صحيح جدا ان الحق في الاضراب غير منصوص عليه بصريح العبارة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يخلد العالم في هذه الأيام ذكراه 75. وإنما يستنبط من المواد المتعلقة بالحق في التجمع وفي الاحتجاج السلمي، كما وردت في المادتين 21 و22 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
وصحيح كذلك انه ليس هناك أي صك أممي صادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أو إحدى وكالاتها المتخصصة تناول الحق في الإضراب بشكل مجرد. فحتى العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسنة 1966 عندما تناول الحق في الإضراب تناوله في سياق المادة الثامنة وربطه بضمان حرية تأسيس النقابات وممارسة نشاطها التأطيري للأجراء بما فيها إمكانية اللجوء إلى الإضراب. كما ان الاتفاقية 87 لمنظمة العمل الدولية لسنة1948 المتعلقة بالحرية النقابيّة وحماية الحق النقابي لم تشر إلى الاضراب، وانما خبراء هذه المنظمة الدولية أسّسوا هذا الحق على إيحاءات المواد 2 .3 . 8 و10 من الاتفاقية.
وكما يعلم البعض فان منظمة العمل الدولية أحدثت سنة 1919 وتتركب من ممثلي الحكومات ومنظمات اصحاب العمل ونقابات العاملين. وبالتالي طبيعيا انه من حين لآخر يثار بين الأطراف داخل المنظمة، خاصة بين لجنة المعايير ولجنة الخبراء، نقاش حول موضوع الاضراب. لكن اعتقد ان اخطر نقاش حول الموضوع كان في سنة 2012 عندما اعتبر ممثلو النقابات بمنظمة العمل الدولية انهم سجلوا محدودية ممارسة حق الاضراب على المستوى الدولي فكان الرد قويا من ممثلي الباطرونا عندما تساءلوا اين هو الإطار المعياري الدولي الذي يبيح اللجوء إلى الاضراب أصلا ؟.
مناسبة هذا الكلام هو للتأكيد ان الاضراب هو امر في غاية الأهمية، لا تؤطره فقط المصالح الفئوية المشروعة للعاملين، ولهذا المشرع العالمي اعطى حق اللجوء اليه إلى الهيئات النقابية حصريا وأوكل اليها مسؤولية تأطير العاملين وتنظيمهم والسمو بوعيهم الجماعي من اجل رفع الأداء بالمؤسسة الإنتاجية سواء كانت ادارية أوتجارية من القطاع العام أو الخاص على السواء وكذلك لأن المنظومة الدولية تعتبر النقابة شريك اجتماعي فريد وأساسي.
ولا زلت أتذكر عند إنجازي في أواسط الثمانينات لبحث الإجازة حول "العمل النقابي في ظل شروط الأزمة بالمغرب "قال لي الدكتور عبد المجيد بوزبع وهو حينها الرجل الثاني بعد نوبير الأموي في الكنفدرالية الديمقراطية للشغل رحمهما الله معا.
إن النقابة وجدت لتحافظ على العمل، اللائق طبعا، وتقديسه لأنه هو رأسمال الأجراء والقيمة المثمنة للموارد البشرية والمنتج للتنمية الشاملة وأضاف وتضحية النقابي الحقيقي تكون من اجل الحفاظ على هذا الرأسمال اولا وتثمينه ثانيا وثالتا استفادة أطراف الإنتاج من عائده. أين نحن من هذا الكلام الذي مر عليه الآن أربعون سنة تقريبا .
بالعودة إلى سياقنا الوطني فحق الاضراب منصوص عليه في كل الدساتير منذ1962
ومنذ ذلك التاريخ وهو مشروط بصدور قانون ينظمه. وفي تقديري فقد أخطأت الأطراف الثلاث المعنية بالموضوع اي الحكومة وارباب العمل والنقابات في رهاناتهم. فكل طرف راهن على لحظة ضعف الطرف الآخر للحديث عن تنظيم حق الاضراب وذلك لتحقيق مكاسب وهمية، وكأن المجتمع جامد لا يتحرك وينتظر الضوء الأخضر من هذا او ذاك ليبدع صيغه مادام الطبيعة تكره الفراغ .
وبقدر ماكانت رهانات الأطراف صغيرة كان المارد يكبر ويكبر في صمت وبعيدا عن الأضواء. وكم من إشارة لاحت في حينها ولا من منتبه اليها. أُغلقت معامل وافلست مؤسسات بفعل حركات عشوائية نتيجة اما تهور طرفا الإنتاج أوحدهما مع تلكئ الادارة في غالب الاحيان، واسألوا الوزير جمال أغماني ماذا وقع بسلا والبيضاء حين تبخرت في الهواء آلاف مناصب الشغل.
فها هو المارد قد خرج من القمقم وهاهي الحكومة أصبحت تريد الحوار وتدعوا اليه والنقابة ليس لها ما تقايض به، وهي في وضع الشفقة. ماذا ربحت الحكومات من إضعاف النقابات؟ وماذا استفاد اصحاب العمل من تجاهل النقابيين او التضييق عليهم؟ وماهي مسؤولية النقابات فيما اوصلت نفسها إليه؟ حتى اصبح زعماء النقابات رجال الأعمال والبعض الآخر من رجال الأعمال نقابيون .
ان الاضراب اجراء من مسؤولية الهيئات النقابيّة، وهو ليس قفزة في الهواء، فحتى وان حقق مطالب آنية، فسرعان ما ستتبخر عندما سينصرف كل إلى حاله وعمله.
فالباطرونا بما تملكه من وسائل انتاج، والحكومة بما لها من آليات التشريع والتقنين والقوة لا يمكن التناظر معهما إلا بهيئات نقابية منظمة ذات تمثيلية حقيقية لا تعمل بشكل موسمي .
الان ومشروع قانون الاضراب وقد عرض من طرف الحكومة السابقة على البرلمان وهي لم تكن تملك جرأة استكمال مساره، لأنه لم يتم التوافق حوله مع باقي الشركاء كما هو التقليد في بلادنا في كل النصوص المماثلة.
توافق المغاربة على مدونة الشغل سنة 2004 وتوافقوا على قانون حوادث الشغل والأمراض المهنية، ونظام التقاعد وغيره من النصوص فلماذا لا يتوافقون على قانون الإضراب؟
وفي الأخير فالمطلوب من الحكومة الحالية اما سحب المشروع من البرلمان والتشاور بشأنه وهذا سيكون عين العقل، وأما دعوة مجلس النواب الى برمجة مناقشته؟
كما ان على بعض النقابات ان لا تربط التوافق على مشروع قانون الاضراب، بالتوافق على مشروع النقابات. احميني في الثاني أتساهل معك في الأول.
فالمغرب الحالي أكبر من ذلك بكثير..