مولاي عبد الحكيم الزاوي: الجسد والتاريخ 

مولاي عبد الحكيم الزاوي: الجسد والتاريخ  مولاي عبد الحكيم الزاوي
الجسد قارة عذراء في تصورنا للتاريخ، في تمثلنا للماضي والحاضر، في فهمنا العميق للذات والآخر، للأنا والغيرية؛ الغيرية القريبة أو البعيدة التي تجعلنا دائما في مدار خلاف واختلاف متواصل. وحده الجسد من يكشف عن مُضمرات أفعالنا، من يفضح عمق بنيتنا الرمزية التي تنطق بها شخصيتنا العميقة في الزمن. هو أيضا فضاء مهجور ضمن خارطة تحليلنا الذهني للواقع، ضمن تفسير سلوكياتنا، وفي فهم تفاعل ذواتنا مع الروح؛ رمزي ومادي في آن، وسلطوي كذلك، مرغوب بحكم الشهوة والغريزة، ومقموع بحكم العادة والتاريخ.

تاريخيا احتل الجسد مساحات شاسعة ضمن انشغالات المُنجز الانساني عبر محطات كبرى، بدأت مع الفلسفة الإغريقية ووصلت إلى الفلسفة المعاصرة مرورا بالفلسفة الوسيطية...على مدار هذا التاريخ كان الجسد تيمة مركزية ضمن خارطة التفكير الانساني، وجرى العبور بعدها نحو تعقب التمثلات الأنثربولوجية والاثنية والروحية التي تتحكم فيها ثقافة الجسد، وتترجمها إلى لغة تخاطب وتواصل. 

علينا أن نُقر في هذا الصدد أن صورتنا للجسد ظلت وستظل متشضية ومنكسرة. لا يمكن أن نحيط بالمسألة دون أن نحيط بالرقيب الذاتي الذي يسكن اللاوعي من جهة، والرقيب اللاهوتي الذي يرفع سيف التكفير في كل تعبير جسدي، وأيضا الرقيب المؤسساتي الذي يرفع عصا التشهير والقمع...

  بهذا، يُعري الجسد عن توترنا الهوياتي الدائم، ويعبر عن اضطراباتنا النفسية التي  تعتمل في ذاوتنا، وعن رغبتنا الدائمة في التحرر والتموقع ضمن الكينونة والوجود. وقف البعض عند مسألة  لا تخلو من تقدير، الجسد المتعالي عن  عن الزمان والمكان، أو الجسد السلطوي الذي يشكل امتدادا ميتافيزيقيا خارج الروح البشرية الطبيعية. الجسد السلطوي هنا هو الذي يجعل المُستلبين يستصغرون أناتهم، ويقدسون جسد السلطة كجسد خارج عن الطبيعة البشرية...

في السياق ذاته، لقد سبق للفيلسوف إرنست كونترفيتش في كتاب مرجعي هام جدا تحت عنوان The King of two Badies أن تناول موضوعة الجسد من منطور مغاير، من خلفية تأثير الجسد السلطوي في سيكولوجية الجماهير، في قدرة الجسد السلطوي على رسم عالم غير واقعي عن أفعال بشرية يراد بها التقديس والتعالي عن العامة.
 
للفكر أيضا جسدانية متعالية عن الواقع، مثلما للجسد ذكاء، كما يفصح عن ذلك أصحاب الفن الأول في مقاطعهم التشخيصية. للجسد أيضا وضعيات، تعبيرات وايماءات، وفق ما يُصرح به السوسيولوجي دافييد لوبرتون صاحب كتاب سوسيولوجيا الجسد. من تقنيات الجسد إلى التعبيرات الوجدانية، من الإدراكات الحسية إلى التسجيلات الغلافية، من سلوكيات الوقاية إلى سلوكيات التغذية، من طرق الجلوس إلى المائدة إلى طرق النوم، من نماذج تمثل الذات إلى العناية بالصحة والمرض، من العنصرية إلى التمركز، من الوشم إلى الثقب...كل هذه التعبيرات هي إحالات على ممارسات اجتماعية، على بنى مُؤسسة للتمثلات، وأيضا للمتخيلات. 
 
من المستحيل الحديث عن الإنسان بدون أن نفترض بشكل أو بآخر بأن الأمر يتعلق بإنسان من لحم ودم، معجون ومشكل من حساسية خاصة، الجسد تيرموميتر لفهم الأنا والعالم، للتموقع ضمن قارة الأجساد الكبرى.
عبد الحكيم الزّاوي، دكتور في علم الاجتماع