عبد السلام بنعبد العالي: الحروب النظيفة والحروب الوسخة

عبد السلام بنعبد العالي: الحروب النظيفة والحروب الوسخة عبد السلام بنعبد العالي
هل هناك فرق بين أن تقتل طفلا من أعالي السماء، وبين أن ترديه قتيلا وأنتما على الأرض؟ بعض المحلّلين الغربيين يلجؤون إلى تحايلاتهم اللفظية المعهودة، فيردّون بأن القتل من فوق عملية "نظيفة"، أما القتل الثاني فيدخل ضمن إطار الحروب "الوسخة". وفي رأيهم إن تحديد طبيعة الحروب لا ينبغي أن يتمّ بمعرفة نتائجها وما يتمخّض عنها، من قتل للأبرياء وتشريد للأسر وتدمير للعمران، وإنّما بالوسائل التي توظّفها، وأساسا بطبيعة العلاقة بين الجندي وأهدافه. هذا ما يحدّد، في نظرهم، الفرق بين الحرب "الطّاهرة" ونظيرتها "القذرة".
 
الطيّار الذي يوجه قذائفه من الأعالي لا يمكن، في نظرهم، أن يحاسب على أفعاله بالكيفية نفسها التي يحاسب بها جنديّ الأرض. فهذا الطيّار لا يحسّ بالضبط أنّه يخوض غمار معارك، ويشنّ حربا فعلية تقتل بشرا وتهدّم مساكن، وتشتّت أسرا، وتحرق أبرياء. ربما، لولا طبيعة الطائرة التي يركبها، واللباس الذي يرتديه، لما أحسّ هذا الطيار بأنّه جندي في معركة. وعلى أيّ حال، فهو لا يُعدّ "جنديا في معركة" بالمعنى المعهود، بل لا ينتظر منه بتاتا في الوضع الذي هو فيه، أن يكون جنديا، فلا يُطلب منه ما يطلب عادة من كل جندي من أن يبين عن حنكة وإقدام وصبر ودربة، وقوة وشجاعة. ما يطلب منه، ليس أن يقتل ويقاتل، وإنما أن يتعامل مع شاشة ترسم له أهدافا حدّدت مواقع وفق دوالّ رياضية. فلا يكون عليه أن يصيب أهدافا "حقيقية"، أو يقتل بشرا، أطفالا أكانوا أم كبار سنّ، ليس عليه إلا أن "يتعامل" مع الشاشة، مثلما كان يتعامل مع مثيلتها عندما كان طفلا يلعب على "الأرض".

سماؤه التي ينزل من فوقها وابل قذائفه، ليست هي السّماء التي نتوجّه نحوها نحن، سماء الإله الغفور الرّحيم، الذي "يغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء"، وإنّما هي سماء إله ديكارت، أبي الفلسفة والعلم الحديثين، الإله الضامن لليقين. فلا يمكن، والحالة هذه أن نفترض سوء نية عند هذا الذي ينظر إلينا منها، فلا يرى أرضنا إلا نقاطا على شاشته الصغيرة، ولا يرى لا أمّهات ولا أطفالا.
 
إنّه إذن لا يواجه أعداء، ولا يقتل أرواحا، ولا يحسّ  بأيّ  إحساس، وبالأحرى بالظّلم والعدوان. إنه "خارج" حساباتنا، نحن سكان هذه "الأرض الوسخة". وحتى سماؤه التي ينزل من فوقها وابل قذائفه، ليست هي السّماء التي نتوجّه نحوها نحن، سماء الإله الغفور الرّحيم، الذي "يغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء"، وإنّما هي سماء إله ديكارت، أبي الفلسفة والعلم الحديثين، الإله الضامن لليقين. فلا يمكن، والحالة هذه أن نفترض سوء نية عند هذا الذي ينظر إلينا منها، فلا يرى أرضنا إلا نقاطا على شاشته الصغيرة، ولا يرى لا أمّهات ولا أطفالا. فلا يحقّ لنا، بالتالي، أن ندّعي أنّ الشيطان جرّه نحو ارتكاب المكروه، وقتل الأطفال، وارتكاب الكبائر. حتّى إن كان ولا بدّ أن نذكر الشّيطان في هذا المقام، فليس ذاك الذي يدفع نحو المعاصي، وإنّما هو الشيطان الماكر الذي بإمكانه أن يضلّل ويخادع، ويبعد الطيّار عن أهدافه، فيوقعه في الخطأ. إنه إذن ليس إبليس، وإنما شيطان المعرفة الذي افترض ديكارت أنه يخادعه.
 
وربما أمكن أن نقول اليوم، حتى هذا الشيطان المعرفي لم يعد يعمل إلا نادرا جدا. فتطور التكنو-علم المعاصر أعفى شيطان ديكارت من أعماله المضلة، أو لنقل إنه قلّص مفعولها، فقلما يرمي طيارنا قذائفه بعيدا عن مراميها، قلما يضيعها من غير نتيجة و"دون فائدة". فلا بدّ لها "من فائدة"، لا بدّ لها أن تصيب وتدمر وتقتل وتحرق. لا بدّ وأن "تنزل" نحو الأرض. لكنها ليست الأرض المعمورة التي يقطنها البشر، ليست الأرض "القذرة" التي تقسَّم إلى أوطان، ويسكنها بشر لهم ذكريات وأحلام، وعلاقات حبّ  وعطف وتوادد، وإنّما هي الفيزيس، أي الطّبيعة الدّيكارتية-الغاليلية التي "تتكلّم مثلثات ومربعات"، والتي هي امتداد، "أي أبعاد ومسافات ونسب. وهي بالضبط النّسب التي تمثُل على شاشة الطيارة، حيث "تسكن" الأهداف التي ينبغي "الوصول" إليها. 
 
عندما ينعت بعض المحللين الغربيين إذن، هذه الحرب التي يخوضها هؤلاء الطيارون الذين يرمون من "الأعالي" بقذائفهم، فيقتلون الأطفال والشيوخ والنساء، بأنها حرب "طاهرة"، فإنهم يعنون أن صاحب القذف ومرماه، والسماء التي ينزل منها، و"الإله" المتحكم فيها، والشيطان المتربص بها، والأرض التي يتّجه صوبها، إن كل هذا لا علاقة له بأهداف الجنود "الحقيقيين" وسمائهم و"إلههم" وأخلاقهم وإحساساتهم، وقتلهم ودمائهم، جنود الأرض الذين يخوضون حروبا "وسخة"، تنقض على ضحاياها، فـ"تسفك" دماءهم، و"تشتت" أشلاءهم، ولا تكتفي برمي قذائف وتوجيهها نحو نقاط مرسومة على شاشة صغيرة من غير أن تحس ولا أن "ترى" دماء مسفوكة، ومباني محطمة، وأسرا مشردة، وأطفالا مقتولين.