مفكرون مغاربة يتحدثون عن "الزمن الجميل": الروائي والإعلامي العراقي فاتح عبد السلام.. من المستحيل جلب الماضي وإعادة تصنيعه..

مفكرون مغاربة يتحدثون عن "الزمن الجميل": الروائي والإعلامي العراقي فاتح عبد السلام..  من المستحيل جلب الماضي وإعادة تصنيعه.. الإعلامي العراقي فاتح عبد السلام
نشرت جريدة "العلم الأسبوعي" ملفا من إنجاز "الزميل عبد العزيز كوكاس" حول "الزمن الجميل"، شارك فيه مفكرون وباحثون في شتى مجالات المعرفة وأشكال التعبير، حيث فكك كل واحد منهم معنى "الزمن الجميل". كما رصدوا، كل من مجال اهتمامه، تحولات القيم وتغيرات البنيات الفكرية والسياسية والأخلاقية، فضلا عن الاختراق الذي تم على التمثلات الجماعية والسلوك العام.. (هل الماضي زمن جميل دائما؟ ما حدود النوستالجيا وما حدود النقد للماضي؟ هل هناك شعور عام بالاستقرار أم بالتحول؟ هل يمكن الاستكانة إلى الاستقرار في عالم دائم التحول؟).
تلك هي أهم الأسئلة التي حاول هؤلاء المفكرون الإجابة عنها في هذا الملف الذي تنشره "أنفاس بريس" في حلقات:
 
كل زمن يتوافر في عمقه على الماضي، وما دامت الحياة تسير الى الأمام فإنها تخلف وراءها ماضيا باستمرار، إذ بالنسبة للروائي والإعلامي العراقي فاتح عبد السلام خضعت الهويات لتطور المفهوم، فالماضي يجري تناوله بوصفه الحاضنة التي تحفظ الهوية دون سواها، في حين أن كل زمن يتوافر في عمقه على الماضي، وهذا يؤدي برأيه في العالم العربي إلى استغراق خطير في الماضي له تبعاته على حاضرنا ومستقبلنا
يبدو أننا لا نمل من مديح الماضي "الأشياء لم تعد جميلة كما كانت من قبل"، "أيام العز" و"الزمن الجميل"، في السياسة والقيم المجتمعية كما في الثقافة والفن وفي جميع مناحي الحياة، هل بالفعل ماضينا الفردي والجماعي كان أفضل من حاضرنا؟
في كل حقبة زمنية نجد هناك مَن يقول إنّ الماضي كان أجمل، في السياق الذاتي اللحظوي او الأيديولوجي المستمر. ثمّة طبيعة في النفس البشرية في عدم الرضا الفطري من جهة وعدم الرضا الفكري من جهة أخرى. كما أن مواجهة الحاضر تعني الانفتاح على مواجهة المستقبل ذلك أننا في استقبال قدري لا مفر منه للزمن الآتي بما يحمله من مستجدات في كل شيء، وحين تختلف القناعات، ويشعر الإنسان أن ما كان يمتلكه في تكوينه ومجموع فواعل كيانه البشري لا تستطيع أو لا ترغب في مواكبة هذا الزمن المتدفق نحونا كقدر حتمي، لا يكون أمامه سوى اللجوء الى الماضي للمقارنة والتأسي، لكن مع تقدم النظريات الفكرية في مجالات الأيديولوجيا والمجتمع، بات الماضي مجالا للمحاكاة والتقليد والاستحضار بكل ما يحمله من زمن ماضوي من المستحيل جلبه وإعادة تصنيعه ليقف في صراع وجود مع زمن يتدفق نحونا أو نتدفق بوجودنا نحوه.
في مثال اجتماعي حياتي، كنت أستمع اليوم الى قصيدة للشاعر المصري نجيب سرور في بداية سبعينيات القرن الماضي يتحدث فيها عن توظيف الغلاء المعيشي لكسر إرادة المواطن، وكان في معطاه التوظيفي في النص يستند الى ذاكرة حية للملايين حول طبيعة الحياة في سنوات سبقت ذلك الزمن لا تتوافر على هذا "الغلاء" المستحضر في هذا النص، لكن هذا لا يعني ان ذلك الزمن لم يكن له غلاؤه الذي يريد أن يفر الى زمن ما قبله. 
هل هذا الأمر تعبير عام لدى كل الشعوب وفي كل الأزمنة، حيث يُمكن الحديث عن الماضي بشكل إشراقي مساعدة الناس على حفظ هويتهم، بدل التغيرات الجارفة للزمن، أم هو خصيصة عربيا يمنحنا شعورًا بالاستقرار والسعادة في عالم دائم التغير.. في كلا الحالتين ما خلفياته النفسية والسوسيولوجية؟
خضعت الهويات لتطور المفهوم، فالماضي يجري تناوله بوصفه الحاضنة التي تحفظ الهوية دون سواها، في حين أن كل زمن يتوافر في عمقه على الماضي، وما دامت الحياة تسير إلى أمام فإنها تخلف وراءها ماضيا باستمرار على نحو تراكمي وكمي ومختلط وغير منقى وهجين وملتبس وخلافي أيضاً، ومن ثم فإن الاستغراق في هذا المفهوم من الماضي إنما هو تغييب، يطبع الهوية العربية مع الأيام بالانغلاق الحتمي المقاوم لكل نزعات التجديد والانفتاح.
هل هذا الإحساس يبدو مشتركا بين عامة الناس كما خاصتهم، جلنا نتحدث بسعادة عن الزمن الجميل وأيام العز كما لو أن ذاكرتنا تخفي الجراح والأيام غير السعيدة في الماضي؟
هناك فجوة او مساحة في النفس الإنسانية لكل واحد منّا، تشتغل فيها الذاكرة على نحو استحضاري وإنتاجي انتقائي بما يوائم الوضع النفسي والموقف الحياتي والاجتماعي الذي صار إليه الإنسان. فالمرء يعيد إنتاج الماضي دون أن يشعر حين يكون في حاجة ماسة لتضميد جراح الحاضر.
بالنسبة لك كمبدع هاجر قسرا بلاده العراق حيث تعيش في بلاد الغربة بلندن قد يكون لك تعلق أقوى بالماضي، أيام العز والزمن الجميل، قد تكون أكثر استدعاء للماضي من العراقيين في الداخل؟
على الصعيد الإبداعي، يشغلني الماضي بشكل تحفيزي، وربما استفزازي أحيانا، من حيث أدري ولا أدري. عندما كنت أعيش داخل بلدي قبل الهجرة منذ نهاية التسعينيات من القرن الماضي، كانت سطوة الحاضر قوية بما تجعل الأبعاد الزمنية الأخرى غير ذات فاعلية كبيرة، ولعل الحاضر كانت تشوبه نزعة التطلع إلى الزمن الآتي، المستقبل، الذي مرت على مفهومه سنوات من الإحباط الشديد، حتى يكاد المرء في زمن الحروب التي أنتجت تجربتي وولادتي الإبداعية في أغلبها، يظن انّ هناك عقبة زمنية متحجرة يمكث عندها غير قادر على إزاحتها والمضي إلى الأمام.
وتكرّسَ الحال في فترة الحصار بعد حرب قاسية استمرت ثماني سنوات (بين العراق وإيران) وهو زمن حرب حقيقي في كل تفاصيله اليومية، ثم أعقبته حرب مع القوة الأكبر في العالم التي كنا نسمع عنها ولا ندرك وضعها حتى بدأت القنابل تنهمر علينا في المدن بلا هوادة، لاسيما على بعد تسعمائة أو سبعمائة أو أربعمائة كيلومتر من خط النار الذي كان من الناحية النظرية على حدود العراق الكويت 1991.
بعد ذلك جاء زمن الخنق وتدمير الأمل في حصار دولي، لا أظن اأّ مواطنا عربيا عاش هذه التجربة المرة، سوى العراقيين ولفترة امتدت من العام 1990 وحتى اندلاع حرب احتلال العراق بشكل رسمي في العام 2003.
في روايتي (عندما يسخن ظهر الحوت)1993، كان هناك تزاوج بين الخيال العلمي والروح الصوفية لدى شخصيات هي نتاج حربين، وغلبت أيضا روح استشراف الآتي. وفي روايتي (اكتشاف زقورة)2000 كانت الشخصية الروائية داخل النص قد علقت بطين من تاريخ عراقي قديم اندفع الى السطح، وهو مفهوم زمني، أو أنّ ذلك السطح "الزمني" الذي يمثل حطام الحاضر وما يظهر منه انخسف الى الأعماق الزمنية بحثاً عن قيمة رمزية للنجاة، في فترة كان فيها كل شيء ما يغرق. ولعل قصص مجموعة (حليب الثيران)2000 كانت تشققات مخاض الزمن الحاضر المستمر الذي ليست له نهاية، وفيه استحالة حتمية، ولعل عنوان المجموعة اختصرها.
بعد أكثر من عقد من الزمن، كتبت مجموعتي (عين لندن)، وقد أصبحت عدسة الرائي والراوي أكثر ارتفاعاً وأدق حذراً في الاقتناص، وأوفر تقديراً لقياس المسافات الزمنية من حيث الغربة التي باتت قارّة في لندن. في تلك الفترة الممتدة ما بين 2010 و2020 كنتُ مهموما بكتابة روايتي (الطوفان الثاني) التي يعمل الماضي في كل جزء فيها مُولدًا تحفيزياً، بما يمكن تسميته "موتيف الحاضر". وعنيت الراوية بانشطار الروح الإنسانية بين أنواع جديدة من الماضي، منه ما هو حلمي غير مرئي أو ماض معاش لكنه مستحيل الاستعادة، وبين حاضر متفجر عبر نتائج حرب كونية حدثت في ذات البقعة المدمنة للحروب، وكانت شظاياها منغرزة في عقل كل إنسان قبل جسده، وكنت أواجه تلك المحاولات العقيمة في تناول جانب من شخصية في منظور زمني ظناً أنه يكفي لمنحها الضوء المناسب للظهور، لذلك كان الماضي عاملاً توليدياً حاضراً في كل بُعد، وهذا ينطبق على قصص مجموعتي (قطارات تصعد نحو السماء 2019).
كيف يمكن ان ينظر روائي الى" معنى" الماضي وهو ذاته نتاج مخاض عايش فيه ثلاثة حروب وحصاراً قاسياً.