المؤرخ الطيب بياض: الإنسان المغربي أنتج ثقافة قبل 300 ألف سنة (2)

المؤرخ الطيب بياض: الإنسان المغربي أنتج ثقافة قبل 300 ألف سنة (2) المؤرخ الطيب بياض
ألقى المؤرخ والأستاذ الطيب بياض بالمكتبة الجامعية محمد السقاط بمدينة الدار البيضاء، درسا افتتاحيا حول "تشكل الشخصية المغربية عبر التاريخ"، وهو الموضوع الذي قال إنه شغله طوال خمس سنوات، أي منذ أن قُدر له الرحيل إلى الصين سنة 2018، حيث شكلت له تلك الرحلة نوعا من الصدمة مع الحضارة الصينية أكثر منها مع الحضارة الغربية، بسبب طرحه سؤال عن تلك الطفرة التي عرفتها الصين. وكان السؤال يتجاوز ما هو تقني، وما هو ظرفي ومرحلي، حول المغرب وشعبه وحضارته ولحظة تشكله وأطوار هذا التشكل ومراحل تطوره.. كل ذلك من أجل الإمساك بالهابيتوس المشكل للشخصية المغربية.
 
استحضر الطيب بياض، لتتبع الخط الناظم لأطوار تشكل المغرب، ما كتبه الأستاذ عبد الله العروي في مجمل تاريخ المغرب عن مراقبته لظهور فكرة المغرب، حيث يقول: "إنني كتبت سيرورة فكرة المغرب أكثر مما أرخت لأرضه وسكان المغرب". 
 
وأوضح في هذا السياق قائلا: "شخصيا أتقاسم هاجس البحث هذا، لكن من منظور تاريخي مغاير، هذا هو الطموح، يهم مراقبة ولادة حصلت في زمن سحيق أقدم من ذاك الذي رآه "شارل أندري جوليان"، يتدثر بثياب متنوعة لمدنيات متتابعة طرأت من الخارج ترصد أو تستر جسد وروحا عصية على التغيير".
 
وانطلق المحاضر من "ذلك الإنسان الذي صانت بقاياه تربة جبل إيغود، لهذا الكائن القاطن بشمال غرب إفريقيا، ثم حصلت تحولات بطيئة في زمن شبه راكض حولته إلى فاعل أكثر في هذا المجال، وتحول خلال العصر القديم إلى ذات ليست فقط فاعلة، بل ومتفاعلة أيضا مع حضارات طارئة، هكذا سماها. كستها ثيابا متنوعة منحتها أولى خصائص التميز".
 
واتجه إلى التدقيق المنهجي لتفادي السقوط في الأناكرونية، عند حديثه عن إنسان مغارة إيغود،بما يلي: "صحيح أنه لم يكن يَعرف نفسه أنه مغربي، أو يُعرِّف نفسه بالمغربي، وأن بناءه الذهني كان خاليا من أي بحث عن الانتماء أو الهوية بمعانيها المعاصرة، بل حتى مورفولوجية جسده كانت مختلفة عن المغربي الحالي، لكن بالقدر الذي كان بناؤه الجسدي يتحول تدريجيا عبر قرون طويلة، ليستقر على ما هو عليه اليوم، كان بناؤه الذهني والنفسي يتشكل في تفاعل مثمر بين المحلي والطارئ، لنحت معالم شخصية إنسان مغرباليوم".
 
وأوضح الباحث فكرته أكثر عبر رصد البصمات والتحولات التي طبعت هذا الإنسان العاقل، الذي عمر حيزا جغرافيا بالبلاد المعروفة حاليا بالمغرب، قبل 300 ألف سنة وفي الزمن الطويل أو ما أسماه "فيرناند بروديل" بالزمن شبه الراكض، باعتباره بنية تحتية. يقول صاحب التاريخ والعلوم الاجتماعية المدة طويلة في هذا الشأن " هكذا تظهر لنا المدة الطويلة من بين أزمنة التاريخ المختلفة، وكأنها شخصية مزعجة معقدة. وعلى أية حال بإمكاننا إعادة تشكيل كلية التاريخ بالنسبة إلى هذه الطبقات من التاريخ البطيء باعتبارها بنية تحتية، ويمكننا فهم هذه الطوابق كلها، وهذه الآلاف المؤلفة من التشظيات التي خضع لها زمن التاريخ".
 
يقول المؤرخ بياض بأنه ضمن هذه الرؤيا نريد قراءة الموضوع، إذ نعتمد هذه العُدّة المنهجية للتقعيد للشخصية المغربية، والتأريخ لاستنبات نبتتها الأولى، لتجاوز التحقيب الذي اقترح "دانييل ريفي". (الذي يرى أن الأمر بدأ مع مولاي إدريس) دون تعسف إبيستيمولوجي كما حذر من ذلك، بل  يرى في القفز على طبقات من تاريخ بطيء سابق مثل قفز في الهواء دون انتباه لقوانين الجاذبية، ويتساءل: "ألم يستطرد هو نفسه  (متحدثا عن دانييل ريفي) أنه من هذا المنظور لا ينطلق تاريخ المغرب من قدوم الإسلام إلى هذه الأرض ولا يكون أول المغاربة هو إدريس الأول؟". 
 
وبعد أن حدد الأستاذ المحاضر نقطة البداية، من حيث أسعفته آخر النتائج العلمية للأبحاث الأثرية في ذلك،  سَجَّل ما دونه إبراهيم بوطالب كما يلي: "وكأن الأرض المغربية لا تتصل بغيرها سوى عن طريق الخلاء برا وبحرا، فيزداد تمسك أهلها بها، يقدر ما تشتد حاجة إطالة المقام بها لمن هاجر إليها حتى إنها لبعدها وانعزالها محسوبة في الأساطير اليونانية من جنات الفردوس ودار للبقاء"، قبل أن يضيف "إن المغاربة مثقفون على التعددية شأنهم في ذلك مرة أخرى شأن الأم الكبرى، فإنها كانت كلها بمثابة بوتقة انصهار".
 
المنطق الذي حلل به إبراهيم بوطالب قاد المحاضر إلى منطق آخر في التحليل استأنس فيه بنظرية التخوم كما نحتها المؤرخ الأمريكي "فريدريك جاكسونتورنير" وقدمها في لقاء للجمعية الأمريكية للمؤرخين، بتاريخ 12 يوليوز 1893. ما يهمه في موضوع المقارنة بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية في علاقة مع الحدود، هو كيف يمكن أن تكون قارئ تاريخ في الزمن الطويل في العلاقة مع الموقع والحدود. فتورنير يرى أن الشرق الأمريكي لا يعبر حقيقة عن الهوية الأمريكية، حيث كانت هناك البصمة الأوروبية، إذ يقول في هذا الشأن "ليس الساحل الأطلسي ما يعبر حقا عن تاريخ الوطن بل الغرب العظيم"، لأنه بكل بساطة، يحلل بياض،"هو الذي صنع الهوية الحقيقية للولايات المتحدة وحررها من المهماز الأوروبي القابع في الشرق بين المحيط الأطلسي وجبال الأبلاش، وما كان لذلك أن يتم لولا وجود تخوم متجددة ومنتجة ومنفتحة نحو الغرب، حصل عبرها ذلك التفاعل والتكامل فنسجت خيوط الوحدة والنماء والانصهار، بدل التشظي والتقهقر والإنشطار". لذلك أكد المحاضر على أن "الكاتب رأى في الغرب أشياء أمريكية صرفة".
 
في هذا الإطار أورد المؤرخ طرح الأنثروبولوجي "رالفلينتون" الذي صاغ نظريته حول أسس الشخصية أو الخلفية الثقافية للشخصية، حيث قال المحاضر بأن ما يهمه في هذا الموضوع هو "التمرين الذي يتيح لنا الانتقال من الحديث عن الشخصية بصيغة الفرد إلى الشخصية الجماعية، كيف يمكن أن نستأنس بها؟" لأن الاستئناس بها، حسبه تحليله، يعطينا إمكانية رصد التفاعلات والتمييز بين الشخصية الأساسية والشخصية الوظيفية.." قبل أن يعرج في حديثه عن عفوية المرور من الخاص إلى العام على إبراز أهمية المعتاد والمألوف داخلها، والذي طوره عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، فنحتَ مفهوم الهابيتوس، حيث تتيح مأسسته إمكانية أن يصير لسان حال الشعوب ومعبرا عن الجماعة.
 
وشدد في مقارنته بين المغرب والمشرق على المستوى الزمن التاريخي والجغرافي على أنه "يشبه محطة نهاية السير للقادم من الشرق في اتجاه الغرب، (حيث يزداد تمسك أهله بقدر ما تشتد الحاجة إلى إطالة المقام به لمن هاجر إليه، لأنه لم يكن مجرد محطة عبور، ولا مجرى مائي ضحل، بل منتهى المسير ومصب نهر حضاري متعدد الروافد وملاذا وموطنا للوافدين من آفاق عديدة لمدة زمنية مديدة، مما أتاح تفاعل ذرات وجزيئات مختلف الترسبات الحضارية ببطء وتراكمها في الزمن الطويل، فيما يشبه الترسبات الصخرية التي تنحت شكلا تضاريسيا متعدد الطبقات والمكونات خلال آلاف السنين، وبينما تظل إشعاعات التأثيرات المشرقية أقل انبعاثا مقارنة مع الجوار مما يفسح المجال لبروز المحلي أكثر وتفاعله مع الوافد". مقابل كل هذا يؤكد، الأستاذ المحاضر، "ينتصب بحر الظلمات كحد من جهة الغرب،مما يفرض عليك أن تفاوض وضعيتك داخل هذا المجال بالقوة وبالفعل".
 
وتناول المؤرخ معطى آخر يتعلق بموضوع الشخصية، لماذا ندرس الشخصية؟ ما الحاجة إلى دراسة موضوع الشخصية؟ لأن هناك حاجة مجتمعية وطلب اجتماعي. كما وقع في دراسة الشخصية البريطانية في تعاليها على الصرعات الاجتماعية والمجالية، وفي تمايزها عن شخصية المستعمرات زمن الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. في حين نجد العكس في ألمانيا، نتيجة التشظي الذي خلق انزعاجا وقلقا للمفكرين، لذلك كان من المفروض البحث عن سؤال الشخصية المغربية الذي يطرح على المؤرخ أن يخوض غمار هذا التمرين في زمن العولمة وتداعياتها الراهنة، وهذا قدره، مُتسلحا بهذه العدة النظرية والمنهجية. 
 
وضمن هذا المنحى، سعى المحاضر إلى البحث عن بنية ذهنية تشكلت من طبقات متراكمة أنتجت "هابيتوس" تاريخي لنوعية الشخصية المغربية، وسمها بميسمه الخاص.
واستحضر المحاضر سؤالا كان قد طرحه عبد الله العروي "لماذا كتب مجمل تاريخ المغرب"؟ حيث يقول في هذا السياق "دخلت في نقاش مع ما كتبته الدراسات الاستعمارية (القرن التاسع عشر) التي كانت موجهة لتخدم أغراض معينة"، وكان يكفيه ـ حسب المتحدث، أن يقدم تأويلا وفق رؤية مغربية ولو لم يأت بكشف جديد مقتصرا على تقديم تأويلات جديدة للأحداث والوقائع".

 
واستشهد في حديثه عن "لوي دوشونييي" (1787)الذي كتب كتابا مهما من ثلاثة أجزاء جاء في الفقرة الأولى منه: "من بين جميع الشعوب التي نجت من الصراعات التي هزت الكرة الأرضية ربما يكون المغاربة هم الأقدم والأقل تناولا للبحث من طرفنا، لفظتهم آسيا، فساقتهم الحركات الأولى لأهواء الناس نحو الأجزاء الغربية من الكرة الأرضية".
 
وتطرق المحاضر في سياق درسه الافتتاحي إلى دراسة كانت قد نشرت في 8 يونيو 2017، لعالم الآثار والباحث المغربي عبد الواحد بنصر مع باحثين أجانب، والتي تعيد النظر في أصل هذا الإنسان العاقل. كانت الفكرة السائدة هي أن أقدم إنسان عاقل وُجد في إثيوبيا ( قبل 160 ألف سنة)، وبعد ذلك نكتشف  أن أول إنسان عاقل عاش في المغرب (قبل 300 ألف سنة)، موضحا أن ما يهمه في العودة إلى هذه المسألة هو هذا الوجود الحضاري، ووجود هذا الإنسان كجد للإنسانية كان في المغرب، على اعتبار أنها نواة أولى لتتبع تشكل الشخصية عبر التاريخ. وخلص إلى أن هذا الإنسان كان ينتج ثقافة وكان ينتج تعبيرات رمزية معبرة، (في إشارة إلى خلاصات الحفريات التي بوشرت في المغرب منذ مدة).
 
وعلى مستوى مراكمة الرصيد الحضاري المغربي، تحدث أيضا عن الجانب الروحي في ثقافة الإنسان القديم (12 ألف سنة قبل الميلاد)، حيث أشار إلى أول عملية جراحية عرفها المغرب. مؤكدا أن هذا الإنسان كان يبدع ويجتهد ويبتكر حسب المتاح ويدبر ويفاوض وضعيته انطلاقا من اختراع يمكن أن يؤمن به ليس ذاته فقط، ولكن ليطور هذه السيرورة.
و أثناء تناوله للمرحلة المورية قال بأننا نتحدث عن تجربة كان للذات أن تفاوض وضعيتها في مجال متوسطي محكوم بتنازع قوتين كبيرتين (روما وقرطاج..). مما خلق تفاعلا للذات (التأثير والتأثر) مع المحيط.
يتبع