أحمد الحطاب: هل البشرُ يحترمون الحياةَ بمدلولِها الروحي المقدَّس؟

أحمد الحطاب: هل البشرُ يحترمون الحياةَ بمدلولِها الروحي المقدَّس؟ أحمد الحطاب
الإجابة عن هذا السؤال الذي هو عنوان هذه المقالة تقتضي التَّذكير بأن الإنسانَ، ككائنٍ حيٍّ، يحيا في الدنيا، في نفس الوقت، ككائنٍ بيولوجي وككائنٍ اجتماعي.
كونُ الإنسان كائنا بيولوجياً يعني أن كل بني آدم أو كل البشر، من ذوي الأجسام السليمة، متساوون من حيث اشتغالَ أجسامهم، من الناحية البيولوجية والفيزيولوجية. وهذا يعني أن هذا الاشتغالَ متشابهٌ أو يتمُّ بنفس الطريقة من إنسانٍ إلى آخر. كل البشر، من ذوي الأجسان السليمة، يتنفَّسون بنفس الطريقة، يستفيدون من الأكل بنفس الطريقة، يجري في عروقهم الدَّمُ بنفس الطريقة، يُبصرون بنفس الطريقة، يسمعون بنفس الطريقة…، أي أن وظائفَهم الحيوية تشتغل بنفس الطريقة. بل إن الجسمَ البشري له القدرة على التكيُّف مع الظروف المناخية للوسط الطبيعي الذي يعيش فيه، من حَرّ، وبرودة، ورطوبة، وضغط، وجفاف، وعُلو… وهذا هو ما يجعل البشرَ قادرين على العيش في جميع مناطق الأرض كيفما كان مناخُها. من الناحيتين البيولوجية والفيزيولوجية، اشتغالُ كل أجسام البشر متساوي.
لكن، عندما ينتقل الإنسانُ من وضعه ككائن بيولوجي إلى وضعِه ككائنٍ اجتماعي، ترجع المساواة البيولوجية والفيزيولوجية إلى الوراء ويحلُّ محلَّها الاختلافُ الذي يصبح هو السائد من فردٍ إلى آخر أو من جماعة بشرية إلى أخرى. لماذا؟ لأن الاختلافََ هو، في الحقيقة، ناتِجٌ عن السلوك. والإنسانُ، إذا أراد أن يتساكنَ مع أندادِه، في المجتمع، يجب أن يتخلَّى عن غريزته ويكونَ سلوكُه ناتِجاً عن نشاطِه العقلِي.
إذن، الإنسان، بحكم طبعه الاجتماعي، مفروضٌ عليه أن تكونَ تصرُّفاتُه داخلَ المجتمعات متلائمة مع متطلَّبات التّساكن والتَّعايش. وعندما أقول "ترجع المساواة البيولوجية والفيزيولوجية إلى الوراء"، فهذا لا يعني أنها تختفي. لا أبدا! لأن الوظائف الحيوية تستمر في الاشتغال لأنها هي التي تضمن استمرارَ الحياة. فالإنسان لا يفكِّر في تنفُّسه وفي هضمه وفي جريان الدَّم في أوعِيتِِه وفي دقات قلبه… لأن هذه الأشياء وظائف تلقائية fonctions automatiques ou fonctions spontanées (لاإرادية involontaires).
لكن الإنسانَ يفكِّرُ كيف سيتضرَّف في المجتمع وكيف سيتصرَّف مع الآخرين وكيف يكون تساكُنُه مع الأنداد سليما ومنتِجا وفعالا ومسالِما… فإذا أراد الإنسان أن يُمارسَ طبعَه، ككائن اجتماعي، فعليه أن يكونَ رزينا، مستقيما، متسامحا، متضامنا، مُحِِبّاً للخير وللآخرين…، أي أن يتبنى هذا الإنسانُ كل القيم الإنسانية الضامنة لحسن وسُمُوِّ التَّساكن والتَّعايش.
غيرَ أن ما نراه ونشاهده ونعيشُه من سلوكٍ بشري في المجتمعات الحالية لا يبعث على الارتياح، بل لا يتوافق مع متطلَّبات حُسن التَّساكن والتَّعايش. وعندما أتحدَّث عن السلوك، فالمقصود هو سلوك الأفراد والجماعات والبلدان (الدول). وعندما أتحدَّثُ عن سلوك الدول، فالمقصود هو سلوكُ حُكَّام هذه الدول. وما تجب الإشارةُ إليه، في هذا الصدد، سواءً على مستوى الأفراد والجماعات أو على مستوى الدول، هو أن الخيطُ الناظم لبني البشر هو تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. وهذا يعني أن فردا أو جماعةً أو بلدا بأكمله ما يهمُّهم هو تحقيق المصلحة الخاصة ولو تمَّ ذلك على حساب مصلحة الآخرين. وخيرُ مثال يمكن سياقُه هنا، على مستوى البلدان، هو الصِّراع الاقتصادي القائم بين الولايات المتحدة والصين. هنا، كل بلد لايفكِّر إلا في مصلحتِه ولا تهمُّه انعكاسات هذا الصِّراع على باقي بلدان العالم.
قد يقول قائلٌ إن السَّعيَ لتحقيق المصلحة الخاصة، أمرٌ مشروع. نعم وبكل تأكيد! من حق كل فردٍ أو جماعة أفراد أو بلدٍ بأكمله أن يسعوا إلى تحقيق المصالح الخاصة، سواءً كانت مادية أو معنوية. هذا أمرٌ لا جدالَ فيه ولا يُنكِره أحدٌ! لكن، أن تُحقَّقَ المصالحُ الخاصةُ على حساب مصلحة الغير أو على حساب المصلحة العامة، فهذا شيءٌ غير مقبول.
وهذا النوع من البشر، الأناني بامتياز، منتشر في كل أرجاء المعمور. وهذه الأنانية، إما أن تكونَ فردية أو جماعية. وعندما تكون جماعيةً، فإنها، في غالب الأحيان، تحُثُّ البشرَ على اللجوءِ إلى طرقٍ غير مشروعة لتحقيق المصالح الخاصة، علما أن هذه الطرق تُسيء لحسن التَّساكن والتَّعايش. وهذا شيءٌ غير مقبول إنسانيا، أجتماعياً، أخلاقيا ودينيا.
غير مقبول لأن حُسنَ التَّساكن والتَّعايش هو الركيزة الأساسية لعيش البشر داخلَ المجتمعات أو لإقامة علاقات مفيدة وبنَّاءة بين الدول. غير مقبول لأن تحقيقَ المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة وبطرق غير مشروعة، يُؤدي إلى إلغاء القيم الإنسانية السامية وتعويضها بالنفاق والكذب والتَّحايل والتَّحريف والتَّزوير والتَّملُّق والمحسوبية والزبونية…، أي كل الرذائل التي تسيء لحُسن التَّساكُن والتَّعايش بين الأفراد والجماعات البشرية وبين البلدان.
ولعلَّ أبشعَ وأقبحَ وأدَمَّ وأشنعَ رذيلة هي وضعُ حدٍّ لحياة البشر أو، بعبارة أوضح، قتلُ البشرِ أو حِرمانُهم من أغلى ما وهبهم الله، الحياة. والحياة، بمعناها الروحي، تحظى بتقدير إلَهِي لا مثيلَ له مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا (الإسراء، 33). وكدليلٍ على التَّقدير الإلهي للحياة هو أن اللهَ سبحانه وتعالى يوصي، في هذه الآية، وليَّ المقتول أن لا يبالغَ في القتل انتقاما من القاتل.
والتَّقدير الإلهي للحياة البشرية، يقابلُه، مع الأسف، على وجه الأرض، تبخيسٌ وعدمُ احترامٍ لهذه الحياة. لقد أصبح القضاءُ على الحياة البشرية واستئصالُها من الوجود، من طرف الإنسان، شيئين عاديين لا يُثيران أيَّ اشمئزازٍ  أو أيَّ ندمٍ. قد تُلغى الحياة البشرية من الوجود بدافع الانتقام أو بدافع الحسد أو بدافع البُغض أو بدافع الكراهية أو بدافع السرقة أو بدافع الاستيلاء على حقوق الغير أو بدافع تصفية الحسابات أو بدافع الاستيلاء على السلطة أو بدافع اختلاف الآراء أو بدافع اختلاف الأديان…
أما قمة عدم احترام الحياة البشرية، فهو ذلك المترتِّب عن الحروب كيفما كانت أسبابُها. ومن ضمن أسبابِها، الهيمنة الجيوسياسية (حرب أوكرانيا)، صراع الأديان (الحروب الصليبية، les croisades)، التَّسابق نحو السلطة (الحروب الإفريقية)، صراع الطوائف والمذاهب (حرب اليمن)... علما أن الأبرياء هم الذين يؤدون ثمنَ هذه الحروب.
أما خير مثالٍ يمكن سياقُه حاليا لقتل الأبرياء ولقتل الإنسان من طرف الإنسان، يتمثَّل في الحرب الهمجية، الوحشية، اللاأخلاقية واللأإنسانية التي يشنُّها الصهاينة على غزة. إن هؤلاء الصهاينة يتعاملون مع الحياة البشرية الفلسطينية كأدنى شيءٍ يجب التَّخلُّصُ منه، متجاهلين ما تنصُّ عليه المواثيق الدولية وحقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة وكذلك ما تنص عليه الأديان السماوية…
ومتجاهلين، كذلك، أن اللهَ سبحانه وتعالى وهب الإنسانَ الحياةَ والعقلَ وأمره أن يعمِّرَ الأرضَ. وليُعمِّرَ الأرضَ طِبقا لِما أراده اللهُ لعباده من خير ونفع ومصلحة عامة، على هذا الإنسان أن ينتشرَ في أرجاء المعمور مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ" (الروم، 20). بَشَرٌ ينتشرون، بالطبع، في الأرض لينتظموا على شكل مجتمعات تختلف بعضُها عن البعض لغةً وثقافةً والوناً، مصداقا لقوله عزَّ وجلَّ : "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ" (الروم، 22). الملاحظ في هذه الآية، هو أن اللهَ سبحانه وتعالى، يقول : "إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ". و وُرود كلمة "للعالمين" في آخِرِ الآية، يدلُّ على أن اللهَ سبحانه وتعالى يوجِّه كلامَه للبشر جميعا، أي بدون تمييز.
واختلاف ألسُنِ البشرِ وألوانِهم، بل اختلاف أديانهم، لا يمنع من تساكُنِهم في مجتمعات يسود فيها الخير والتَّعاملُ الطيب مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات، 13). والانبياءُ والرُّسلُ بعثَهم اللهُ سبحانه وتعالى ليتمَّ هذا التَّساكنُ في أحسن الأحوال وطِبقا لِما أراده اللهُ من خيرٍ، عبر الرسالات السماوية. وهذا هو ما تُشير له كلمة "لِتَعَارَفُوا" في الآية رقم 13 من سورة الحجرات. والتَّعارف يتمُّ عبر التواصل والتَّصاهر والتًّساكن والتَّعايش…
غير أن عالمَ اليوم انحرف عن كل القيم، سواءً تلك التي أتت بها الرسالات السماوية أو تلك التي أنشأها الإنسانُ من أجل ضمان حُسن التَّساكن والتَّعايش إلى درجة أن هذا الانحراف أدى إلى اعتبار الحياة كشيء بخس يمكن التَّخلُّصُ منه كلما دعت ضرورةُ تحقيق المصالح الخاصة ذلك. لقد أصبح شعارُ شريحة عريضة من الناس والجماعات البشرية وحكام كثير من البلدان : "أنا ومن بعدِيَ الطوفان". ما تطمح له البشرية من خيرٍ وأمنٍ وأمانٍ، بعيد كل البعد عن ما يجري في الواقع. فلننظر فقط إلى ما يجري في بِرمانيا Birmanie من إبادةٍ للمسلمين السُّنِّيين المعروفين باسم الروهينكيا Rohingyas.