تلك هي أهم الأسئلة التي حاول هؤلاء المفكرون الإجابة عنها في هذا الملف الذي تنشره "أنفاس بريس" في حلقات:
يميل الكثيرون اليوم إلى تمجيد الماضي وتصدر عنهم عبارات أشبه بالآهات مثل "الأشياء لم تعد جميلة كما كانت من قبل"، "أيام العز" و"الزمن الجميل"، هل بالفعل ماضينا الفردي والجماعي كان أفضل من حاضرنا أم هل الأمر مجرد حنين ونوستالجيا وشعور نفسي يقينا ما نحس أنه صقيع الحاضر؟
يقينا أن ما نحس أنه صقيع الحاضر، كان إنسان الماضي كذلك يحس أنه صقيع حاضره. إن المسألة لا تتعدى كونها حنينا فقط، وإذا ما كان الحنين الى الماضي والنظر اليه في مثالية كاملة مقارنة مع الحاضر، فهنا اقول إن الماضي سواء بالنسبة للمغاربة أو المشارقة كان سيئا من حيث الأفكار والعادات التي يمكنني القول إنها كانت سبب تعاسة جيل كامل. المسألة هي مسألة تباين وتنافر بين أجيال فقط، أعطي مثالا على ذلك: أذكر أن جدتي كانت تفاخر أبي وتقول له: "زماننا أحسن من زمانكم، كم كنت أحب تربية دجاجاتي وتعطيني البيض البلدي، أما زمنكم فصار ممسوخا، تدخل علينا بالدجاج مذبوحا"، هذا مثال بسيط. مثال آخر، أبي الذي عابت عليه جدتي بمسخ زمنه الحاضر، هو نفسه كان يعيب على أخي الأكبر لأنه يستمع لعبد الحليم حافظ ولا يتذوق مثله موسيقى محمد عبد الوهاب، وهكذا دواليك..
إن عبارات الزمن الجميل وأيام العز تعكس إسقاطا نفسيا ومجرد نوستالجيا تؤشر على وجود تباين في الرؤى والمواقف والأذواق بين أجيال مختلفة، المشكل هو الخوف من أن يستغرقنا الماضي، أن نرى الحاضر متخلفا عن ماضينا، هنا يتحول الأمر إلى تخلف وتمجيد مجاني للأسلاف، وغلى خوف رهابي من المستقبل.
كيف تفسرين أن هذا الإحساس يبدو مشتركا بين عامة الناس كما خاصتهم، جلنا نتحدث بسعادة عن الزمن الجميل وأيام العز كما لو أن ذاكرتنا تخفي الجراح والأيام غير السعيدة في الماضي؟
أرى أن المسألة متعلقة بكل الناطقين باللغة العربية، وهذا ما نراه في المسلسلات وفي البرامج حيث تتردد كلمات من قبيل: الزمن الجميل، زمن الطيبين. لكن السؤال الذي يجب أن نطرحه، هل كان ماضينا حقا بهذه السعادة والجمال الذي نسقطها عليه؟ ألا يخفي تمجيدنا لما مضى من زمننا عجزا وتخلفا عن مسايرة الحاضرة وخوفا من مجابهة المستقبل؟
هل هذا الأمر تعبير عام لدى كل الشعوب وفي كل الأزمنة، حيث يُمكن الحديث عن الماضي بشكل إشراقي مساعدة الناس على حفظ هويتهم، بدل التغيرات الجارفة للزمن، أم هو خصيصة مغربية تمنح المغاربة شعورًا بالاستقرار والسعادة في عالم دائم التغير.. في كلا الحالتين ما خلفياته النفسية والسوسيولوجية؟
لا أرى أي حجة لأيام العز في الماضي إن على مستوى الماضي السياسي أو حتى الإعلامي خاصة.. فالماضي السياسي في المغرب مليء بالمآسي والأخطاء، وأنا شخصيا صادفت مناضلين سياسيين اعتبرهم سببا في تشويه الحاضر السياسي... أما على مستوى الإعلام، فالقناة الأولى وحتى دوزيم قد جرعتنا المرارة بسوء برامجها خاصة في رمضان حيث كانت تستغبي المشاهد المغربي وكانت حريصة على تدجينه، وهذا الحاضر ما زال امتدادا لذاك الماضي. شخصيا ليس لدي أي حنين للماضي السياسي بخاصة.
هناك وقائع تعطي مصداقية لأيام العز في الماضي، في السياسة نعيش زمن أفول الإيديولوجيا وغياب زعامات سياسية كما كان الأمر عليه بالأمس، ذات الشيء يقال عن تخلف وضعنا الإعلامي، وسيطرة ما أصبح الكل يصمه بالتفاهة في كل المجالات، وقس على ذلك مجالات القيم والأخلاق عامة، كيف تؤولون هذا الأمر هل هي فقط محض كبوة أو تراجع لحظي أم أننا دخلنا زمن الردة التي ترفع من قوة الحنين لأيام زمان؟
في هذه النقطة بالذات يمكنني الحديث عن مقابلة جيل لجيل، جيل قد يكون تشبث بعادات معينة وروتين أكل ولباس معين، ويأتي الجيل اللاحق بعادات مختلفة تشكل استغرابا للجيل الأول. هذا يجعلني أقول إن العادات والقيم والأخلاق لا تنزل من السماء، وإنما هي نتاج مصالح فردية ومجتمعية.
مثال أخر يؤكد هذا المنحى، كانت جدتي تضع اللثام وفي فترة من الزمن خلعته، فكانت جدتي تنظر لأمي على أنها لا تتمتع بالحياء، حين صارت لأمي ابنة التي هي أختي الكبرى أذكر أنها كانت تعيب عليها لباس السروال. أنا نفسي، صراحة لم أستطع استيعاب هذا التغيير الذي أراه في الأجيال الجديدة.. سرعة تحول خطيرة.. أشم فيها رائحة النفاق، وأحس أن القيم تغيرت... وهذا راجع ببساطة الى هذا الطوفان الرقمي الذي غزا العالم وأصبح دينا جديدا، التكنولوجيا لها دور إذا ما أحسسنا بهذه التغيرات التي طرأت علينا.
بالنسبة لي أعتقد أن الحاضر يحن للماضي والماضي بدوره كان يحن لماضي أجداده، والدائرة مستمرة ما دام الذي يحرك الإنسان هو العيش بأمان واستقرار ومحبة، وحين يفتقد هذه الأشياء والقيم يبحث عنها في الماضي ليرتاح نفسيا.