عبدالغني السلماني: الحراك التعليمي والأفق المأمول

عبدالغني السلماني: الحراك التعليمي والأفق المأمول عبدالغني السلماني

حراك بحجم الوطن :

يخوض رجال ونساء التعليم معركة طويلة ضد النظام الأساسي دخلت شهرها الثالث، فارضة حالة من التوتر و الجمود على قطاع التعليم، وجعلت أزيد من 9 ملايين تلميذ من أبناء الشعب عرضة للهدر المدرسي ، فيما باقي الفئات المحظوظة مستمرة في الدراسة جاعلين من المدرسة الخصوصية هي الملاذ والمنتهى .معركة رجال ونساء التعليم جعلت المجتمع و أولياء أمور التلاميذ في تضامن غير مسبوق مع الشغيلة مما فرض حوارا مع القطاع الوصي تحت إشراف رئيس الحكومة مما نتج عنه تحقيق بعض المكتسبات أهمها الزيادة في الأجور وهو حق الشغيلة التعليمية التي تبقى جديرة به ، إلا أن هذه الأخيرة مصرة على ضرورة سحب النظام الأساسي الحالي، والاستجابة للمطالب المشروعة لنساء ورجال التعليم ،وحل كل الملفات العالقة للشغيلة التعليمية والأطر التربوية . ورغم التوتر لا يزال الحوار مستمرا بعدما تم دمج التنسيقيات من جديد وتنظيم نقابي آخر FNE هذا الوضع الاستثنائي أثار ويثير مجموعة من التساؤلات داخل المجتمع المغربي حول مستقبل السنة الدراسية .

الحراك الذي يعرفه قطاع التعليم في علاقته بالرأي العام حرك صورة المدرس في التمثل الشائع عند عموم الناس باعتباره عنصر ثقة والبناء قادر على إنجاز معارك وتوحيد الصفوف ومد جسور التضامن والتضحية ، متجاوزا بذلك الصورة النمطية التي تشكلت عبر أجيال حولت مهنة التدريس كصورة نمطية تحط من قيمة التدريس كمهنة ومن الأستاذ كمربي للأجيال ، مما يعطي الانطباع العام بأن مهنة التدريس هي مهنة الكدح والشُح المبين ، كلها اتهامات قللت من أهمية دور المدرس والمدرسة بشكل عام في بناء المجتمع والوطن وتربية الأجيال .

كما شكل الحراك التعليمي نقطة تحول في علاقة المدرس بآباء وأولياء التلاميذ والتلميذات، فمعظم الآباء والأمهات وحتى الجمعيات التي تمثلهم جاءت ردود فعلهم وفعلهن بما يتوافق مع المطالب التي رفعها رجال ونساء التعليم، خاصة أن هذه المطالب تأخذ واقع ومستقبل المدرسة العمومية بعين الاعتبار. الحراك في مجمله يطالب بتحسين وضعية المدرسين، وتوفير الوسائل المادية والرمزية الضرورية لبناء فضاء تعليمي يضمن الجودة والكرامة للمدرس والفضاء.

المدرسة العمومية ورهان الجودة :

إن تحقيق رهان الجودة في المدرسة العمومية، له أهميته القصوى باعتباره مطلبا اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، غايته تقديم خدمة عمومية من أجل تحسين مؤشرات تقدم البلاد وتأهيلها لربح رهانات التنمية بكل أبعادها ، عبر تطوير البحث العلمي والتقني. فتحقيق الجودة في التعليم يقتضي العمل بمبدأ الجودة الشاملة، حيث يستلزم الأمر تظافر كل الجهود لتحسين الأداء والمنتج التعليمي بما في ذلك التدبير الإداري القائم على الحكامة الجيدة وتحسين أداء المشرفين والمدرسين واعتماد البرامج والمناهج الملائمة لمعايير الجودة والتقويم الدائم للمؤسسة التربوية.إن حجم التحديات المطروحة على المنظومة التربوية يقتضي إيلاء مزيد من الاهتمام بقطب الرحى في المنظومة التعليمية التعلمية باعتبارها القلب النابض لكل إصلاح منشود ، فمن خلالها يمكن أن نقيس مدى نجاح أي ورش تعليمي في المستقبل .. الحاجة هنا تقتضي فرض مقاربة شمولية والمجال لا يتسع في هذه المحاولة الآن .

فأية حاجة لتفكير متعدد الرؤى والتخصصات صوب هذه المدرسة وأدوات اشتغالها، وأية نظرة اصلاح شمولي لقضاياها بنوع من النسقية والتكامل، وأية حلقات مفقودة بين ما يطرح من إصلاحات وبرامج . فسؤال الطلب الاجتماعي من أجل مدرسة عمومية خالقة للجودة هو انسجام بين زمن تربوي تعليمي يسهر عليه الأستاذ ، وزمن اقتصادي في البلاد يخططه الفاعل الحكومي والماسك بالقرار ، مما يتطلب وضع منظومة تعليمية تتوفر على بنية بعناصر داخلية منسجمة ومتماسكة معرفيا وبيداغوجيا ، متجاوبة مع نظام تعليمي حاملا ومترجما لمشروع المجتمع، ذلك أن الفعل التعليمي لا يزال بحاجة لإعادة تحديد تساؤلاته الكبرى، قصد إعطاء دور المدرسة الاستراتيجي ما يستحق كآلية لانتاج موارد بشرية منتجة . قادرة على فهم التحولات وتفكيك المتغيرات وفتح نقاشات وتقديم اضافات تستحضر قضايا المدرسة المغربية ومن خلالها التربية والتكوين بما في ذاك رهان تجويد الفعل التعليمي. في أفق وضع سياسات داعمة لتطلعات ورش اصلاح تربوي من شأنه تجاوز واقع الخلل والهشاشة في القطاع.

السؤال الجوهري الذي يؤرق الآباء وحتى الأساتذة أنفسهم ما العمل الآن؟؟ هل يمكن الاستمرار في هذا الممر الطويل الذي يُعقِد الوضع أكثر ؟، هذا السؤال إشكالي وقد يستفز قائدي الحراك وخاصة أن جولة الحوار على وشك النهاية بعدما تم دمج فاعلين جدد من التنسيقيات والنقابة .

لا بد أن نعترف أن معركة رجال ونساء التعليم كانت جد مبهرة أظهرت حجم ومتانة التنظيم وقوة الإرادة في الدفع بالمعركة إلى أقصى الحدود من أجل كسب الرهان ، حيث أن ما حققه هذا الحراك حتى الآن لم يكن متوقعا في المرحلة السابقة ؛ أظهرت ملحمة التضامن والثقة في تنظيمات بديلة لها قدرة على التعبئة وتسطير برامج نضالية تمكن الجميع من الإنخراط فيها و تجسيد فعاليتها عبر ترسيخ فكرة التكتل في تنسيقيات فئوية للفعل الميداني والنضال الوحدوي السلمي يتوخى وحدة المطالب من أجل المدرسة العمومية وكرامة العاملين بها ، وبالتالي فإن حجم المكتسبات المعنوية لنساء ورجال التعليم خزان إضافي لمعركة مفتوحة على كل الاحتمالات وهو في الوقت ذاته كشف لكل الإطروحات الانهزامية والتآمرية على كل فعل احتجاجي قادر على خلخلة الوضع، وجعل من المسار النضالي للأساتذة قدوة للفعل والتكتل والحلم في تحقيق مطالب لفئات أخرى تتشكل في الأفق.

الفعل الإحتجاجي والأفق الممكن.

المحرك الأساسي للفعل الاحتجاجي هو الإحساس بالحرمان باعتباره التعبير العلني عن الحيف والظلم كنقيض لمفهوم الكرامة والمساواة وهذا ما تجسد من خلال السرديات التي ارتبطت بشعارات هذا الحراك، هذا الفعل يجب حمايته حتى لا يتحول إلى مغامرة بلا ضفاف ، ويكفي العودة إلى كل أشكال الاحتجاج التي عرفها البلد ومآلاتها ويمكن إيجاد الجواب الدال والمفصل ولا داعي لضرب أمثلة فالمتتبع والفاعل بالإشارة يفهم، لكن من حقنا الخوف الآن..

أهم مكتسب للحراك أنه نتيجة تعبئة غير مسبوقة لعبت فيه الوسائط دورا حاسما ومتميزا ، قدرة هذه التعبئة في تأطير هيئة التدريس وحشد عزيمتها في ملف مطلبي واضح من جهة وتعبئة شريحة هامة من المجتمع بعدالة مطالبها من جهة ثانية ، مما انعكس بشكل مباشر على قبول الحوار ومنح مكتسبات أولية من قبل الحكومة توجسا باستمرار هذه الدينامية ونقلها لقطاعات أخرى . فامتداد الحراك وتشبته بمطالبه وتنظيم فاعليه؛ هو نقطة قوة بعيدا عن كل تأثير في توجيهه وحصد نتائجه السياسية إنه حراك خالص للأستاذة وهم من يقررون أفقه ومستقبله ، وهذا يتطلب الرؤية والصيانة للمكتسبات .

الخطورة المحدقة بهذا الحراك "إذا قدر الله "هو أن يكون هناك انفلات نتيجة التصعيد أو زرع ألغام من قبل جهة ما ، حتى يتم اللجوء إلى شرعية العنف المؤسس حفاظا على مزاعم النظام العام إنها مخاوف من حق أي حركة احتجاجية أن تأخذها بعين الإعتبار صيانة للكرامة وحماية للمكتسبات المحققة .

فكل حركة ممانعة تعي دائما أن كل ما يتحقق في ساحة الفعل يبقى في التقدير السياسي المرحلي سوى بداية لصيرورة نضالية منتجة تؤمن بالتراكم والتحصين.

إنه الرهان والتفكير الجماعي بصوت العقل يتطلب متابعة وتفكيك وتحليل لكل التناقضات وفهم لطبيعة كل فاعل قصد إنتاج رؤية تضع خارطة طريق وبالتالي بناء معادلة تواصلية لا تجعل منتصرا واحدا في الميدان، بل الانتصار هو جماعي وتمرين يجعل الفعل الديموقراطي هو النموذج القادر على التراكم وهذا يتجسد في كل تنظيم مواز باعتباره الوسيط الأساسي بين الحركات الاحتجاجية، فما يلزم هو الانخراط المكثف في كل الأشكال الديموقراطية وتفعيل الاليات التشاركية في المقاربة و الفهم والفعل .

في الختام قد أدرك وربما أجزم أن نساء ورجال التعليم يمتلكون العقلانية الكافية التي تؤهلهم لفهم حساسية اللحظة المهمة في اتخاذ القرار الهام والمناسب، خبرتهم تمنحهم اليقظة حتى لا يكونوا فريسة سهلة لمناورات جهات معادية ترغب في تأزيم الأوضاع وتعمل من حيث لا تدري على هدم كل فعل منظم قادر على كسب المعارك والرهان.

 

د. عبدالغني السلماني ، كاتب وباحث