وتجيب بلا أدنى تردد: هاهي ذي مغامرة فردية مغربية انسانية ، تثبت بالايجاب أن الفرد الواحد يمكنه أن يغير التاريخ في بلاده ..
فلَوَ لمْ يحلم محمد برادة ذات عام من سبعينيات القرن الماضي حلما مجنونا، لما كان التاريخ العام للوطن والتاريخ الخاص للصحافة... عاقلا بالشكل الذي هو عليه اليوم.
ولو لم يصدق خياله ، لما تغير الواقع، ولربما كنا متأخرين، في ساعة الاحتفاء بكتابه هذا بثورتين على الأقل: ثورة خلق شرايين للتوزيع ، لمنتوج هو في ديدنه منذور لهكذا توزيع.
وثورة خلق القراء والزيادة في اعدادهم ، وتوسيع خارطة القراءة. وضمان انتشار الصحافة، بما هي مقوم من مقومات الحداثة والعصرنة، في الزمان والمكان، في الجغرافيا وفي الجغرافيا السكانية ايضا بما اضافه الى الورق من عُمُر في فضاءات كانت خارج تجربة الإعلام ... لولم يصدق حلمه، ويُجْر ذلك المونولوج الجريء وينصت بإمعان الى ما في حواره مع ذاته من وعود ، لما كنا اليوم في الوضع الذي نحن فيه، ولما وطَّن في البلاد تجربة ممتعة وشاقة في الوقت ذاته في النشر والتوزيع وخدمة الثقافة!
كان التاريخ مرتعشا، عندما استبق المناخ العام، المستعصي وقتها على الكتابة والصحافة والثقافة، فاستجاب لفكرة اغرته وراودته بانشاء دار لتوزيع الصحف بجناحين عربي افريقي توصِل المكتوب المهني الى قراءه المفترضين..
هل كان القرار سياسيا ؟ كما نقرأ في شهادات القادة الذي علمونا التحليل الملموس للواقع الملموس السي محمد اليازغي اطال الله في عمره والفقيد القادري رحمه الله وغيرهم ممن قرأوا السيرة من زاوية معالجة الزمن المغربي الصعب وقتها
من المحقق
هل القرار كان مهنيا ؟
ربما مرتين متتاليتين يليهما الميل الى الايجاب؟
لكنه لم يكن قرارا سياسيا فقط ولا مهنيا فقط .. بل كان قرارا وطنيا.
ولي في ذلك مسوغات عديدة:
فما من شك، لأنه قرارٌ طبيعتُه سياسية وجوهره مهني، و لكنه يصطف في قلب ارادة وطنية من أجل سيادة مهنية لا تتحكم فيها أدرع الصحافة الموروثة عن مرحلة الاستعمار، تلك التي هاجمت ابناء البلد ، وسارعت بعد الاستقلال الى تحويلهم من ارهابيين كما نعتتهم الى .. قراء مفصلين على المقاس!
وعندما نبتت الفكرة في عقل الرجل، كانت البلاد تخرج بتؤدة وسلاسة من مرحلة تتأرجح بين الفاشية والانقلاب من جهة وبين الانفتاح والوحدة والديموقراطية من جهة. ولعلها ساهمت في انضاج التقاء القوة الوطنية والديموقراطية لتجديد التعاقد الوطني من اجل الوحدة والديموقراطية معا بعيدا عن اشباح السبعينيات في تلك الفترة. كانت البلاد محكومة بثنائية اعلامية قطباها مشهد سمعي بصري محكوم بارادة الدولة
ومشهد ورقي تحتكر مشروعيته صحافة المعارضة..
كانت تجربة التقطت المناخ الوطني ، برهافة صاحبها وطويته الوطنية، والتقطت ارهاصات مغرب يتبرعم، مرحلة بشهودها وشهداءها، لنا أن نقول أن صوته وحده يكفي في الحديث عنها، والتأريخ لها، بما يملأ بياض الصفحات التي ما زالت عذراء في ذاكرتنا الجماعية ذاكرة مهنتنا ومؤسساتنا وتطورنا..
أو قل بضمير فردي إن كل من حاول أن يلخص حياة محمد عبد الرحمان برادة في بورتريه، بحدود مرسومة في الزمن والمكان، خسر المعركة.
لهذا أدخل هذه الشهادة بكثير من الاحساس بانني سأنهزم حقا، في رسم روحه الواسعة على ورقة أو مديح. ولهذا ايضا، لا أعرف ان كان يحق لي ان أكتب عنه، وأنا قد عرفته أقل من عشرين قمرا .. مدركا إن حقول الحياة، ما هي إلا مشي السحاب، اذا قارنتُ الزمن الذي عرفتُه فيه بحياته العريضة العريضة مثل ابتسامة نقية في وجه صبي، في لوحة انطباعية جميلة.
ولهذا أسألكم : من أنا لكي أكتب عن محمد عبد الرحمان برادة، الذي صنع لي جزء من لغتي عندما سهر،هو كوماندوس منير معه بحرص مكتشف الحروف الفينيقية الاولى على إدارة الجرائد في المسافة بين المطبعة وبين العقل؟
ومن انا لأسمح لنفسي بان أقول محمد عبد الرحمان برادة استضافني، لأكثر من عقدين في عالمه الساحر، بحرص كاهن بوذي، هادئا، منتبها، معلما وصديقا، لينجح اختباري في المرور عبر كل مراحل الصداقة الواجب اتباعها مع النبلاء؟
أنا مجرد صحافي، مناضل وشاعر غرير، يحاول أن يدعي بانه قادر على أن يمدحه أمامكم بخجل المعتذرين عندما يسرفون حقا في شراب الروح، ثم بدون سابق إنذار، يغادرون الحفلة!
وحده محمد برادة يستطيع ان يرتب قلبه، حفلة لكل الناس.
ففي قلبه يلتقي الاديب والاعلامي، والناشر والمثقف والطابع، يلتقي المواطن والفنان والضيف الاجنبي العارف، بالبلاد أو العارف، بأعطابها، والمحاور الجيد لصناع الرأي العام، وعندما يصمت يكون الصمت مشهدا لغويا حافلا بالدلالات.!
وحده يستطيع ان يعيش بلا اعداء، لانه بكل بساطة لا يستطيع، بل لا يحتمل ان يكون له أعداء، والذين حاولوا ذلك، كثيرا ما تعبوا من قدرته على حبهم!
محمد عبد الرحمان برادة، وهو ينتقل بك من عمق الثقافة العربية إلى عمق الثقافة الفرنسية، تفاجئ نفسك تتابع قبرة تطير بخفة، من صوت أم كلثوم الي صوت شارل ازنافور..!
ومن استعارة في قصيدة رومانسية لأحمد شوقي، إلى بلاغة حادة في نثرية جاك بريفير، تجد فيه مجاورة ذكية بين ماسينيون وطه حسين. ولقد كلفتني مجاراته هو، ساعات إضافية، في تعلم الاداب او في تعلم الأغنيات..!
ولهذا ايضا، يحب دائما بأكثر من لغة، ولا يكره بأية لغة كانت، لكنه يعاتب بما يستطيع ان يعاتب به: كلام يسيل رائحة أو عطرا يعبق في الهواء!
في البداية، رأيناه في التعريف العام للتاريخ الصحافي الوطني، مثل اولئك المهاجرين الذاهبين من الشرق إلى غرب امريكا، ليستكشفوا البخار والسكة الحديدية، وهو جاء الى عالم الصحافة وعلمها، لكي يبحث للعناوين الصحافية عن سككها. ومثل خرائطي قديم، كان عليه ان يجد للصحافة المكتوبة، التي كانت تملك قسطا من التاريخ، الموزع بكلل كبير بين الشمال والوسط، جغرافيا محددة، بين الاكشاك وبين المقرات الرسمية، وبين ايادي الطلبة والقراء الفقراء.
كما لو انه كان يعرف قراءة اليد التي ستقرأ الجريدة، لهذا رفع في تحد كبير شعار «جريدة لكل مواطن».
كان لي مرات عديدة ، رفيق المسافة بين يأسين او بين ضجرين..
عندما أيأس من البشرية المناضلة، يمد روحه جدارا يظللني، فكم مرة رفعتنا كلماته الى مرتبة الصابرين لأن الحظ اسعفنا بوجوده، في لحظة الشتات العاطفي او النضالي او السياسي.. وعندما اضجر من تركيبة السياسة، والعذاب في أ وضاع لا تحتمل التحمل، يسعفني، ببيت شعر وبقصة او بيد ممتدة نحوي كيد مدت لغريق .
سيتحدث اعزاء اخرون عن السي محمد هكذا نسميه بيننا - وهو يجوب العالم، دفاعا عن قدرة المثاقفة على صناعة الإنسان، وكيف يمكن للكتاب او الجريدة، ان يتحولا الى احتمال واضح للحرية، سيتكلمون عنه وهو يرمي الجسور، بين اهل الكتاب والكتاب، وعن ولَعله بقدرة الكلمات على إلغاء الفارق بينها وبين الشمعة، في ترتيب التطور البشري نحو السمو.
لكني سأتحدث عن الرجل الشهم الذي شد بيدي، وقادني الى مخبأ السوسنة، بأريحية فيلسوف قديم، يقود مريديه الى مصطبة المعرفة، فقد فتح لي عوالم ما كان لي ان ادركها بمحض قدرتي على الفضول او على الكفاح.
له قلب لا يضاهي لهذا ايها الاصدقاء في كل مكان، صدقوني حين ادعوكم لكي تضعوا اسمه في المكان الوحيد الذي يليق به، القلب، والمكان الذي يستريح فيه: الريشة!
ربما لا يعرف كثيرون ان هذه طريقتي في ان اقترح وضعه، في منطقة عازلة من ضيق الدنيا، اي حيث الله سبحانه وتعالى يوزع الطيبوبة كل فجر، على العيون النائمة، وعلى البشر الاستثنائيين مثله!
كان بودي أن أعالج هذه الشهادة، بغير قليل من مرادفات الجميل التي تبشر بقدرته على الإنصات، كأي رجل دولة منذور لخدمة بلاده.
وهو كذلك، لكن فضلت دوما ان أرى فيه رجل تاريخ.
كما يفعل الذين ينذرون انفسهم للاشياء النبيلة، والطاعنة في الشهامة.
عرف، بسليقة صوفي بارع في الفرح ان المهمة الأولى لفائدة الوطن هي خلق رجال سعداء وحكماء ومتفانين، والباقي تصنعه الأيام... ونكران الذات والجلَد !
لهذا ينصت اليه بامعان، ويحاوره بإصرار، كل الذين يودون أن يكون البلد حكيما، في مسيره نحو الغايات العالية.
ولهذا أيضا، يفسح مجالا واسعا للفكاهة، لكي تعوض الحياة عن بعض اعطابها التي تطرأ، ولكي يشد الانتباه احيانا الى جدوى الحاسَّة السادسة!
له عاطفة واسعة، بما يكفي لتحمي جيلا كاملا من الاصدقاء، من كل الانواء، وعاطفة واسعة تمسح على رؤوس اليتامى والأرامل وعاطفة واسعة لكي تصوب المشاعر نحو سمائها الصافية.
وله عاطفة طازجة دائما، لها من ينتظرها دوما لكي تُضمِّد قلبه.
يا محمد، اسمح لي اني لم أكن في مستوى هذا اليوم، حيث كان يجب أن أكون، لكنك تدري أنك قد وضعت لي اولويات تجعلني أرى في كل خدمة للناس، عربون محبة لك.
واعذرني اذا انا لم أعرف دائما، كيف أعتذر حين يجب أن أعتذر، لكنيْ اِسْمعني وأنا أغني كما تحبني ان أغني للبلاد، وللشمس، وللشرق وللنيل الذي تعشقه.
وإذ يقول الكثيرون ما يقول الكثيرون عنك، ستبتسم وتنتظر أن أعيد محبتك من جديد كما أنت، مليئا بقلبك ومليئا بك، ضاجا بما فيه من تفرد!
شكرا لأنك كنت. شكرا لأنك إنك أنت!