محمد بنمبارك: عودة إلى نكبة المغاربة المطرودين من الجزائر 1975

محمد بنمبارك: عودة إلى نكبة المغاربة المطرودين من الجزائر 1975 محمد بنمبارك
تتجدد‭ ‬العودة‭ ‬مرة‭ ‬ثانية‭ ‬بل‭ ‬ثالثة‭ ‬ورابعة‭ ‬وخامسة‭ ‬وعاشرة‭ ‬وإلى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نهاية،‭ ‬لموضوع‭ ‬المأساة‭ ‬الإنسانية‭ ‬لضحايا‭ ‬الطرد‭ ‬التعسفي‭ ‬الذي‭ ‬نفذه‭ ‬حكام‭ ‬الجزائر‭ ‬صبيحة‭ ‬الثامن‭ ‬من‭ ‬نوفمبر‭ ‬1975‭ ‬بحق‭ ‬45‭ ‬ألف‭ ‬عائلة‭ ‬مغربية،‭ ‬تضم‭ ‬مواطنين‭ ‬أبرياء‭ ‬كانوا‭ ‬يعيشون‭ ‬بأمان‭ ‬واستقرار‭ ‬مع‭ ‬إخوانهم‭ ‬الجزائريين،‭ ‬في‭ ‬نسيج‭ ‬اجتماعي‭ ‬مترابط‭ ‬مندمج‭ ‬متداخل‭ ‬مفعم‭ ‬بالأخوة‭ ‬الصادقة‭ ‬والتعايش‭ ‬والترابط‭ ‬والتلاحم‭ ‬الإنساني‭ ‬القوي‭ ‬في‭ ‬علاقات‭ ‬متعددة‭ ‬الأشكال:‭ ‬(زواج،‭ ‬أبناء،‭ ‬مصاهرة،‭ ‬جوار،‭ ‬امتداد‭ ‬قبلي،‭ ‬صداقات،‭ ‬مصالح،‭ ‬عمل،‭ ‬سكن‭..‬)، ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬قرار‭ ‬متهور‭ ‬اندفاعي‭ ‬انتقامي‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬ذنب‭ ‬له،‭ ‬بالطرد‭ ‬بل‭ ‬الترحيل‭ ‬والتهجير‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬أشكال‭ ‬الممارسات‭ ‬الصهيونية‭ ‬بحق‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬لا‭ ‬فرق‭ ‬بين‭ ‬رب‭ ‬أسرة،‭ ‬أو‭ ‬أم‭ ‬لأطفال،‭ ‬أو‭ ‬ابن‭ ‬أو‭ ‬بنت‭ ‬لأم‭ ‬أو‭ ‬أب،‭ ‬أو‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬العلاقات‭ ‬الأسرية،‭ ‬فالتهمة‭ ‬والادعاء‭ ‬كان‭ ‬جاهزا‭ ‬"مغربي"‭ ‬لا‭ ‬غير،‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬وازع‭ ‬ديني‭ ‬أو‭ ‬أخلاقي‭. ‬

هذه‭ ‬القضية/‭ ‬الترحيل‭ ‬بالمختصر‭ ‬المفيد،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬نقطة‭ ‬نهاية‭ ‬بل‭ ‬بداية‭ ‬مشوار‭ ‬ورحلة‭ ‬عذاب‭ ‬ومأساة‭ ‬وأوجاع‭ ‬لمن‭ ‬شرد‭ ‬وانفصل‭ ‬عن‭ ‬أسرته‭ ‬وبيته‭ ‬«تمزيق‭ ‬عائلي»‭ ‬وعمله‭ ‬ودراسته‭ ‬وتجارته‭ ‬وممتلكاته‭ ‬بل‭ ‬وماضيه‭ ‬وذكرياته‭ ‬وأحلامه،‭ ‬ليرمى‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الخلاء‭ ‬على‭ ‬الحدود،‭ ‬هكذا‭ ‬بجرة‭ ‬قلم‭ ‬في‭ ‬صبيحة‭ ‬يوم‭ ‬عيد‭ ‬الأضحى،‭ ‬وكأن‭ ‬الحاكم‭ ‬الجزائري‭ ‬صاحب‭ ‬القرار‭ ‬استبدل‭ ‬الأضحية‭ ‬بضحية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أخطأ‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬الآية‭ ‬القرآنية‭ ‬المنزلة‭ ‬على‭ ‬سيدنا‭ ‬إبراهيم‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬(سورة‭ ‬الصافات‭ ‬الآيات‭ ‬104‭ ‬إلى‭ ‬107).

لن‭ ‬يغفر‭ ‬المغاربة‭ ‬بل‭ ‬والجزائريون‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء،‭ ‬لحكام‭ ‬الجزائر‭ ‬فعلتهم‭ ‬التاريخية‭ ‬الدنيئة‭ ‬«المسيرة‭ ‬الكحلة»‭ ‬وحكمهم‭ ‬الجائر‭ ‬بحق‭ ‬كل‭ ‬مواطن‭ ‬مغربي‭ ‬شملهم‭ ‬الطرد،‭ ‬كبيرا‭ ‬أو‭ ‬صغيرا‭ ‬رجلا‭ ‬أو‭ ‬امرأة‭ ‬طفلا‭ ‬أو‭ ‬شابا‭ ‬أو‭ ‬شيخا،‭ ‬صادفه‭ ‬حظه‭ ‬العاثر‭ ‬العيش‭ ‬ببلد‭ ‬شقيق‭ ‬جار‭ ‬عربي‭ ‬أمازيغي‭ ‬مسلم،‭ ‬اسمه‭ ‬الجمهورية‭ ‬الجزائرية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الشعبية/‭ ‬تسمية،‭ ‬والجمهورية‭ ‬العسكرية‭ ‬الاستبدادية‭ ‬واقعيا،‭ ‬فلو‭ ‬أنها‭ ‬فعلا‭ ‬كانت‭ ‬ديمقراطية‭ ‬شعبية‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬لمثل‭ ‬هذا‭ ‬القرار‭ ‬الانفرادي‭ ‬أن‭ ‬يصدر‭ ‬دونما‭ ‬تفحيص‭ ‬وتمحيص‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬دوائر‭ ‬تدبير‭ ‬الشأن‭ ‬العام،‭ ‬ولكن‭ ‬حيث‭ ‬الاستبداد‭ ‬والسلطوية‭ ‬والعسكر‭ ‬يسود،‭ ‬فمثل‭ ‬هكذا‭ ‬قرار‭ ‬منتظر‭ ‬صدوره‭ ‬بجرة‭ ‬قلم‭ ‬دون‭ ‬عناء‭ ‬ضمير‭ ‬أو‭ ‬حس‭ ‬بالمسؤولية،‭ ‬بحكم‭ ‬حجم‭ ‬وتبعات‭ ‬القرار‭ ‬وكلفته‭ ‬السياسية‭ ‬والإنسانية‭ ‬والتاريخية‭.‬

كان‭ ‬نونبر‭ ‬1975‭ ‬شهرا‭ ‬أبيضا‭ ‬ناصعا‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬المغرب،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الشعب‭ ‬المغربي‭ ‬وعاهله‭ ‬يعيشون‭ ‬فرحة‭ ‬استرجاع‭ ‬الأقاليم‭ ‬الجنوبية،‭ ‬بعد‭ ‬صدور‭ ‬الرأي‭ ‬الاستشاري‭ ‬لمحكمة‭ ‬العدل‭ ‬الدولية‭ ‬بلاهاي‭ ‬وبعد‭ ‬إعلان‭ ‬المغفور‭ ‬له‭ ‬الحسن‭ ‬الثاني‭ ‬عن‭ ‬قراره‭ ‬بتنظيم‭ ‬المسيرة‭ ‬الخضراء‭ ‬يوم‭ ‬السادس‭ ‬من‭ ‬نوفمبر،‭ ‬ودعوة‭ ‬350‭ ‬ألف‭ ‬مغربي‭ ‬لتخطي‭ ‬الحواجز‭ ‬الحدودية‭ ‬للاستعمار‭ ‬الاسباني‭ ‬واسترجاع‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬التراب‭ ‬الوطني‭ ‬بالصحراء‭ ‬سلميا،‭ ‬لكن‭ ‬نوفمبر‭ ‬آخر‭ ‬كان‭ ‬يصنع‭ ‬بالجزائر،‭ ‬لونه‭ ‬أسود،‭ ‬حين‭ ‬عزم‭ ‬الرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬هواري‭ ‬بومدين‭ ‬أن‭ ‬يُسود‭ ‬أو‭ ‬يُلطخ‭ ‬وجهـه‭ ‬أمـام‭ ‬التـاريخ،‭ ‬بمـا‭ ‬رأى‭ ‬فيـه‭ ‬محاولة‭ ‬لعرقلة‭ ‬خطة‭ ‬الملك‭ ‬الحسن‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬انطلاق‭ ‬المسيرة‭ ‬الخضراء‭ ‬ب‭ ‬«المسيرة‭ ‬الكحلة»‭ ‬بطرد‭ ‬مواطنين‭ ‬مغاربة‭ ‬أبرياء‭ ‬من‭ ‬الجزائر،‭ ‬سَوّد‭ ‬بها‭ ‬أيضا‭ ‬سماء‭ ‬العلاقات‭ ‬المغربية‭ ‬الجزائرية‭ ‬وحكم‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬العلاقات‭ ‬وعلى‭ ‬المنطقة‭ ‬المغاربية‭ ‬برمتها‭ ‬بالصراع‭ ‬والخصام‭ ‬والمعارك‭ ‬لما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬50‭ ‬عاما،‭ ‬هكذا‭ ‬فعل‭ ‬زرع‭ ‬لغما‭ ‬ورحل‭ ‬ليخلفه‭ ‬جيل‭ ‬من‭ ‬الجنرالات‭ ‬حكموا‭ ‬الجزائر‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬سار‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬أُرغِم‭ ‬على‭ ‬السير‭ ‬على‭ ‬نهجه‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭. ‬

هذا‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬أريد‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬أسودا‭ ‬مع‭ ‬حلول‭ ‬نوفمبر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام،‭ ‬فالذاكرة‭ ‬يستعصي‭ ‬عليها‭ ‬النسيان‭ ‬وستظل‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬غياب‭ ‬عودة‭ ‬الحق‭ ‬لأصحاب،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تتحقق‭ ‬عدالة‭ ‬السماء‭ ‬والأرض‭ ‬بحق‭ ‬حكام‭ ‬جزائر‭ ‬رحلوا‭ ‬يحملون‭ ‬معهم‭ ‬جرمهم‭ ‬البشع،‭ ‬وحكام‭ ‬حاليين‭ ‬لازالوا‭ ‬يتنكرون‭ ‬ويتجاهلون‭ ‬ما‭ ‬اقترفته‭ ‬بلادهم‭ ‬ومن‭ ‬حكمها‭ ‬بالأمس‭ ‬من‭ ‬مأساة‭ ‬ظلت‭ ‬عالقة‭ ‬كبصمة‭ ‬ملوثة‭ ‬في‭ ‬جبين‭ ‬الجزائر‭ ‬التي‭ ‬تتملص‭ ‬من‭ ‬فظاعة‭ ‬جرمها،‭ ‬وجرح‭ ‬يدمي‭ ‬قلوب‭ ‬مغاربة‭ ‬الجزائر‭ ‬خاصة‭ ‬والمغاربة‭ ‬قاطبة،‭ ‬إننا‭ ‬نعيش‭ ‬كأننا‭ ‬نتذكر،‭ ‬ونتذكر‭ ‬كأننا‭ ‬نعيش،‭ ‬نعيش‭ ‬مع‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الحاضر‭ ‬بآلامه‭ ‬وحسراته‭ ‬وشجونه،‭ ‬فالذاكرة‭ ‬قعر‭ ‬بلا‭ ‬نهاية‭ ‬والمأساة‭ ‬كابوس‭ ‬حاضر‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لانهاية‭. ‬

فمن‭ ‬هو‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬حجب‭ ‬هذه‭ ‬الذاكرة‭ ‬المغربية‭ ‬ويمنعها‭ ‬من‭ ‬ترديد‭ ‬صراخها‭ ‬ومطالبها‭ ‬بالإنصاف‭ ‬والاعتراف‭ ‬والاعتذار،‭ ‬يعتقد‭ ‬حكام‭ ‬الجزائر‭ ‬أن‭ ‬ملفا‭ ‬ملوثا‭ ‬صنعوه‭ ‬بأيديهم‭ ‬محاه‭ ‬التاريخ‭ ‬ولم‭ ‬يتركوا‭ ‬للأجيال‭ ‬الحاضرة‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬أو‭ ‬ذكرى،‭ ‬فساد‭ ‬لديهم‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التوهم‭ ‬المَرَضي‭ ‬بالنسيان‭ ‬والإفلات‭ ‬من‭ ‬العدالة‭ ‬والإنصاف،‭ ‬وكأنهم‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬التاريخ،‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الكائن‭ ‬المنصف‭ ‬الحقاني‭ ‬الشاهد‭ ‬المُوَثق‭ ‬الواثق‭ ‬الموثوق،‭ ‬فوصمة‭ ‬عار‭ ‬نوفمبر‭ ‬75‭ ‬ليست‭ ‬ماضيا‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬حاضر‭ ‬بعنوان‭ ‬عريض‭ ‬مفتوح‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الجبهات‭ ‬سياسيا‭ ‬قانونيا‭ ‬قضائيا‭ ‬إنسانيا‭ ‬أخلاقيا‭ ‬وحقوقيا،‭ ‬فهناك‭ ‬جيل‭ ‬جديد‭ ‬من‭ ‬الأبناء‭ ‬والأحفاد‭ ‬البررة‭ ‬الأوفياء‭ ‬حمل‭ ‬معه‭ ‬رسالة‭ ‬ووصية‭ ‬الآباء‭ ‬«يا‭ ‬بني‭ ‬أوصيك‭....‬»‭ ‬وضعها‭ ‬على‭ ‬عاتقه‭ ‬كمسؤولية‭ ‬جسيمة‭ ‬لكي‭ ‬يواصل‭ ‬نضاله‭ ‬لرفع‭ ‬صوت‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الظلم‭ ‬والقهر‭ ‬والغطرسة‭ ‬والحماقة‭ ‬الجزائرية‭ ‬المستمرة‭ ‬بين‭ ‬الأمس‭ ‬واليوم‭.‬

لم‭ ‬تحسن‭ ‬الجزائر‭ ‬تقدير‭ ‬الأبعاد‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬ستأخذها‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬العادلة،‭ ‬ففي‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المناسبة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬ومنذ‭ ‬بزوغ‭ ‬فجر‭ ‬الثامن‭ ‬من‭ ‬نوفمبر‭ ‬،‭ ‬يتدفق‭ ‬لدى‭ ‬ضحايا‭ ‬الطرد‭ ‬سيل‭ ‬عارم،‭ ‬سيل‭ ‬من‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬عاهة‭ ‬نفسية،‭ ‬سيل‭ ‬من‭ ‬يطالبونها‭ ‬بالإنصاف‭ ‬والاعتذار‭ ‬واستعادة‭ ‬الحقوق‭ ‬والتصالح‭ ‬مع‭ ‬الماضي،‭ ‬عله‭ ‬يغفر‭ ‬لحكامها‭ ‬الأحياء‭ ‬منهم‭ ‬والأموات‭.‬

يجب‭ ‬الاعتراف‭ ‬بأن‭ ‬القضية‭ ‬بخلفياتها‭ ‬وتداعياتها‭ ‬وتركيبتها‭ ‬لا‭ ‬تحظى‭ ‬بقسط‭ ‬وافر‭ ‬من‭ ‬الاهتمام‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الوطني‭ ‬رسميا‭ ‬/‭ ‬دبلوماسيا‭ ‬أو‭ ‬حزبيا‭ ‬أو‭ ‬مجتمعا‭ ‬مدنيا‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬إعلاميا،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬حسن‭ ‬حظ‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬جيلا‭ ‬من‭ ‬الكفاءات‭ ‬والأطر‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬العائلات‭ ‬المطرودة،‭ ‬أخذ‭ ‬مبكرا‭ ‬على‭ ‬عاتقه‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬فأسس‭ ‬لها‭ ‬وصان‭ ‬ذاكرتها‭ ‬وسعى‭ ‬لتوثيقها‭ ‬قدر‭ ‬المستطاع،‭ ‬وحافظ‭ ‬على‭ ‬رموزها‭ ‬وضحاياها‭ ‬وسجل‭ ‬أطوارها‭ ‬وخرج‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬خارج‭ ‬الحدود‭ ‬متجولا‭ ‬بها‭ ‬عبر‭ ‬عدة‭ ‬عواصم‭ ‬ومنابر‭ ‬دولية‭ ‬تعنى‭ ‬بهذا‭ ‬الصنف‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬الحقوقية‭ ‬والإنسانية،‭ ‬فوضع‭ ‬أمامنا‭ ‬اليوم‭ ‬سجلا‭ ‬غنيا‭ ‬وأرشيفا‭ ‬موثقا‭ ‬حافلا‭ ‬بكل‭ ‬التفاصيل‭ ‬الدقيقة‭ ‬للملف،‭ ‬بشكل‭ ‬يزعج‭ ‬الجلاد‭ ‬ويُطمئن‭ ‬الضحية‭.‬

فلا‭ ‬خيار‭ ‬للضحايا‭ ‬سوى‭ ‬صياغة‭ ‬بداية‭ ‬جديدة،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مناسبة،‭ ‬تليق‭ ‬بالموتى‭ ‬والأحياء‭ ‬منهم‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬حالة‭ ‬الانتفاض‭ ‬ضد‭ ‬الغاشم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬بقاء‭ ‬القضية‭ ‬حاضرة‭ ‬ملتهبة‭ ‬مستعصية‭ ‬على‭ ‬الكتمان‭ ‬قاهرة‭ ‬للنسيان،‭ ‬فالجميع‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬الحساب‭ ‬والمحاسبة‭ ‬الذي‭ ‬أعتقد‭ ‬أنه‭ ‬تحول‭ ‬أو‭ ‬سيتحول‭ ‬عبئا‭ ‬ثقيلا‭ ‬على‭ ‬حكام‭ ‬الجزائر‭.‬

بالرغم‭ ‬من‭ ‬المسافات‭ ‬البعيدة‭ ‬التي‭ ‬تفصلنا‭ ‬عن‭ ‬نوفمبر‭ ‬1975،‭ ‬والتي‭ ‬تحملنا‭ ‬على‭ ‬التكرار‭ ‬لأن‭ ‬المسالة‭ ‬تستحق‭ ‬أن‭ ‬تثار‭ ‬وبصرخة‭ ‬مدوية‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬الضرر‭ ‬الجسيم‭ ‬الذي‭ ‬خلفه‭ ‬النظام‭ ‬الجزائري‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬مغاربة‭ ‬استقروا‭ ‬بالجزائر‭ ‬دافعوا‭ ‬عنها‭ ‬تضامنوا‭ ‬مع‭ ‬شعبها‭ ‬أوقات‭ ‬المحنة‭ ‬تقاسموا‭ ‬معهم‭ ‬آلام‭ ‬وتنكيل‭ ‬المستعمر‭ ‬الفرنسي‭ ‬ذهب‭ ‬منهم‭ ‬شهداء‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬التحرير،‭ ‬لكن‭ ‬لم‭ ‬يشفع‭ ‬لهم‭ ‬هذا‭ ‬الرصيد‭.‬

الموقف‭ ‬اليوم‭ ‬يتطلب‭ ‬تعبئة‭ ‬وطنية‭ ‬ودولية،‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬ضحايا‭ ‬هذا‭ ‬الجرم‭ ‬الجزائري،‭ ‬وكشف‭ ‬الوجه‭ ‬البشع‭ ‬لهذا‭ ‬النظام‭ ‬والمطالبة‭ ‬دوليا‭ ‬بإنصاف‭ ‬ذوي‭ ‬الحقوق‭ ‬والاهتمام‭ ‬بملفهم،‭ ‬الحوار‭ ‬مع‭ ‬الجزائر‭ ‬لا‭ ‬يُجْد‭ ‬نفعا‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬المستويات،‭ ‬لذلك‭ ‬يتطلب‭ ‬الموقف‭ ‬من‭ ‬حاملي‭ ‬لواء‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭ ‬مواصلة‭ ‬الكفاح‭ ‬بممارسة‭ ‬ضغط‭ ‬متزايد‭ ‬وطرح‭ ‬المعضلة‭ ‬الإنسانية‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬الإلحاح‭ ‬دفاعا‭ ‬عن‭ ‬أناس‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬الأحداث‭ ‬والوقائع‭ ‬قد‭ ‬أنهكتهم،‭ ‬فإن‭ ‬الصبر‭ ‬لم‭ ‬ينهكهم‭ ‬الصبر‭ ‬والإصرار‭ ‬والإرادة‭ ‬والعزيمة‭ ‬تظل‭ ‬فرصتهم‭ ‬الأخيرة،‭ ‬التي‭ ‬تقض‭ ‬بها‭ ‬مضجع‭ ‬حكام‭ ‬الجزائر‭

وفي‭ ‬سياق‭ ‬متصل،‭ ‬وبغية‭ ‬تسليط‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭ ‬المعلق،‭ ‬انعقدت‭ ‬عصر‭ ‬يوم‭ ‬11‭ ‬دجنبر‭ ‬الجاري،‭ ‬بمقر‭ ‬أرشيف‭ ‬المغرب‭ ‬بالرباط،‭ ‬ندوة‭ ‬“حفظ‭ ‬ذاكرة‭ ‬مغاربة‭ ‬الجزائر”،‭ ‬نظمها‭ ‬التجمع‭ ‬الدولي‭ ‬لدعم‭ ‬العائلات‭ ‬ذات‭ ‬الأصل‭ ‬المغربي‭ ‬المطرودة‭ ‬من‭ ‬الجزائر‭ ‬بالتعاون‭ ‬مع‭ ‬مجلس‭ ‬الجالية‭ ‬المغربية‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬والمنظمة‭ ‬المغربية‭ ‬لحقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬قدمت‭ ‬خلالها‭ ‬عروض‭ ‬ومداخلات‭ ‬لممثلي‭ ‬هذه‭ ‬التنظيمات‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬أساتذة‭ ‬وطلبة‭ ‬باحثين‭. ‬

وهي‭ ‬مناسبة‭ ‬تم‭ ‬الكشف‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬تجميع‭ ‬16‭ ‬ألف‭ ‬كلغم‭ ‬من‭ ‬الورق،‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬أرشيف‭ ‬هذا‭ ‬الملف،‭ ‬سلمت‭ ‬إلى‭ ‬مدير‭ ‬أرشيف‭ ‬المغرب،‭ ‬وقد‭ ‬أجمعت‭ ‬المداخلات‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬تستحق‭ ‬بالغ‭ ‬الرعاية‭ ‬والاهتمام‭ ‬والالتفات‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬له‭ ‬صلة‭ ‬بتدبير‭ ‬هذا‭ ‬الملف:‭ ‬سلطات،‭ ‬أحزاب،‭ ‬نقابات،‭ ‬مجتمع‭ ‬مدني،‭ ‬إعلام‭ ‬وكذلك‭ ‬الجامعات‭ ‬للبحث‭ ‬الأكاديمي‭ ‬الجدي‭ ‬والعميق‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬حيف‭ ‬وجور‭ ‬طالت‭ ‬مغاربة‭ ‬الجزائر‭ ‬بعدما‭ ‬ساد‭ ‬الصمت‭ ‬لسنوات‭ ‬طوال‭ ‬الذي‭ ‬كاد‭ ‬يهمش‭ ‬الموضوع‭ ‬ويقلل‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬ويضعه‭ ‬على‭ ‬الرف‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬الندوة‭ ‬لفتت‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬جوانب‭ ‬القصور‭ ‬التي‭ ‬تعتري‭ ‬تدبير‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭ ‬والصعوبات‭ ‬التي‭ ‬تعترض‭ ‬المشرفين‭ ‬على‭ ‬مواصلة‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬قضية‭ ‬من‭ ‬تنظيمات‭ ‬وأشخاص‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬وأحفاد‭ ‬العائلات‭ ‬المشمولة‭ ‬بالترحيل‭ ‬ومهتمين‭ ‬وتوحيد‭ ‬جهودهم،‭ ‬وقد‭ ‬تم‭ ‬التركيز‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬أهمية‭ ‬التوثيق‭ ‬وجمع‭ ‬المعلومات‭ ‬والمعطيات‭ ‬والأوراق‭ ‬الإدارية‭ ‬والمراسلات‭ ‬والقصاصات‭ ‬الصحفية‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬هذه‭ ‬الفاجعة‭ ‬في‭ ‬حينه،‭ ‬كما‭ ‬تمت‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬العمل‭ ‬المتواصل‭ ‬لتحسيس‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬الوطني‭ ‬والدولي‭ ‬بهذه‭ ‬القضية‭ ‬التي‭ ‬خرق‭ ‬في‭ ‬حكام‭ ‬الجزائر‭ ‬قواعد‭ ‬حسن‭ ‬الجوار‭ ‬والقانون‭ ‬الدولي‭ ‬والقانون‭ ‬الإنساني،‭ ‬والتأكيد‭ ‬على‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬ملف‭ ‬حقوقي‭ ‬بامتياز،‭ ‬تتحمل‭ ‬فيه‭ ‬الدولة‭ ‬الجزائرية‭ ‬وحدها‭ ‬المسؤولية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تعترف‭ ‬لحد‭ ‬الآن‭ ‬بجريمتها‭.‬
 
محمد بنمبارك/ دبلوماسي سـابق