دورا محوريا وأساسيا في تدبير الشأن السياسي. تجسدت البوادر الأولى للبناء المؤسساتي التشاركي بتأسيس مجلس وطني استشاري من 78 عضوا ضم اعضاء من الحركة الوطنية وما تلا ذلك من تشكيل لحكومة عبد الله إبراهيم. "مات الملك محمد الخامس...عاش الملك الحسن الثاني".
تميزت بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني بوضع قواعد العمل السياسي من خلال أول دستور سنة 1962 في أول تصور لتوزيع السلط وتقوية اختصاصات المؤسسة الملكية. على الرغم من تعدّد الأحداث التي طبعت فترتي الستينيات والسبعينيات من تجاذبات وتعطيل للمؤسسات بعد فرض حالة الاستثناء غير أن الراحل الملك الحسن الثاني استطاع خلق الحدث من خلال إدماج الحركة الوطنية في اللعبة السياسية ابتداء من دستور 1972 وفي سنة 1974 فيما أصبح يسمى "الإجماع الوطني ". انطلاقة المسيرة الخضراء سنة 1975، تأكيدا للهوية الوطنية، استطاعت أن تقوي الجبهة الداخلية استعدادا لبناء المسلسل الديمقراطي عبر تعددية سياسية وحزبية وانتخابات تجمع كل الأطياف السياسية المتعددة و ذلك بغية فرز مؤسسات تمثيلية منتخبة.
هذا الانفراج السياسي شكل مدخلا لبروز مفهوم "التوافق" كشعار يؤسس لحقبة سياسية جديدة انتهت بوضع دستور 1996. تلته بعد ذلك تشكيل حكومة التناوب التوافقي التي أحدثت تطورا في مفهوم السلطة التنفيذية وتخليق الحياة العامة وتعزيز الاستقرار السياسي والإجماع الوطني والإنتقال السلس للحكم. باعتلاء الملك محمد السادس العرش، وفي أول خطاب له، ثم طرح "المعضلات الرئيسية في المغرب" من بطالة وفوارق اجتماعية.
قد كان خطابا بحمولة استشرافية تعكس آمالا كبيرة لفئة واسعة من المغاربة. قرارات قوية عرفتها بداية عهد محمد السادس في الجانب الحقوقي عبر إطلاق هيئة الإنصاف والمصالحة وتبني مدونة جديدة للمرأة تعزز دورها داخل الأسرة والمجتمع. شعار بداية حكم الملك محمد السادس "البناء والتشييد" من خلال مشاريع عملاقة لتأهيل البنى التحتية ولتطوير الطاقات المتجددة والطرق السيارة والسككية، مؤهلات ضرورية لبناء إقتصاد قوي ومستدام ومنتج.
سنة 2011 ستشهد حدثا مهما سُمي بالربيع العربي حيث عرفت مجموعة من الدول العربية تغييرات جذرية في أنظمة الحكم. لن نستفيض هنا في المُسببات والدوافع وخصوصا فيما آلت إليه هاته الهَبَّات الشعبية، غير أن المغرب عرف "ربيعَه" الخاص ولن نخوض هنا كذلك في مجموعة من التساؤلات التي ظلت آنذاك بدون أجوبة والتي تمحورت حول من يقود هذا الحراك وبأي سقف مطالب وبطبيعة التفاوض ولربما سنعمل على ذلك في مقالة أخرى. الخطاب الملكي للتاسع من مارس إعلان لمبادرة الإصلاح الدستوري وإشارة قوية وإيجابية للمطالب السياسية المتمثلة في الإرساء الدستوري لمفهوم الديمقراطية ومبدأ فصل السلط والحرية والعدالة وربط المسؤولية بالمحاسبة. دستور 2011 هو ترسيخ لدولة الحق والمؤسسات من خلال توسعة اختصاصات السلطة التشريعية عبر تقييم السياسات العمومية ومراقبة العمل الحكومي وإعطاء مؤسسة رئاسة الحكومة صلاحيات واسعة.
لفهم سياق إقرار مدونة للأخلاقيات مُلزمة بقوة القانون، كان لا بد لنا من بسط هذا التطور التاريخي الذي يعكس التراكمات التي حصلت خلال البناء الديمقراطي للمغرب. هذا البناء لن يكتمل إلا بوجود مؤسسات وممارسات ترتكز على مبدأ فصل السلط وتقويتها.
المغرب وللأسف عرف خلال السنوات الأخيرة إحجاما على العمل السياسي وخصوصا الحزبي مما نتج عنه ظهور ظواهر تُضعف وتُفرْمِل البناء الديموقراطي. وتتجلى هاته الظواهر في نسبة العزوف السياسي وخصوصا داخل فئة الشباب، وتبخيس العمل الحزبي وإلصاق أقدح النعوت والصفات على المؤسسات الحزبية والنقابيّة. النتيجة الحتمية إضعاف دور الوسائط وفتح الباب على مصراعيه لمنزلقات سيئة النتائج كالمطالبة بالتغيير أو التفاوض من خارج المؤسسات وما ملف التعليم ببعيد.
في إطار نقد ذاتي وموضوعي، الأحزاب السياسية تتحمل جزأ من الوِزر ويتجلى ذلك على مجموعة من المستويات كتلك المرتبطة بالأدوار التأطيرية الذي يجب أن تقوم بها إسهاما في تنمية الوعي والحس الوطنيين أو التمثيلية والترافعية داخل المجالس المنتخبة.
الرسالة الملكية الموجهة للبرلمان بغرفتيه تحمل مضامين قوية دافعها تحصين البناء الديمقراطي، الذي كلف كثيرا من تضحيات أمهاتنا وآبائنا وذلك منذ استقلال المغرب، وجعله بمنأى عن بعض السلوكيات التي تضعف تماسكه. سلوكيات أضحت حديث الخاص والعام في العالمين الحقيقي والإفتراضي. فساد السياسي أكثر سِلبيةً على البلاد والعباد لأنه مؤتمن على مالية عمومية وعلى تسيير شؤون الناس وعلى صناعة القوانين…
رسالة توجيهية وتأطيرية وملزمة تشكل خارطة طريق لمرحلة جديدة شعارها الحرص على مشاركة كل القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحية في الارتقاء بالديمقراطية التمثيلية إلى المستوى الذي يجب أن نستحقه لنكون في مصاف الدول الطامحة للتنمية في مفهومها العام. الثقة بالمؤسسات السياسية مطمح لن يتأتى إلا بوجود نخبة منتخبة على أساس الديمقراطية والكفاءة والجدية وتكون في مستويات التحديات والرهانات خاصة، كما جاء في الرسالة الملكية، على مستوى "ما ينجزه المغرب من أوراش إصلاحية كبرى ومشاريع مهيكلة، سيكون لها بالغ الأثر لا محالة، في تحقيق ما تطلع إليه من مزيد التقدم والرخاء لشعبنا العزيز" مع إعطاء الفرص والإمكانيات للنساء وللشباب ذوي الكفاءات في تقلد المسؤوليات. "تغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين على غيرها من الحسابات الحزبية" من سمات الجدية الذي أسس لها خطاب العرش الأخير.
الجدية التي يجب أن تمر أولا عبر بوابة تخليق الحياة العامة داخل المؤسسات المنتخبة والحد من الريع السياسي والابتعاد عن الخطاب السياسوي العقيم وتجديد النخب والقطع مع الفساد والمفسدين ومن تحوم حولهم شبهات الاغتناء الغير المبرر.
مدونة للأخلاقيات ملزمة بقوة القانون مما يضمن لها الحصن القوي والواقي الكفيل بتفعيل المحاسبة وترتيب العقوبات الناتجة عن الخروقات في مظلة قضاءٍ نزيهٍ ومستقلٍ.
لن تكتفي هاته المدونة بدورها التحسيسي رغم أهميته، إنما ستؤسس في اعتقادنا لإطار قانوني محدد ومكمل للقوانين المعمول بها في عمليات التزكيات والترشيحات للمسؤوليات الانتدابية داخل البرلمان بغرفتيه. إقرار مدونة للأخلاقيات هو عهد جديد يبدأ بالتصالح بين المواطن والسياسة وبإعادة الثقة في المؤسسات ومصداقيتها وبتجديد النخب وبالاستفادة من الطاقات الحية داخل الأحزاب وتجربتها التي راكمتها على امتداد سنين كثيرة. عهد جديد من الممارسة السياسية سينطلق في المغرب وعلى الجميع الانخراط الجاد والجدي.
يوسف بونوال، دكتور في القانون العام
عضو المجلس الوطني للحركة الشعبية