حميد لغشاوي: لا توجد ضمانة بمنع تناسل النخب الفاسدة سوى بتمكين المغاربة من التعليم والثقافة

حميد لغشاوي: لا توجد ضمانة بمنع تناسل النخب الفاسدة سوى بتمكين المغاربة من التعليم والثقافة حميد لغشاوي
يرى حميد لغشاوي، باحث في تحليل الخطاب أن استئصال الفساد يتطلب مراجعة كاملة للبنية الاجتماعية، فالفساد ليس ورما سرطانيا يمكن استئصاله، بل إنه جزء متجذر في الكيان الاجتماعي المغربي ككل، مشيرا بأن أزمة  النخب السياسية، والعامة، بالمغرب بنيوية، ترتبط  بالجفاء الهارب عن الواقع، والانفصال عن القيم الأخلاقية، والجهل بالتحولات السريعة التي تعرفها الحياة، داعيا الى التخلص من اليأس الناقم والخوف والسلبية والهستيرية السوداوية، والتحلي بالمسؤولية الفردية والجماعية، علما أن محاربة هذه النخب عديمة الجدوى، أو على الأقل منع تكاثرها – يضيف - يأتي من  معرفة ماهية الخلل في واقعنا الاجتماعي والسياسي الذي أتى بها.

كيف تقرأ تغييب النخب في مراكز القرار والإصرار على  تثبيت نخب فاسدة علما أن المغرب لايعاني من الصراع حول السلطة أو تنازع المشروعية؟
هناك نقطة جديرة بالاهتمام وهي أن استئصال الفساد يتطلب مراجعة كاملة للبنية الاجتماعية،، فالفساد ليس ورما سرطانيا يمكن استئصاله، بل إنه جزء متجذر في الكيان الاجتماعي المغربي كله. المجتمع المغربي اليوم كخلية النحل تعيش في  فساد ورخاء، ولكنه يشعر بالحنين إلى الفضيلة ويمجدها ويشيطن منتقديها، لأنها صارت نادرة. وهذه هي المفارقة.
 والنخبة السياسية لا تنفصل عن الأخلاقي والاجتماعي السائدين في المجتمع، ولذلك لا يمكن أن نلقي اللوم عليها وحدها، ونسيان عيوبنا ونقائصها، وعجزنا على تدبير أزماتنا بوعي مسؤول، بالحرص على اختيار النخب النزيهة والمسؤولة عبر صناديق الاقتراع.  نأتي بنخبة فاسدة ونتوقع منها حلولا متولدة عن أزماتنا الاجتماعية.  إن النخب السياسية المغربية تشعر بأنها لا تنتمي إلى العصر الجديد، وهنا تكمن المشكلة.  فالمسؤول عن هذا الوضع المتردي ليس فقط النخبة السياسية وحدها بل أيضا عشوائية السلوك الفردي وغياب الفاعلين الأكفاء.
(في بعض الاستثناءات يكون السياسي الطماع والمجتهد أكثر نفعا للمجتمع من السياسي "النزيه" والحكيم والكسول والغبي).    
مسألة أخرى ترتبط بالتحولات الجديدة في المفاهيم، حيث انتقل الوعي الجماهيري من القيم  (الأخلاقية والسياسية والاجتماعية) إلى مطالب استهلاكية وهي: العمل والاستهلاك والترفيه. وهذه المطالب، هي نتاج للتراكم السلبي عبر سنوات، وأيضا نتاج لمستوى الحياة الجديدة الذي نسير عليه، مما جعلها أكبر من أهداف النموذج التنموي للنخبة السياسية، فتصبح هذه النخبة أمام أمرين إما أن تعلن عن عجزها وتقدم استقالتها، وهذا مستبعد، أو تختار البقاء، وتحقيق مصالحها، والحفاظ على امتيازاتها السلطوية، والهروب من المحاسبة، وبالتالي مواجهة الاحتجاجات. وهو ما يفسر الترهل والفساد الذي يوحد النخب السياسية المغربية.

لماذا لم يقطع المغرب مع منطق إسقاط النخب الفاسدة وتحقيق المصالحة مع نخب لها امتداد في المجتمع ؟
أعتقد أن أزمة  النخب السياسية، والعامة، بالمغرب بنيوية، ترتبط  بالجفاء الهارب عن الواقع، والانفصال عن القيم الأخلاقية، والجهل بالتحولات السريعة التي تعرفها الحياة،  هذه التحولات نقلت البشرية إلى الاستهلاكية المفرطة، نقلتها من جوهر ها الثقافي الروحي الداخلي، إلى سطحية الانفعالات،  بعبارة الفلسفة الكلاسيكية: هوى الروح "الدائرة العاطفية"،  إلى العراء الخارجي البراني، و"المتاهة الانفعالية" La dérive emotionnelle)) كما يقول jean romain.
في مثل هذا الوضع يصعب القطع، بشكل كلي، مع منطق النخب الفاسدة، إذا نظرنا إلى المسألة من الناحية الديموقراطية، لأن هذه النخب جاءت بها صناديق الاقتراع بغض الطرف عن ظروفها وحيثياتها. وحتى التيارات الدينية، التي كانت الأمل المنشود، فشلت فشلا ذريعا، وتصرفت بطريقة غريبة..
 إن الفجوة المتنامية بين الضغوط الاجتماعية وعجز النخبة السياسية تغذي مشاعر العجز المولدة للقلق، والفاعل السياسي المأمول هو الثري، الأقدر على صناعة "انفعال جماهيري"، وتحريك رغبات العامة، وذلك تحول قيادي استراتيجي في تعزيز رغبة الجماهير  المؤسسة على "الإيتوس الانفعالي"، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا عبر إنفاق مادي عالي، الأثرياء وحدهم القادرون على ذلك.  
  أعتقد أن السياق الاجتماعي الجديد يشير إلى تحييد الأخلاق وفصلها عن السياسة، وتمجيد الرفاهية والترف، وهو أمر جوهري، المال وحده يمكّن السياسي من الحشد الجماهيري ويحميه، ثمة صفات أخر ى مميز ة لعصرنا الحديث، تشكل مكامن الضعف لدى العامة  وهي: الجهل الأخلاقي والعجز والفقر والأمية، وجلبهم يعتمد على نقط ضعفهم.  
بعد ذلك، تبقى  التكنولوجيا هي باب المستقبل لرقابة السياسي والهروب من فشله في تدبير الأزمات، عبر تأسيس انفعال سياسي افتراضي مضاد، عوض الواقع الموضوعي، (وحتى المعارضة في المغرب فهي ساكنة). "فالقضية ـ كما يقول روبير ريديكير ـ "هي الانفصال عن الجسد السياسي الواقعي، عن المؤسسات وهذه الإكراهات وهذه الخطابات، الانفصال عن العمودية التي تؤسس بنيتها، وهي الثبات الذي تفرضه من أجل اللوذ ببقايا إنسانية افتراضية هشة". 
إن الأمل الذي نرجوه كبير ، وممكن لكنه صعب، إلا إذا تخلصنا من اليأس الناقم والخوف والسلبية والهستيرية السوداوية، وتحلينا بالمسؤولية الفردية والجماعية،  تجاه وضع اجتماعي نعجز أن نعترف بمسؤولتينا عنه.  فمحاربة هذه النخب عديمة الجدوى، أو على الأقل منع تكاثرها ، يأتي من  معرفة ماهية الخلل في واقعنا الاجتماعي والسياسي الذي أتى بها. ومن التعليم والثقافة، هذه العناصر مجتمعة هي التي تبني فردا مسؤولا عن اختياراته في عالم ينعم بالخيارات البديلة.
 
لكن وجه المفارقة هو نجاح النخب الأمنية والعسكرية بالمغرب، فلماذا نجحت هذه الأخيرة فيما فشلت فيه النخب في قطاعات أخرى ؟ 
ربما لا تفيدنا القرائن، على تحديد الفروق بينهما، المسألة ترتبط بالثابت والمتغير. نجاح النخب الأمنية والعسكرية فيما فشلت فيه نخب أخرى في مجالات: كالتعليم والصحة، يرتبط بسياق الاشتغال المتغيرة، فالنخبة الأمنية والعسكرية بعيدة عن الصراعات السياسية الداخلية، ولا يهمها منطق الحفاظ على المكتسبات السياسية  بقدر ما تهمها المصلحة العامة وسيرورة المؤسسة وتقدمها في الحفاظ على  الأمن العام، وتقودها نخبة تأخذ المسؤولية الجمعية على محمل الجد، وتتميز بالكفاءة والالتزام بالمسؤولية والابتكار والاجتهاد المتواصل والخبرة، ومسايرة التقدم التكنولوجي لتحقيق الأمان فيما يسمى اليوم "بمجتمعات المخاطر" فجوهر  الفكرة البديهية، لديها هي " النظام العام" والحفاظ عليه. إن النخبة الأمنية لا تأتي بها صناديق الاقتراع أو التقلبات السياسية، بل الرؤية الملكية المتبصرة، ولذلك لا يوجد خيط جامع بين النخبة الأمنية الدينامية تهمها المصلحة العامة، والنخبة السياسية  التي  تتأسس على وعي تسوده النزعة الفردية والتفكك  والصراع الأكثر محلية.
إن العطش الدائم إلى تحقيق الأمن في القرن الواحد والعشرين هو اليوم بمثابة أولوية سياسية في كثير من المجتمعات، والمغرب يشكل نموذجا كقوة رائدة في حماية المغرب من مخاطر ضبابية وهلامية جادت بها "أهوال العولمة"، وإدارة المخاطر مرغوبة ومطلوبة جدا اليوم، والوسائل الضرورية لتحقيق ذلك هي الاعتماد على تقنيات المراقبة الجديدة والتكنولوجيا، والمغرب متقدم في المجال الأمني التكنولوجي، فالولايات المتحدة الأمريكية التي يأتي منها معظم الأمثلة في التقدم العلمي أشادت بالدور الفعال للمغرب في هذا المجال.