بعد‭ ‬سحبها‭ ‬لقانون‭ ‬الإثراء‭ ‬غير‭ ‬المشروع: حكومة أخنوش.. الولاء للفساد والمفسدين؟!

بعد‭ ‬سحبها‭ ‬لقانون‭ ‬الإثراء‭ ‬غير‭ ‬المشروع: حكومة أخنوش.. الولاء للفساد والمفسدين؟! غلاف العدد الجديد من أسبوعية" الوطن الآن"
تؤكد‭ ‬محاكمات‭ ‬الفاسدين‭ ‬ولصوص‭ ‬المال‭ ‬العام‭ ‬التي‭ ‬تجري‭ ‬أطوارها‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬منذ‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬سنة‭ ‬ونصف،‭ ‬أن‭ ‬الفساد‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬مناخ‭ ‬سياسي‭ ‬ينبغي‭ ‬التعامل‭ ‬معه‭ ‬بالشدة‭ ‬اللازمة،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬يوحي‭ ‬بأنه‭ ‬يتمتع‭ ‬بـ‭ ‬"حماية‭ ‬رسمية"‭. ‬والدليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬المآل‭ ‬الذي‭ ‬عرفه‭ ‬مشروع‭ ‬القانون‭ ‬الجنائي،‭ ‬بسبب‭ ‬الفصل‭ ‬المتعلق‭ ‬بمحاربة‭ ‬الإثراء‭ ‬غير‭ ‬المشروع،‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬سحبه‭ ‬من‭ ‬البرلمان‭ ‬برسالة‭ ‬من‭ ‬رئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬عزيز‭ ‬أخنوش‭ ‬في‭ ‬28‭ ‬أكتوبر‭ ‬2021،‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬21‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬بداية‭ ‬الولاية‭ ‬الحكومية‭ ‬الحالية،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬أنذاك‭ ‬إلى‭ ‬وقوع‭ ‬ضجة‭ ‬في‭ ‬الوسط‭ ‬السياسي‭ ‬والإعلامي،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬شبهة‭ ‬الفساد‭ ‬كانت‭ ‬تحدق‭ ‬بسياسيين‭ ‬قاموا‭ ‬ببناء‭ ‬إمبراطوريات‭ ‬مالية‭ ‬وتجارية‭ ‬مجهولة‭ ‬المصدر‭ ‬والمسار‭.‬

وينص‭ ‬ذلك‭ ‬المشروع‭ ‬الخاص‭ ‬بمراجعة‭ ‬القانون‭ ‬الجنائي‭ ‬في‭ ‬المجمل‭ ‬على‭ ‬جرائم‭ ‬جديدة،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬الاختفاء‭ ‬القسري‭ ‬وتهريب‭ ‬المهاجرين‭ ‬واستفادة‭ ‬الغير‭ ‬بسوء‭ ‬نية‭ ‬من‭ ‬الجرائم‭ ‬المالية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالاختلاس‭ ‬والغدر‭ ‬والرشوة‭ ‬واستغلال‭ ‬النفوذ‭ ‬وتجريم‭ ‬الإبادة،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬الجرائم‭ ‬ضد‭ ‬الإنسانية‭ ‬وجرائم‭ ‬الحرب‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬أبرز‭ ‬مُقتضى‭ ‬جديد‭ ‬تضمَّنه‭ ‬المشروع‭ ‬يبقى‭ ‬هو‭ ‬«تجريم»‭ ‬الإثراء‭ ‬غير‭ ‬المشروع‭ ‬بهدف‭ ‬تعزيز‭ ‬منظومة‭ ‬مكافحة‭ ‬الفساد،‭ ‬ويتجلى‭ ‬هذا‭ ‬الإثراء‭ ‬في‭ ‬«الزيادة‭ ‬الكبيرة‭ ‬وغير‭ ‬المبررة‭ ‬للذمة‭ ‬المالية‭ ‬للشخص‭ ‬الملزم‭ ‬بالتصريح‭ ‬الإجباري‭ ‬للممتلكات‭ ‬أو‭ ‬ذمة‭ ‬أولاده‭ ‬القاصرين‭ ‬الخاضعين‭ ‬للتصريح‭ ‬مقارنة‭ ‬مع‭ ‬مصادر‭ ‬دخله‭ ‬المشروعة‭ ‬دون‭ ‬استطاعته‭ ‬إثبات‭ ‬المصدر‭ ‬المشروع‭ ‬لتلك‭ ‬الزيادة»‭.‬

إن‭ ‬إقدام‭ ‬رئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬على‭ ‬سحب‭ ‬هذا‭ ‬المشروع،‭ ‬وخروج‭ ‬وزير‭ ‬العدل‭ ‬عبد‭ ‬اللطيف‭ ‬وهبي‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الإجراء‭ ‬المثير‭ ‬للانتباه‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يرف‭ ‬له‭ ‬جفن‭ ‬أو‭ ‬تتحرك‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬ذرة‭ ‬خجل،‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬الحكومة‭ ‬تدافع‭ ‬بكل‭ ‬الطرق‭ ‬الممكنة‭ ‬عن‭ ‬«أسواق‭ ‬النفوذ»‭ ‬التي‭ ‬أتت‭ ‬بهؤلاء‭ ‬الفاسدين‭ ‬وحوَّلت‭ ‬مراكزهم‭ ‬إلى‭ ‬«مؤسسات‭ ‬ربحية»‭ ‬«غير‭ ‬مراقبة»‭ ‬تفضي‭ ‬بطريقة‭ ‬ممنهجة‭ ‬إلى‭ ‬الإثراء‭ ‬غير‭ ‬المشروع،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬حكومة‭ ‬لما‭ ‬تكون‭ ‬صافية‭ ‬النية‭ ‬وصادقة‭ ‬لن‭ ‬يضيرها،‭ ‬ولن‭ ‬يزعجها‭ ‬قانون‭ ‬تم‭ ‬وضعه‭ ‬لمواجهة‭ ‬المرتشين‭ ‬والمختلسين‭ ‬وتجار‭ ‬المخدرات‭ ‬والمضاربين‭ ‬في‭ ‬الصفقات‭ ‬العمومية‭ ‬والمترامين‭ ‬على‭ ‬أراضي‭ ‬الغير‭ ‬وسارقي‭ ‬المال‭ ‬العام‭.‬

فبعد‭ ‬تلك‭ ‬الضجة‭ ‬التي‭ ‬أثارها‭ ‬هذا‭ ‬السحب،‭ ‬خرج‭ ‬وهبي‭ ‬ليبرر‭ ‬للرأي‭ ‬العام‭ ‬أن‭ ‬الحكومة‭ ‬لم‭ ‬تسحب‭ ‬هذا‭ ‬المشروع،‭ ‬وأنها‭ ‬فقط‭ ‬تتريث‭ ‬في‭ ‬إخراجه،‭ ‬لأنها‭ ‬«تريد‭ ‬مناقشة‭ ‬مشروع‭ ‬القانون‭ ‬في‭ ‬شموليته»،‭ ‬كما‭ ‬دفع‭ ‬بأن‭ ‬النص‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬تقديمه‭ ‬للبرلمان‭ ‬في‭ ‬يونيو‭ ‬2016‭ ‬يشوبه‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬العيوب‭ ‬لأنه‭ ‬«تجزيئي»‭ ‬و«خلافي»‭ ‬و«غير‭ ‬دستوري»‭ ‬و«لا‭ ‬يحترم‭ ‬قرينة‭ ‬البراءة»،‭ ‬وأنها‭ ‬ستقوم‭ ‬بتجويده‭ ‬وإعادته‭ ‬إلى‭ ‬المسالك‭ ‬التشريعية‭ ‬ليخوض‭ ‬مساره‭ ‬الطبيعي‭ ‬والعادي‭. ‬غير‭ ‬أننا‭ ‬الآن‭ ‬وقد‭ ‬تجاوزنا‭ ‬منتصف‭ ‬الولاية‭ ‬الحكومية،‭ ‬ما‭ ‬زلنا‭ ‬ننتظر‭ ‬تفعيل‭ ‬ما‭ ‬التزمت‭ ‬به‭ ‬الحكومة‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬وزيرها‭ ‬في‭ ‬العدل،‭ ‬وما‭ ‬زلنا‭ ‬ننتظر‭ ‬أن‭ ‬يأخذ‭ ‬المسار‭ ‬التشريعي‭ ‬مجراه،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬محاربة‭ ‬الإثراء‭ ‬عبر‭ ‬المشروع،‭ ‬والفساد‭ ‬عموما،‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تتحقق‭  ‬في‭ ‬ظل‭ ‬القانون‭ ‬«مقتول»‭ ‬«حكوميا»‭ ‬وغير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬إنزال‭ ‬العقاب‭ ‬بكل‭ ‬من‭ ‬نهب‭ ‬المال‭ ‬العام‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ثبوت‭ ‬جريمة‭ ‬الاختلاس‭ ‬أو‭ ‬الغدر،‭ ‬أو‭ ‬استعمل‭ ‬موقعه‭ ‬لمراكمة‭ ‬الثروات‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مشروع،‭ ‬سواء‭ ‬عبر‭ ‬تضارب‭ ‬المصالح‭ ‬أو‭ ‬الرشوة‭ ‬أو‭ ‬غيرهما‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ ‬غير‭ ‬القانونية‭.‬

معنى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الحكومة‭ ‬والمسؤولين‭ ‬في‭ ‬البرلمان‭ ‬ليست‭ ‬لهم‭ ‬أي‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬تمكين‭ ‬المغرب‭ ‬من‭ ‬نص‭ ‬يطارد‭ ‬الفاسدين‭ ‬واللصوص‭ ‬وناهبي‭ ‬المال‭ ‬العام‭.  ‬ومعنى‭ ‬ذلك‭ ‬أيضا‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬حكومة‭ ‬اتخذت‭ ‬من‭ ‬تعطيل‭ ‬مسار‭ ‬توفير‭ ‬القوانين‭ ‬المناسبة‭ ‬لمحاربة‭ ‬الفساد‭ ‬ومحاصرة‭ ‬الإثراء‭ ‬غير‭ ‬المشروع،‭ ‬نهجا‭ ‬غريبا‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬«الفساد‭ ‬المالي»،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬أساسا‭ ‬ببعض‭ ‬موظفي‭ ‬الدولة‭ ‬المشمولين‭ ‬بالتصريح‭ ‬بالممتلكات،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬«المؤشرات‭ ‬الموضوعية‭ ‬لاكتشاف‭ ‬التطور‭ ‬المشبوه‭ ‬للثروة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تَستنِد‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يقدمه‭ ‬المعنيون‭ ‬من‭ ‬تصريحات‭ ‬حول‭ ‬ثرواتهم،‭ ‬بل‭ ‬يتعين‭ ‬أن‭ ‬تساهم‭ ‬فيها‭ ‬أيضا‭ ‬المعطيات‭ ‬المتوفرة‭ ‬لدى‭ ‬عدة‭ ‬مؤسسات‭ ‬وطنية‭ ‬كالمحافظة‭ ‬العقارية‭ ‬ومكتب‭ ‬الصرف‭ ‬وإدارة‭ ‬الضرائب‭ ‬والجمارك‭ ‬ومؤسسات‭ ‬الائتمان‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الهيئات‭ ‬العامة‭ ‬والخاصة،‭ ‬وذلك‭ ‬باعتبارها‭ ‬هيئات‭ ‬قادرة،‭ ‬بالنظر‭ ‬لاختصاصاتها‭ ‬وصلاحياتها،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تشكل‭ ‬مصادر‭ ‬أساسية‭ ‬وروافد‭ ‬حقيقية‭ ‬لرصد‭ ‬تطور‭ ‬الثروات؛‭ ‬بما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يُوفِّر‭ ‬بالتالي‭ ‬ضمانات‭ ‬مهمة‭ ‬للتفعيل‭ ‬الأمثل‭ ‬لهذه‭ ‬الآلية‭ ‬القانونية‭ ‬الجديدة»،‭ ‬بحسب‭ ‬ما‭ ‬يذهب‭ ‬إليه‭ ‬بشير‭ ‬الراشدي،‭ ‬رئيس‭ ‬الهيئة‭ ‬الوطنية‭ ‬للنزاهة‭ ‬والوقاية‭ ‬من‭ ‬الرشوة‭. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬تجريم‭ ‬الإثراء‭ ‬غير‭ ‬المشروع،‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬إعادة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬قانون‭ ‬التصريح‭ ‬بالممتلكات‭ ‬سيشكل‭ ‬لبنة‭ ‬أساسية‭ ‬في‭ ‬مكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬والرشوة،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬ذرع‭ ‬واق‭ ‬من‭ ‬استمرار‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بتصريح‭ ‬خطي‭ ‬لا‭ ‬يسمن‭ ‬ولا‭ ‬يغني‭ ‬من‭ ‬جوع،‭ ‬دون‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬السؤال‭ ‬الكبير‭ ‬«من‭ ‬أين‭ ‬لك‭ ‬هذا؟»‭.‬

ويستمد‭ ‬مشروع‭ ‬«محاربة‭ ‬الإثراء‭ ‬غير‭ ‬المشروع»‭ ‬أهميته‭ ‬من‭ ‬لزوم‭ ‬ملاءمة‭ ‬التشريع‭ ‬الجنائي‭ ‬مع‭ ‬مقتضيات‭ ‬دستور‭ ‬2011‭ ‬وتوجهاته‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬الجنائية،‭ ‬وكذا‭ ‬ملاءمته‭ ‬مع‭ ‬الاتفاقيات‭ ‬الدولية‭ ‬التي‭ ‬صادق‭ ‬عليها‭ ‬المغرب،‭ ‬والمرتبطة‭ ‬أساسا‭ ‬بمحاربة‭ ‬الفساد‭ ‬وتجريم‭ ‬الإثراء‭ ‬غير‭ ‬المشروع،‭ ‬إعمالا‭ ‬لاتفاقية‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬لمكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬الموقعة‭ ‬بنيويورك‭ ‬سنة‭ ‬2003،‭ ‬وإعمالاً‭ ‬للمادة‭ ‬4‭ ‬من‭ ‬الاتفاقية‭ ‬العربية‭ ‬لمكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬التي‭ ‬وقعت‭ ‬عليها‭ ‬المملكة‭ ‬المغربية‭ ‬بتاريخ‭ ‬2010‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬المفارقة‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تؤشر‭ ‬على‭ ‬اللؤم‭ ‬المؤسستي‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬«تجميد‭ ‬المشروع»‭ ‬في‭ ‬ثلاجة‭ ‬الحكومة،‭ ‬ازداد‭ ‬منحنى‭ ‬الإثراء‭ ‬غير‭ ‬المشروع،‭ ‬وتواترت‭ ‬قضايا‭ ‬الفساد‭ ‬بكل‭ ‬أنواعه،‭ ‬والدليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬هذه‭ ‬المحاكمات‭ ‬المتواترة‭ ‬في‭ ‬ظرف‭ ‬سنة‭ ‬ونصف‭ ‬الأخيرة،‭ ‬والتي‭ ‬استهدفت‭ ‬سياسيين‭ ‬وقياديين‭ ‬بارزين‭ ‬في‭ ‬أحزاب‭ ‬وطنية‭ ‬ومنتخبين‭ ‬كبار‭ ‬ورؤساء‭ ‬جماعات‭.. ‬إلخ،‭ ‬علما‭ ‬أن‭ ‬الفساد‭ ‬غير‭ ‬ديمقراطي‭ ‬وضار‭ ‬بالنمو‭ ‬الاقتصادي‭ ‬للدول‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬خطاب‭ ‬العرش‭ ‬(30‭ ‬يوليوز‭ ‬2016)‭ ‬نص‭ ‬صراحة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬«محاربة‭ ‬الفساد‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬موضوع‭ ‬مزايدات»،‭ ‬وأن‭ ‬مفهوم‭ ‬السلطة‭ ‬«يقوم‭ ‬على‭ ‬محاربة‭ ‬الفساد‭ ‬بكل‭ ‬أشكاله»‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬والإدارة‭ ‬والقضاء،‭ ‬وغيرها‭. ‬وعدم‭ ‬القيام‭ ‬بالواجب،‭ ‬هو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬الفساد»‭.‬

معنى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬المغرب‭ ‬يعيش‭ ‬مفارقة‭ ‬خطيرة؛‭ ‬فهو‭ ‬الآن‭ ‬يترأس‭ ‬مجلس‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬الأممي‭ ‬(وهذا‭ ‬مكسب‭ ‬تاريخي‭ ‬مهم)،‭ ‬بيد‭ ‬أنه‭ ‬يعيش،‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الحال،‭ ‬نكوصا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬حقوق‭ ‬حماية‭ ‬المال‭ ‬العام،‭ ‬وحماية‭ ‬ممتلكات‭ ‬المواطنين،‭ ‬وعلى‭ ‬مستوى‭ ‬الإرادة‭ ‬الحكومية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تترجم،‭ ‬بسحبها‭ ‬لمشروع‭ ‬«محاربة‭ ‬الإثراء‭ ‬غير‭ ‬المشروع»،‭ ‬إرادة‭ ‬القرار‭ ‬السياسي‭ ‬المركزي‭ ‬إلى‭ ‬أفعال،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬ملك‭ ‬البلاد‭ ‬أمر‭ ‬بـ‭ ‬«تفعيل‭ ‬الآليات‭ ‬القانونية‭ ‬لمحاربة‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬الخطيرة،‭ ‬وتجريم‭ ‬كل‭ ‬مظاهرها،‭ ‬والضرب‭ ‬بقوة‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬المفسدين»‭. ‬فهل‭ ‬يعني‭ ‬التفعيل‭ ‬السحب‭ ‬والتجميد‭ ‬والإخلال‭ ‬بالالتزام؟

المفارقة‭ ‬الثانية‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬المغرب‭ ‬يتوفر‭ ‬على‭ ‬معمار‭ ‬مؤسساتي‭ ‬مهم‭ ‬«المجلس‭ ‬الأعلى‭ ‬للحسابات،‭ ‬المجلس‭ ‬الجهوية‭ ‬للحسابات،‭ ‬المفتشية‭ ‬العامة‭ ‬للمالية،‭ ‬المفتشية‭ ‬العامة‭ ‬للإدارة‭ ‬الترابية،‭ ‬المفتشيات‭ ‬العامة‭ ‬للوزارات،‭ ‬الهيئة‭ ‬الوطنية‭ ‬للوقاية‭ ‬من‭ ‬الرشوة،‭ ‬مجلس‭ ‬المنافسة‭.. ‬إلخ»‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬ينهض‭ ‬هذا‭ ‬المعمار‭ ‬المؤسساتي‭ ‬بضمان‭ ‬حماية‭ ‬المال‭ ‬العام،‭ ‬وحماية‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬الفاسدين‭ ‬والمفسدين‭. ‬مما‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬السياسيين‭ ‬تدرّبوا‭ ‬على‭ ‬الفساد‭ ‬المقنّع،‭ ‬واكتسبوا‭ ‬مهارات‭ ‬تقف‭ ‬حاجزا‭ ‬أمام‭ ‬تعرضهم‭ ‬للملاحقة‭ ‬القضائية‭. ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬الحكومة‭ ‬لا‭ ‬تعنيها‭ ‬قضية‭ ‬محاربة‭ ‬الفساد‭ ‬والرشوة،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬خطورة‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬البرامج‭ ‬أو‭ ‬السياسات‭ ‬العامة‭ ‬الموجهة‭ ‬للتنمية‭.‬

وتبعا‭ ‬لذلك،‭ ‬فإن‭ ‬استكمال‭ ‬وضع‭ ‬أنظمة‭ ‬رقابة‭ ‬داخلية‭ ‬قوية‭ ‬وفعالة‭ ‬لن‭ ‬يتم‭ ‬إلا‭ ‬باعتماد‭ ‬وتنزيل‭ ‬وأجرأة‭ ‬مشروع‭ ‬«محاربة‭ ‬الإثراء‭ ‬غير‭ ‬المشروع»‭ ‬ليكون‭ ‬حجر‭ ‬الزاوية‭ ‬في‭ ‬الإدارة‭ ‬المالية‭ ‬وغير‭ ‬المالية‭ ‬السليمة‭. ‬ذلك‭ ‬أننا‭ ‬لسنا‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬مؤسسات‭ ‬لتقييم‭ ‬مخاطر‭ ‬الفساد،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬قانون‭ ‬يحد‭ ‬من‭ ‬نشاط‭ ‬الفاسدين،‭ ‬وإلى‭ ‬رادع‭ ‬قوي‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬الخط‭ ‬الأول‭ ‬لمواجهة‭ ‬تغول‭ ‬هؤلاء‭.‬

إن‭ ‬ترسيخ‭ ‬مكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬كأولوية‭ ‬لم‭ ‬يستقيم‭ ‬إلا‭ ‬بالقول‭ ‬إن‭ ‬«إهمال‭ ‬مكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬فسادٌ‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته»،‭ ‬وينبغي‭ ‬فضحه‭ ‬ومواجهته،‭ ‬وإرغام‭ ‬الحكومة‭ ‬على‭ ‬الإسراع‭ ‬بتنزيل‭ ‬صارم‭ ‬للدستور‭ ‬وتأسيس‭ ‬مسار‭ ‬إصلاحي‭ ‬حقيقي‭ ‬يتجاوز‭ ‬«السحب»‭ ‬و«التجميد»‭ ‬و«اللعب‭ ‬على‭ ‬المتناقضات»‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬بحجم‭ ‬محاربة‭ ‬الإثراء‭ ‬غير‭ ‬المشروع،‭ ‬كما‭ ‬يقتضي‭ ‬التعبئة‭ ‬الشاملة،‭ ‬أحزابا‭ ‬وجمعيات‭ ‬ونقابات‭ ‬ومؤسسات‭ ‬قانونية‭ ‬وحقوقية‭ ‬وتربوية،‭ ‬ومجالس‭ ‬الحكامة‭ ‬والرقابة،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬عدم‭ ‬الرضوخ‭ ‬لبعض‭ ‬المراكز‭ ‬والمواقع‭ ‬القوية‭ ‬المستفيدة‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬الريع‭ ‬والفساد،‭ ‬والتي‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تعرقل‭ ‬المسار‭ ‬التنموي‭ ‬لبلادنا‭ ‬وتحكم‭ ‬عليها‭ ‬بالبقاء‭ ‬رهينة‭ ‬في‭ ‬أيدي‭ ‬المافيات‭ ‬وتجار‭ ‬المخدرات‭.‬
تفاصيل أوفى تجدونها في العدد الجديد من أسبوعية" الوطن الآن"
رابط العدد هنا