نشرت جريدة "العلم الأسبوعي" ملفا من إنجاز الزميل عبد العزيز كوكاس حول "الزمن الجميل"، شارك فيه مفكرون وباحثون في شتى مجالات المعرفة وأشكال التعبير، حيث فكك كل واحد منهم معنى "الزمن الجميل". كما رصدوا، كل من مجال اهتمامه، تحولات القيم وتغيرات البنيات الفكرية والسياسية والأخلاقية، فضلا عن الاختراق الذي تم على التمثلات الجماعية والسلوك العام.. (هل الماضي زمن جميل دائما؟ ما حدود النوستالجيا وما حدود النقد للماضي؟ هل هناك شعور عام بالاستقرار أم بالتحول؟ هل يمكن الاستكانة إلى الاستقرار في عالم دائم التحول؟).
تلك هي أهم الأسئلة التي حاول هؤلاء المفكرون الإجابة عنها في هذا الملف الذي تنشره "أنفاس بريس" في حلقات:
يؤكد المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي أن عبارة "الزمن الجميل" ليست شأنا مغربيا أو عربيا بل تكاد تكون قاسما مشتركا بين الإنسانية، مؤكدا أنها لدى العرب تكتسي خصوصية كبرى وذات تعميم ممتد في المجالات التي تشملها، وهو ما يعكس خللا ما في تصور أزمة مفهوم الزمان ذاته.
عبارة "الزمن الجميل" ليست حديثة العهد، كما أنها ليست وقفًا علينا، نحن العرب. الثقافات جميعها استعملتها وما زالت. فمنذ عهود خلت، ما انفكت الثقافات تنظر إلى ماضيها على أنه عصر ذهبي قياسًا إلى ما آل إليه حاضرها. يكفي أن نقرأ إحدى محاورات أفلاطون للتأكد من ذلك.
إلا أنه يبدو أن الأمر يأخذ بعض الخصوصية في ثقافتنا:
أولًا، للتزايد المستمر الذي صار عليه استخدام العبارة عندنا، فقد أخذت تتردد كثيرًا خصوصًا بعد ما عرف بالربيع العربي الذي يظهر أن كل ما جاء بعده خريف "غير جميل".
السبب الثاني، هو شساعة الميادين التي تُطلق عليها، إذ إن زمننا نحن يبدو أنه كان أجمل لغة وموسيقى وأدبًا وفكرًا وتربية وعلاقات اجتماعية، وأخيرًا للامتداد الذي يمتد به ذلك الزمن. عندما يقول لك العربي: "ذلك الزمن الجميل"، فليس كما يقول لك الفرنسي: "la belle Époque".. المساحة الزمنية التي يغطيها اللفظ العربي أكثر شساعة من تلك التي يشملها اللفظ الفرنسي الذي يظهر أنه ينعت فترة بعينها، وربما مجالًا بعينه، في حين أن الزمن الذي تحيل إليه العبارة العربية يكاد يغطي لا نهائية الماضي.
كثيرًا ما أبدى فلاسفة ومفكرون انزعاجهم من هذا التصور الكارثي لحركة الزمان، وذلك الإعلاء من مفهومي التدهور و "الأفول". وهم ما يفتؤون يذكّروننا بتلك العصور التي كانت تجبّ ما قبلها، وبتلك الفلسفات التي ظهرت في بعض الحقب لتعلن بالضبط، أن ما كانت عليه الأمور ينبغي تجاوزه، وأنها ستكون أحسن وأرقى وأكثر ازدهارًا فيما سيأتي. يكفي مثالًا على ذلك استذكار الأيديولوجيات التي رفعت مفهوم التقدم شعارًا. إذ لو كان "القنوط التاريخي"، واليأس من المستقبل هما الفلسفتين السائدتين لما عرفت الإنسانية ما عرفته من غزو للطبيعة جغرافيًّا وفلكيًّا وفيزيائيًّا وكيماويًّا وبيولوجيًّا.
عندما سئل الفيلسوف الفرنسي مشيل سير ذات مرة عن رأيه في عبارة "الأمور كانت أحسن مما هي عليه"، لم يُجب فيلسوفًا، لكنه اكتفى بأن ردّ على مستجوبه بأنه، كشيخ طاعن في السنّ، عاش نتائج الحربين العالميتين، وعاصر حرب إسبانيا والحروب الاستعمارية، وعاش فترة تاريخية عرفت موسوليني وهتلر وستالين وفرانكو وتشاوشيسكو وبولبوت، يستطيع أن يقول إن ما يعيشه من سلم، حيث كان وقتَها يفصله عن آخر حرب زهاء سبعين عامًا، كاف ليؤكد أن هذا الزمن الحالي "ليس الزمن الخطأ" على أيّ حال.
قد لا تكون تجربة شخصية، حتى وإن كانت لفيلسوف من مستوى م. سير، كافيةً لإقناعنا بسداد الرأي، ولكن لا ينبغي أن ننسى أن الرجل على دراية كبيرة بما عرفته مختلف فروع المعرفة العلمية من تطوّر، وبالضبط، خلال السبعين سنة قبل وفاته، وما كان لذلك من انعكاس على صحة البشر وأعمارهم، وعلى أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، وعلى تواصلهم وتنقلاتهم، وعلى أسباب الراحة جميعها التي غدت في متناول الإنسان.
وعلى رغم ذلك فيظهر أن المسألة تحتاج إلى طرح نظري، ولا تكفيها الشهادات الشخصية. ويبدو أن السؤال الذي يلزم أن يطرح في شأنها هو: متى تظهر مثل هذه العبارات التي ترى الحاضر "خطأً" وسوادًا قاتمًا، والماضيَ بياضًا ناصعًا؟ ولماذا تتردد اليوم بوتيرة غير معهودة، وخصوصًا في عالمنا العربي، حيث تتخذ حدة كبرى، ووتيرة معمّمة ترى أن إعلام الأمس هم الإعلام، وأن أدب الأمس هو الأدب، وأن فكر الأمس هو الفكر، وأن ترجمة الأمس هي الترجمة، وأن أخلاق الأمس هي الأخلاق، وأن سياسة الأمس هي السياسة، وأن حياة الأمس هي الحياة؟.
الظاهر أن الإجابة الممكنة لا بدّ، أولًا، أن تميّز مفهوم "الأزمة" عن مفهومي "التدهور" و"الأفول". وأن القائلين بمفهوم "الأفول" (Déclin) لا يكتفون بمفهوم "الأزمة". إذ أن الأزمة غالبًا ما تكون "منعشة"، كما أنها تكون محدودة الزمان، وخاصة بمجال معين.
الأمر الثاني هو أننا ينبغي أن ندخل في حسابنا النمط الثالث للزمان، أي نمط المستقبل. فحينما يتبدى الحاضر من غير آفاق، حين يختنق الحاضر ويكون حبيس أفق مسدود، لا يتبقى له إلا أن يلتفت إلى الوراء ليتحسر على ما فات فيتراءى له كل ما مضى مزدهرًا جميلًا. لعل هذا ما يبرر كون عصور النهضة والإنعراجات التاريخية الكبرى، حيث يسود الأمل في المستقبل، تبدو أكثر قساوة من باقي العصور على ماضيها، ولا ترى فيه مطلقًا "زمنًا جميلًا".
يكفي دلالة على ذلك، أن نذكر ما أبداه جيل مونتيني وديكارت إزاء الفلسفات القديمة، وما عبر عنه بعض فلاسفة الأنوار إزاء كل قديم.