عبد اللطيف أعمو: من تثمين التراث إلى ثورة ثقافية

عبد اللطيف أعمو: من تثمين التراث إلى ثورة ثقافية عبد اللطيف أعمو
لقد اكتسب الاحتفال ب ”إيض يناير”  رأس السنة الأمازيغية الجديدة 2974  أهمية إضافية ورمزية أكيدة، لكونه يصادف أول سنة يتم فيها إقرار رأس السنة الأمازيغية كعطلة رسمية مؤدى عنها. وهو ما يعزز الشمولية الثقافية للأمازيغية، ويجعل هذا المكون الثقافي معطى تراثيا مشتركا لكل المغاربة على نطاق أوسع من ذي قبل، ويؤكد على العمق التاريخي للإنسان الأمازيغي، وما يمتاز به من مقومات الحضارة الإنسانية، ومن حيوية دائمة ومتصلة بالجذور ومستمرة في الدفاع عن حوزة وطنه وعن هويته الثقافية المتجدرة والأصيلة.

ويتم إحياء هذا التقليد، المتجذر في الحكايات الشعبية القديمة بشمال أفريقيا عموما، والذي يرمز إلى التوازن الذي ينبغي على الإنسان أن يحققه مع الطبيعة، في علاقته مع التنمية وتقوية مقومات المناعة والصمود الدائمين. كما يحمل رأس السنة الأمازيغية، الذي يحتفل به في 14 يناير من كل سنة، في طياته عددا من الرمزيات والمعتقدات؛ لعل أبرزها: ارتباط المغاربة بالأرض وبالمواسم الفلاحية وبالتقويم الزراعي للأمازيغ وبعادات وتقاليد الأجداد الممتدة عبر التاريخ، وبالأفراح وبأهازيج الانتصارات كذلك، وبمظاهر التعبير عن قيم الحب والتساكن والتعايش وقبول الآخر.

ورغم اختلاف تسميات رأس السنة الأمازيغية أو السنة الفلاحية، من تسمية “ناير” في الشرق والشاوية، و”إيضناير” في سوس، و”الحاكوز” أو “الحواكز” في الريف وبعض مناطق جبالة…. و “يناير” بالجزائر الشقيقة، فالارتباط  بالأرض وبالهوية أكيدة، وتتأكد أكثر بفعل تطور آليات التواصل والتقنيات الحديثة، التي تقرب البعيد وتقوي الروابط وتعزز التشبيك.

وللتذكير بالمرتكزات، تم في بداية القرن الحالي، مع بداية العهد الجديد، الإعلان عن مشروع يستهدف الحداثة، من خلال واجهتين اثنتين، تعتبران ركائز ودعامات أساسية تسمحان بتثمين التراث الوطني، في سيرورة الحداثة والتقدم: أولهما، إنصاف المرأة بإدماجها في مسار التنمية، وثانيهما، إعادة الاعتبار للأمازيغية، لغة وثقافة، بجعلها قضية وطنية تهم الشعب المغربي بأكمله.

إن المرأة الامازيغية كانت، ولا تزال، في قمة هرم المسؤولية والرمزية في المجتمعات الأمازيغية. فهي ” تمغارت ”، التي تدل على شخص ذي مكانة اجتماعية وسياسية متميزة، وهو الشخص النبيل المرموق اجتماعيا، كما تعني الشخص الذي له شأن وسلطان ورفعة في المجتمع.

ففي زمن السلم، تعتبر المرأة الأمازيغية هي المسؤولة عن الحفاظ على الثروة المادية لعائلتها، وهي الحريصة على تنميتها بالعمل المتفاني في المراعي والحقول والمغازل والمناسج في غزل ونسج الزرابي والألبسة، وهو ما حررها من الأشغال المنزلية، وإن لم تتخلى عن وظيفتها في البيت تربية وتدبيرا.

وبخصوص ورش إدماج المرأة المغربية في مسار التنمية، فقد هيئت المرأة، انطلاقا من موقعها ومسؤوليتها وثقافتها وتكوينها، سبل النجاح، واستطاعت أن تقفز قفزة تمكنها من جزء كبير من التحرر والمساواة وتحصين الذات وتقويتها، من خلال مساهمتها في إنجاح ورش مدونة الأسرة منذ سنة 2004. فأبانت، طيلة هذا المسار التصاعدي، عن قدرات هائلة وواعدة في مختلف مجالات المسؤولية في مختلف القطاعات، والتي لا تقبل التشكيك أو التراجع، بل تتطلب التعزيز والتطوير.

فيما عرف ورش إعادة الاعتبار للأمازيغية، مدا وجزرا، فهو يتمايل على مر العقود، بين تقدم وتراجع. ورغم ترسيم  الأمازيغية ودسترتها منذ سنة 2011 كلغة رسمية، فمسار الترسيم يسير بخطى بطيئة جدّا، ويعرف تعثرات كثيرة ومقلقة، خصوصا في مجال إقرار القوانين التنظيمية وفي مجال تدريس اللغة الأمازيغية، والصحة، وتقليص مظاهر العزلة والتهميش، وتسريع ميكانيزمات التأهيل.

وتبقى حصيلة المنجزات، منذ دستور 2011، في حقل الثقافة الأمازيغية، في حاجة إلى المزيد من التقييم والتدقيق، لإبراز  الخلاصات التي ستسمح للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية بتفعيل أدوارها وتطوير آليات اشتغالها وتحيين برامجها، حتى تتمكن من إبعاد الشبح القائم حتى الآن، والذي يبين أن  كل ما هو أمازيغي، يبقى في عقلية الناس، مرتبطا بما هو بدوي وبدائي، بينما المغرب يتطلع ويطمح إلى ثورة مستدامة، في أفق اعتبار الأمازيغية عاملا من عوامل التنمية، وكخصوصية أصيلة مرتبطة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، بشكل مستمر ومستدام.

ففي باب تثمين الهوية الأمازيغية، لا بد من التذكير بعدد من النجاحات في المجال الفني، وبالخصوص الغنائي، حيث عرفت الساحة الفنية الأمازيغية طفرة نوعية وكمية هامة، مع ظهور فنانين يغنون من أجل الثقافة والهوية الأمازيغية، وفي خدمتها. مما أدى إلى بروز وعي بقضية الهوية الأصلية الأصيلة، وساهم بشكل جلي في خروج الأمازيغية من النخبوية إلى صفوف العامة.

كما أن ظهور تجربة المجموعات الغنائية (الظاهرة الغيوانية) ساهم في تطوير الأغنية المغربية، التي أدت دور التحميس وتحريك المشاعر وتأطير الشباب وتوعيتهم وتعريفهم بجذورهم الثقافية والهوياتية من زاوية فنية وإبداعية. وهذا جانب من الجوانب الإيجابية.

ومن المظاهر الإيجابية كذلك ما شهدته الساحة الرياضية من إعادة الاعتبار للقدرات وللمؤهلات البشرية في هذا المجال، ومساهمة الفاعل الرياضي الأمازيغي، في رفعة الوطن وحمل رايته بجدارة واستحقاق داخل البلاد وخارجه. ولا يخفى على أحد الدور الجبار الذي أصبحت تلعبه الجالية المغربية، والتي هي جالية أمازيغية بامتياز، في سلوكها وانضباطها والتزامها ويقظتها وحرصها على تقوية ذاتها من خلال منظماتها وتنظيماتها، وربط الهجرة بدورها التنموي بجميع أبعاده، ومن خلال الحرص على ربط الصلة الدائمة والمستمرة مع الوطن الأم .

كما شهد فن الطبخ واللباس ومجال الصناعة التقليدية وقطاع الصناعات الغذائية ومجال الاقتصاد الاجتماعي – وهي مجالات تلعب فيها المرأة دورا محوريا وحاسما – تحولات إيجابية قوية وطفرة نوعية هامة، ساهمت في مزيد من الإدماج الإيجابي لعناصر التراث المادي واللآمادي والطبيعي في التنمية الشمولية. وهو ما يعزز النظرة إلى التراث، على أنه ليس كل ما هو قديم وعتيق، بل كل ما يختزنه الإنسان من طاقات وقيم ومهارات وكفاءات وقدرات خلاقة.

والمطلوب اليوم، هو تحويل كل هذه الطاقة الإيجابية، ليس فقط إلى مورد فخر واعتزاز وتقدير، بل كذلك إلى مورد خلق وإبداع وتقدم واستثمار في المستقبل، وذلك بتقوية القدرات وتعزيزها وإيلاء الأهمية القصوى للقيم ولمقومات الثقافة الأمازيغية بمعنى التثمين، والدفع إلى الأمام بما هو إيجابي، في أهداف متطورة وحداثية، تساير ما حققته الإنسانية من تفتح في مختلف المجالات، التواصلية منها، والرقمية والتقنية، وما يتطلبه ذلك من إطار حقوقي، قاعدته تحقيق المواطنة الحقة، التي لا تجد مرتعا أو حقلا لها إلا في ظل دولة القانون .

ويجب أن يحسم الصراع على قاعدة الإنصاف، عند الحديث عن تثمين الهوية الأمازيغية. وهو ما يسائل، في المقام الأول، مسؤولية الدولة في الالتزام بتعهداتها، ومسؤولية الحكومة في حسن تنفيذ سياساتها العمومية، ورفع مظاهر الحيف والتهميش و”الحكرة” على الأمازيغ، الذين يستوطنون رقعة جغرافية، غالبيتها جبلية وقروية، ظلت لعقود كثيرة في عزلة تامة وخارج حسابات التنمية، وخارج نطاق الاستفادة من خيرات البلاد، وكانت سببا أسهم في تهميش هذه الهوية القومية واندثار ثقافتها في كثير من المناطق. وخير دليل على ذلك، ما خلفه زلزال ” الحوز” الذي ضرب مناطق جبلية وقروية، أغلب سكانها أمازيغ، وما كشف عنه من معاناة ما يسمى بالمغرب العميق، وساهم في تعمّيق جراح سكانه. فمنطقة الحوز، بالإضافة إلى مناطق جبلية وعرة أخرى، معروفة بهشاشتها الاجتماعية والاقتصادية وبهشاشة بنياتها العمرانية، إضافة إلى قساوة طقس المنطقة وقلة المياه الصالحة للشرب، بسبب توالي سنوات الجفاف.

مع العلم أن من كان من حظه أن يفلت من هذا الواقع، واستطاع من أمازيغ المغرب الخروج والهجرة من مناطقه الأصلية، ومن تمكنوا من الهروب من هذا المصير المحتوم، وكثير من الأجيال التي التحقت بالمدن بهدف الدراسة أو التجارة أو غيرها… وهم قلة قليلة، فقد تمكنوا من تحقيق نجاحات باهرة في مجالات عملهم، واستطاعوا الارتقاء اجتماعيا واقتصاديا، مع بقاء مناطقهم الأصلية في وضعية تهميش وتراجع، وخارج حسابات العدالة المجالية. فإلى متى سيستمر هذا التهميش؟.

ورغم هذه المعاناة، فالواقع أمامنا يثبت بأن المغرب فخور بتعدد روافد ثقافته، وهو ما يكون القوة الضاربة لضمان وحدته الترابية وضمان قوته وتوسيع مركزه الاعتباري في مجالات الحوار إقليميا ودوليا.

إلا أن هناك كذلك جهل بالكثير من خبايا هذا التاريخ الزاخر، وخصوصا حضارات أمازيغية سادت ثم بادت عبر قرون، تستحق بحق نفض الغبار عنها، بحكم محدودية إمكانيات وطموحات مراكز البحث الوطنية  وضعف أداء المراكز الجامعية، وضعف قراءة المراكز الدولية، وحتى عدم صدقيتها وأحيانا تحيزها.

وهنا تظهر الحاجة الملحة إلى فتح ورش كبير لمسائلة الحجر قبل البشر والنبش في المصادر الأركيولوجية، والدراسات الأنتروبولوجية والإتنوغرافية، التي تختزن الكثير من المعلومات ومكامن القوة، وتمتلك الأدوات التي ستعطي مرجعية قوية وتمنح القوة الإضافية لمشروع بناء مجتمع متعدد الروافد.

والحاجة ماسة اليوم لثورة ثقافية حقيقية، بتغيير البراديكمات (إعادة تعريف وتحديد أدوار الدولة والمجتمع والشارع والأسرة) بقصد تفجير القدرات المجتمعية وتعزيز الكفاءات والمؤهلات، وإبداع أنماط جديدة للتمييز الإيجابي، وغيرها من الميكانيزمات المساهمة في تسريع وتيرة مشروع التثمين، وتفجير القدرات الخلاقة في الإبداع وإعمال العقل ورفض التقليد والإيمان بأهمية الفكر ومركزيته في كل مشروع نهضوي تنموي.

وهو ما يسائل بشكل خاص، السياسات العمومية للدولة في مجال: التعليم والصحة وإعداد التراب الوطني وتحقيق العدالة الترابية والمجالية، والرفع من مستوى التكوين والتأهيل…).

فالمادة الإبداعية موجودة وآليات الخلق الأصيلة متراكمة، والطلب موجود، والحاجة معبر عنها بوضوح، وأدوات الانفتاح والتواصل الجماهيري الواسع متوفرة عبر العالم. ويجب على الإرادة السياسية أن تساير هذه التحولات.

وعلى السياسات العمومية أن ترفع من سقف الطموح، لتكون في مستوى تطلعات المواطن المغربي، الذي يطمح إلى بناء الإنسان، ووضعه في قلب المسار التنموي، وجعله قادرا على الفعل والإبداع والاختراق.
 
عبد اللطيف أعمو/ نقيب المحامين سابقا وسياسي