الروائي يحيى يخلف يكتب عن الشاعر سميح القاسم..النموذج والأمثولة

الروائي يحيى يخلف يكتب عن الشاعر سميح القاسم..النموذج والأمثولة
 

رحل سميح القاسم بعد حياة حافلة بالشعر والكفاح وحب الوطن وحب الحياة، وعلى خطى نبضات ودقات قلب الأرض مشى في دروب الحرية، ونثر على الطريق صرخته وناره ورسائل عشقه وصدى غضبه واشتباكه مع المحتل مقرنا الكلمة بالممارسة، رابطا القول بالعمل، والإبداع بالفعل، محملا الكلمة أكثر مما تحتمل الحروف، وكعبد الرحيم محمود وإبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي وغسان كنفاني ومحمود درويش ومعين بسيسو وعشرات غيرهم ضبط خطواته على خطى الفدائيين والمقاومين ولهب الكفاح المسلح والشعبي، فكان الشعر الفلسطيني جزءا من أدبيات الثورات الفلسطينية المتعاقبة، من ثورة 1936 حتى المقاومة الباسلة في غزة، وخلق مع رفاقه المبدعين في مطلع الستينيات من القرن الماضي ظاهرة فريدة في الأدب العربي هي ظاهرة أدب المقاومة، ظاهرة لم تكن موجودة بشكلها ومضمونها اللذين وصلا إلينا، فمثَل ذلك إضافة نوعية أغنت المحتوى الكفاحي والتحرري في الفكر والثقافة العربيين. تحلى سميح بسلوك اتسم بالبساطة، والخلق الكريم عبر فيه عن ثراء ثقافته، وعمق انتمائه، وصدق مشاعره، وحميمية آسرة حببت إليه قراءه وأبناء شعبه الفلسطيني والعربي، وأكد بسلوكه كمثقف أن السلوك في ذروة تجلياته هو التعريف الحقيقي للمثقف، كان سميح هو النموذج والأمثولة، توفرت في شعره كل العناصر الفنية التي حولت معظم قصائده إلى أغاني وأناشيد، وأيقونات، وصارت مسيرته الشعرية على مدى أكثر من خمسة عقود سجلا لمسيرة كفاح شعبه، ووثيقة سياسية واجتماعية ونضالية لكل المحطات التاريخية التي مر بها الشعب الفلسطيني. من الصعب الإحاطة بسيرة ومسيرة سميح في هذه العجالة، فإبداع سميح الشعري يحتاج إلى دراسات وكتب وليس مقالة مقتضبة، ولعلي أختم كلامي بما هو شخصي، فقد رافقت فترة مرضه التي امتدت ثلاث سنوات ونصف، وكنت شاهدا على صراعه الشجاع مع المرض، وقدرته على الصمود، وقوة الحياة في روحه، فقد ظل يتحلى بمعنويات عالية، وكان لديه تصميم على الانتصار في هذا الصراع، فمنذ أن أخبرنا البروفسور جمال زيدان الذي أشرف على علاجه قبل ما يزيد على ثلاث سنوات أن حالته خطيرة، وأن أمامه ثلاثة شهور فقط قبل أن يودع الحياة، حاولت أيامها مع عدد من الأصدقاء إقناعه بسرعة إقامة حفل زفاف ابنه عمر التي تم تأخيرها بسبب مرضه، إلا أنه رفض وأصر على أن يكون الحفل في نهاية الصيف القادم، أي بعد تسعة شهور، كنا نود إدخال الفرح إلى قلبه، لكنه أراد أن يوحي لنا أنه سيعيش وينتصر على المرض، وبالفعل جاء الصيف، وأقيم حفل الزفاف، وتزوج ابنه عمر، وأنجب له بعد عام حفيدا وهو ينحاز إلى الحياة في مواجهة الموت، وخلال تدهور حالته في الآونة الأخيرة كنت أزوره، وكانت آخر زيارة في مستشفى صفد قبل ثلاثة أيام، وكان يومها في وضع مقبول، وعندما دخلت المستشفى وضعت على أنفي الكمامة التي يتعين وضعها لدى زيارة مريض يفتقر إلى المناعة، دخلت عليه وانحنيت لكي أقبل جبينه، فمد يده وأنزل الكمامة عن وجهي، وأصر على أن يقبلني. كنت أشعر في داخلي بأن هذا اللقاء ربما يكون الأخير، وأن حلاوة روحه هذه ناجمة عن مقاومته للموت، وفي جو مفعم بالحميمية سألني عن عائلتي وعن روايتي الجديدة التي سبق أن أخبرته إنها قيد الإعداد، وعن العدوان في غزة، وتحدثنا عن أولادنا وأحفادنا، وفوجئت به يطلب من ابنه وطن الذي كان موجودا، فوجئت بأنه يطلب من وطن أن يريني على هاتفه الذكي مقطع فيديو يظهر فيه وهو يداعب حفيده (سميح الصغير) ابن ولده عمر، في مشهد رائع يعيد سميح الجد إلى فرح طفولي ما مر بذاكرة شاعر. رحل سميح ولكنه ظل (باق في الرامة) كما ظل أميل حبيبي، الذي أوصى أن يكتب على شاهد قبره (باق في حيفا)، الرامة التي عاش بها مع عائلته، كما عاش بها آباؤه وأجداده، سميح اختار منذ أكثر من عشرة أعوام مكان دفنه وضريحه. اختار أرضا على تلة قريبة من بيته، وأعدها لتكون قبره وحديقته، يطل منها على سهول وتلال فلسطين وطبيعتها الساحرة التي خلقها الله منذ الأزل، سميح يذهب هناك ليموت كما تموت الغزلان، لينام هناك مثل حبة قمح تغفو في باطن الأرض الطيبة والحنونة المجبولة بمسك الشهداء.

عن "السفير" اللبنانية، 21 غشت 2014.