مضى أزيد من شهرين على تنفيذ الجناح المسلح لحركة حماس في السابع من أكتوبر لعملية عسكرية غير مسبوقة " طوفان الأقصى"، تمثلت في شن هجمات صاروخيه مكثفة وواسعة النطاق على العديد من المستوطنات الإسرائيلية، وتوغل بري لعشرات المسلحين من حركة حماس ومن فصائل فلسطينية مسلحة أخرى، و اقتحامهم عددا من البلدات ( كيبوتسات ) المتاخمة لقطاع غزة وأسر العشرات من عناصر الجيش والمدنيين الإسرائيليين .
وكان رد فعل الكيان الصهيوني على هذه العملية المسلحة النوعية والمباغتة، شن حرب عمياء على السكان الفلسطينيين المدنيين بقطاع غزة بذريعة " الحق المشروع في الدفاع عن النفس" ضد الهجمات الإرهابية" لحركة حماس وجناحها العسكري.
وبعد ما يفوق الشهرين منذ تاريخ تنفيذ هذه العملية والحرب الانتقامية التي شنتها إسرائيل على سكان غزة، بلغ عدد الضحايا المدنيين والجرحى من النساء والأطفال عشرات الآلاف جراء استهداف الغارات والقصف الإسرائيلي البشر والحجر، وتدمير البنية التحتية والبنايات السكنية والمستشفيات والمدارس والمقرات التابعة لبعض الوكالات الإنسانية في الرقعة الجغرافية الصغيرة لقطاع غزة التي تحولت الى جحيم رهيب من الموت والأنقاض.
وبفعل ا لصدمة ا الشديدة التي أحدثها هول بعض المشاهد المؤلمة للوضع الإنساني الكارثي للسكان المدنيين في غزة، سارع عدد من خبراء الأمم المتحدة في منتصف شهر نونبر الماضي، الى تحذير المجتمع الدولي من مغبة استمرار إسرائيل في ارتكاب انتهاكات خطيرة في حق السكان المدنيين الفلسطينيين منذ شنها للحرب على غزة في السابع من أكتوبر. وأكد هؤلاء الخبراء مستندين على مجموعة من الوقائع والحجج، ثبوت التحريض المتزايد على ارتكاب إبادة السكان الفلسطينيين بقطاع غزة، ووجود نية مقصودة وواضحة للعيان في " تدمير الشعب الفلسطيني الذي يعيش تحت الاحتلال " وتهجيره القسري بما يهدد بتكرار وقوع «نكبة ثانية" في قطاع غزة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وقد دفع الوضع الإنساني المأساوي للمدنيين في غزة الأمين العام للأمم المتحدة من جهته الى توجيه تنبيه الى مجلس الأمن – في خطوة نادرة - بناء على المادة 99 من ميثاق منظمة الأمم المتحدة التي تجيز له إخطار مجلس الأمن بأي مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ الأمن والسلم الدوليين.
وبعد مضي أكثر من ثلاث أسابيع على إنهاء "الهدنة" بين حركة حماس وإسرائيل، والتوصل إلى اتفاق يقضي بالإفراج وتبادل مجموعة من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية والمحتجزين الإسرائيليين لدى حركة حماس وفصائل فلسطينية أخرى، وبصرف النظر عن مسؤولية خرق الهدنة، لا زال الجيش الإسرائيلي يواصل حربه على نطاق واسع، ويمدد هجماته العسكرية إلى جنوب غزة ،حيث كان من المفترض ان يجد المدنيون الفلسطينيون «ملاذا آمنا" أو على الأقل بعض الخلاص من لهيب الحرب المشتعلة في شمال غزة.
بيد أن الوضع الإنساني لسكان غزة بلغ حد الكارثة، لا سيما مع موسم البرد والشتاء. فعدد المباني المدمرة يخلق الذعر، والجوع والأوبئة باتت تهدد السكان، وشح المساعدات الإنسانية التي لا تصل الى الفلسطينيين المحاصرين سوى بكميات ضئيلة، وتعطل خدمات أغلب المستشفيات وتخريب تجهيزاتها بفعل القصف المتواصل الذي يستهدفها، وأعداد كبيرة من الجرحى والمصابين والمرضى من الأطفال والنساء والمدنيين، لا زالوا دون إسعاف جراء القصف والحصار، وتقارير المنظمات الدولية والشهادات القليلة التي استطاع أصحابها تبليغها الى العالم تثير الرعب حقا.
وينضاف الى هذا الوضع الإنساني القاتم في غزة، انفجار الوضع في الضفة الغربية والقدس الشرقية وبعض المخيمات والتزايد المهول في أعداد الضحايا بين المدنيين.
يحصل هذا العدوان على الشعب الفلسطيني تحت أنظار المجتمع الدولي بعد مرور ستا وخمسين سنة على إصدار مجلس الأمن لقراره رقم 242/1967 (22نونبر 1967) الذي نص على " إنهاء حالة الحرب، وعدم شرعية الاستيلاء على الأراضي عن طريق الحرب، وعلى انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها، وإقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط، وعلى حق كل دولة في المنطقة في العيش في سلام ...".
فقد مضت خمسة عقود ونصف على صدور هذا القرار، ومازال قطاع غزة ;والضفة الغربية تعيش على وقع العمليات العسكرية العنيفة لقوات الاحتلال الإسرائيلي، وتناسل المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية.
وبقدر ما يعتبر انفجار الوضع في غزة منذ السابع من أكتوبر حلقة تصعيدية أخرى في المشروع الاستيطاني الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فإنه يسعى أيضا بحسب التصريحات المتواترة لعدد من المسؤولين في الحكومة اليمينية الإسرائيلية وقادة جيش الكيان الإسرائيلي، إلى "التحطيم الكامل" لحركة حماس، ورهنهم إنهاء الغارات العسكرية العشواء على المدنيين بتحقيقهم لهدف- بعيد الاحتمال في الواقع – يتمثل في القضاء الكلي على "آخر خلية إرهابية في غزة".
ولا شك أن ثمة تخوف حقيقي من كون الاستمرار في العدوان على السكان المدنيين في غزة وباقي الأراضي الفلسطينية، سوف يؤدي حتما الى نسف وتقويض أية إمكانية فعلية لتمتع الشعب الفلسطيني بحقه في تقرير مصيره الذي يعترف به القانون الدولي دون لبس للشعوب التي ترزح تحت الاحتلال.
وعلى الرغم من الصعوبة الجمة التي تكتنف التحديد الدقيق لبعض الوقائع وتوثيقها وتكييفها القانوني أثناء حصولها، فضلا عن الحصار الإعلامي المحكم المضروب على ما ترتكبه القوات الإسرائيلية من تقتيل ودمار وخراب في قطاع غزة، وندرة الأخبار المؤكدة التي تسربت حول ما يجري فيها، فقد تكونت القناعة لدى الكثير من الأكاديميين المختصين في القانون الدولي ،بتوفر العديد من القرائن والأدلة المتطابقة على ارتكاب إسرائيل لانتهاكات جسيمة وممنهجة في حق المدنيين الفلسطينيين، وأجمعوا بهذا الخصوص على ضرورة تذكير المجتمع الدولي بالالتزامات البديهية التي تقع مسؤولية احترامها والوفاء بها على جميع الدول:
1- لا يجوز بمقتضى معايير القانون الدولي العام الاستمرار في تصعيد العنف المسلح في غزة الذي أصبح يهدد بقاء مجموعة سكانية بكاملها على قيد الحياة.
2- إن خرق أحد الأطراف المتحاربة لقواعد القانون الدولي الإنساني لا يبرر بأي حال انتهاكات الطرف الآخر لالتزاماته بموجب القانون الدولي.
3- ان جميع الدول الأخرى التي ليست طرفا في النزاع المسلح، ملزمة بموجب القانون الدولي بأن تلجأ الى جميع الطرق السلمية للسعي إلى:
- وضع حد للانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني التي ترتكب في الحرب الدائرة في غزة ولانتهاكات حق الشعوب في تقرير مصيرها.
- تجنب أي خطر لارتكاب جرائم الإبادة والالتزام بالوقاية منها ومعاقبة مرتكبيها.
- محاكمة مرتكبي الجرائم الدولية (جرائم الحرب، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الإبادة) ومرتكبي الأعمال الإرهابية.
- القيام بكل ما يمكن من أجل توفير الحماية للمدنيين من التعرض للفظائع الجماعية، مهما كان مرتكبوها، والحيلولة دون حرمانهم من حقوقهم الأساسية.
وأخذا في الاعتبار هذه الالتزامات الأساسية للدول، إن تقاعسها في الوفاء بها إبان نزاعات مسلحة شبيهة من حيث فظاعتها بالحرب الدائرة في غزة، لا يعتبر بأي حال مبررا ولا عذرا مقبولا لسلبية هذه الدول وتقاعسها في الوفاء بالتزاماتها.
لقد لجأت بالفعل العديد من دول العالم الى استعمال "ترسانة " من الوسائل السلمية المتاحة، للمطالبة بوقف العمليات القتالية في غزة (التفاوض مع الأطراف المتحاربة سواء بشكل مباشر أو عبر وسطاء، المناشدات بالوقف الفوري لإطلاق النار، الهدنة لإيصال المساعدات الإنسانية، الاحتجاج وشجب استهداف القصف الإسرائيلي للمدنيين والمنشآت المدنية، الكف عن التهجير القسري للمدنيين ...)، غير ان استنفاذ هذه الطرق جميعها لم يكن كافيا لوقف الحرب على غزة.
ورغم التحول النسبي الذي يمكن ان يستشف من خطاب ومواقف بعض الدول الغربية من الحرب التي تشنها اسرائيل على سكان غزة، في اتجاه رفع نبرة تحفظها إزاء مخططات وأهداف إسرائيل من الحرب ومآلها، فإن هذا التحفظ يبقى خافتا وخجولا، ولا يرقى الى المستوى المطلوب من الشجب والاستنكار الصريح، والتهديد باتخاذ التدابير الحازمة التي يستلزمها الوضع. كما ان التصريحات المحتشمة للدول الغربية ومواقفها المتذبذبة في مواجهة عناد إسرائيل وتحديها المتواصل لآليات المجتمع الدولي، لا يعفي هذه الدول من مسؤولياتها، ولا يعيد لها مصداقيتها التي انهارت في نظر باقي دول العالم التي تتهم " الغرب" بالإمعان في ممارسته اللاأخلاقية لازدواجية المعايير، وعدم إظهاره لنفس القوة والثبات في الدفاع عن حقوق جميع السكان المدنيين وعن جميع الشعوب دون تمييز.
واعتبارا لما سبق، بات من اللازم والمستعجل الانتقال الى مرحلة اتخاذ مجموعة من المبادرات والتدابير ذات الطابع الردعي من بينها على سبيل المثال لا الحصر:
1- إتاحة جميع الفرص لمجلس الأمن ، وتمكينه من الاضطلاع بوظائفه و بمسؤولياته الكاملة في حفظ السلم والأمن الدولي، ولاسيما إصدار ما يراه ملائما من القرارات الإلزامية للأطراف بوقف العمليات الحربية، واتخاذ التدابير الضرورية الأخرى ذات الطابع الإنساني لحماية السكان المدنيين والأسرى و المحتجزين.( يجدر التذكير ان الولايات المتحدة استعملت في 8 دجنبر حق النقض ضد مشروع قرار لمجلس الأمن يطالب بالوقف الفوري لإطلاق النار، وفي 12دجنبر صوتت الجمعية العامة خلال الدورة الاستثنائية الطارئة بأغلبية كبيرة على قرار يدعو الأطراف الى وقف انساني لإطلاق النار والإفراج الفوري عن الرهائن ووصول المساعدات الإنسانية الى غزة).
2- منح الضمانات الأممية الضرورية لكلا الطرفين من أجل تأمين حماية السكان المدنيين من الجانبين، ومنع أي خرق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة وحماية السكان المدنيين من الهجمات والقصف الذي يستهدفهم، مع ما تستتبعه هذه الضمانات من نشر للملاحظين الدوليين عند الاقتضاء.
3- تقديم الدعم اللازم لآليات التحقيق الدولي في جميع انتهاكات القانون الدولي الإنساني التي تكون قد ارتكبت منذ نشوب الحرب الشرسة في غزة، والحرص على توفير كافة شروط الاستقلالية لهذه الآليات الدولية.
4- بخصوص شق العدالة الجنائية الدولية، ينبغي توفير الموارد المالية والوسائل المادية الكفيلة بتمكين المحكمة الجنائية الدولية من تحديد هويات مرتكبي الجرائم الدولية اثناء الحرب في غزة وباقي الأراضي الفلسطينية، ومتابعتهم ومحاكمتهم مع ما يستلزمه ذلك من دعم للمحكمة الجنائية الدولية وتعاون قضائي معها من طرف الدول دون تحفظ.
5- تحريك الآليات الدولية الأخرى المتوفرة لتسوية النزاعات، فمحكمة العدل الدولية مثلا تعتبر مختصة بمقتضى اتفاقية 9 دجنبر 1948 المتعلقة بمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها -التي تعتبر دولة فلسطين وإسرائيل و151 دولة أخرى أطرافا في نظامها الأساسي- وبالتالي تشمل ولاية هذه المحكمة النظر في خرق أحد الأطراف لالتزاماته المتعلقة بمنع جريمة الإبادة.
أن المحنة التي يعيشها المدنيون الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية، والخطر المحدق بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، والاحتمال القوي لاستمرار الحرب لأمد طويل واستمرار آلة الموت في إزهاق المزيد من أرواح الضحايا الأبرياء، بات يفرض لا محالة على الدول الغربية الداعمة لإسرائيل أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية والأخلاقية أمام العالم، والا تتردد في استعمال جميع الصلاحيات التي يخولها إياها القانون الدولي لوقف شلال الدم الفلسطيني.
محمد العمرتي/ أستاذ القانون الدولي لحقوق الإنسان بجامعة محمد الأول – وجدة